23 ديسمبر 2018
الإسلاميون وكابوس ما بعد داعش
في مطلع القرن الحالي، بعد هجمات 11 سبتمبر، قاد الغرب حملة على ما سمّاها منابع الفكر الإرهابي الذي تغذيه "القاعدة". وكانت "القاعدة"، المحصورة في أفغانستان خصوصاً، تمثل جزءا أساسيا من حراك أصحاب التوجه السلفي نحو تمكينه، فكراً ومنهج حياة في مواجهة "التمييع" الذي تسببت فيها توجهات فكرية ذات مرجعية إسلامية، قادها "الإخوان المسلمون"، على حد وصف قيادات سلفية عدة في العالمين العربي والإسلامي. فكر القاعدة الذي ربما يمثل المرحلة الثالثة (على اعتبار أن الفكر الإخواني يمثل الثانية بعد ظهور إصلاحيين، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده) في حراك أصحاب التوجهات ذات المرجع الإسلامي، انتشر قرابة عقدين، متخذا من أفغانستان، كقاعدة عسكرية وفكرية، مقراً له، لنشر هذا الفكر بين الشباب المسلم.
الإغراء بحمل السلاح والمواجهة بالقوة كان السلاح الأبرز في مواجهة النموذج الإخواني "الذي لم يعد يسمن ولا يغني من جوع، في مواجهة بطش الأنظمة الديكتاتورية"، بحسب مرجعيات الفكر السلفي الذي أضيفت إليه صفة "الجهادي" لاحقاً لتمييزه عن عموم التيار السلفي. كان لهذا التيار نشاط واضح وكبير، في نهاية تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، حتى بات الأبرز في النقاشات الفكرية على المنتديات الإلكترونية (البدايات الأولى لوسائل الإعلام الاجتماعي)، وتفوق، في تقديري، على معظم المنتديات الإخوانية في اجتذاب الشباب للنقاشات الفكرية التي باتت فيها الغلبة لتيار ناشط وفاعل في مواجهة مدرسة فكرية، ذات مرجع إسلامي (إذ أتحفظ على استخدام مصطلح "إسلامي")، قديمة توقف بها الزمن بعد رحيل الرعيل الأول للجماعة. ذاك النشاط على المنتديات الإلكترونية، وشهدته بنفسي على مدار سنوات، كان له الأثر الواضح في تمهيد الأرضية لانتشار هذا الفكر من أفغانستان إلى غالبية الدول العربية والإسلامية، وحتى الغربية، بشكل متفاوت.
هذا الفكر الذي أثار الغرب حوله لغطاً كثيراً، وفسره بمفهوم أمني بحت، أدخل الفيل إلى المزرعة، وتبعته في ذلك أنظمة عربية وإسلامية، في محاولات لم تخل من السذاجة والسطحية، في التعامل مع ظاهرة فكرية، أكثر منها أمنية. تسبب هذا السلوك في نتائج عكسية بالمطلق، وعلى الرغم من تحقيق نجاحات تصلح للبهرجة الإعلامية وللعلاقات العامة أكثر من نجاحها في معالجة الأمر بطريقة مختلفة، فقد نجحت، بشكل مباشر وغير مباشر، على "تفتيت" الكتلة الكبرى للقاعدة، لكنها، في الوقت نفسه، كانت كمن عمد إلى تفتيت كتلة بكتيرية بطريقة التفجير، فهو ينشرها أكثر من أن يحتويها، وهو ما حدث بالفعل. فقد برزت ظاهرة تجنيد الشباب، ذوي الأصول المسلمة في الغرب الذي لم يعش أساسا في دول إسلامية، ليشنوا حملة رعب بتفجيرات إرهابية في الأماكن العامة. وهو ما ينطبق، أيضاً، على دول عربية عدة، ليس لديها دوماً إلا دواء واحد لأي داء، "القمع الأمني".
كان "الإخوان المسلمين" كتنظيم يشكلون هاجسا أمنيا لعدد من الدول العربية، وعملوا على مدار عقود لمحاربته، نظرا أيضا لتسببه في تفريخ خلايا صغيرة، ذات توجهات فكرية متطرفة، فضلا عن أنه منظومة توازي الدولة، من حيث المكونات والولاءات. وكانت النتيجة ظهور تنظيم متطرف فكرياً هو "القاعدة".
لم يتعلم العالم الدرس، وتعامل بالمنطق نفسه مع هذا التنظيم، ليفرخ تنظيما أكثر تطرفاً وأشد ضراوة، وأسرع تأثيراً في شريحة من الشباب العربي والمسلم الغاضب على كل الظروف المحيطة به، والتي تدفعه دفعاً نحو التطرف، وأخذ المبادرة بالعنف، لمحاولة تحقيق ما عجز عن تحقيقه الشباب الذي خرج سلمياً إلى الشوارع قبل أعوام قليلة، مطالبا بحياة أفضل. ونجح التنظيم المتطرف في استقطاب هذه الشريحة الغاضبة لحمل السلاح، متوهماً أنه سيحقق به ما عجز الآخرون عن تحقيقه.
وعلى الرغم من أن الغضب من الظروف القائمة قد يشكل مدخلاً سهلاً للوقوع في براثن هذا التطرف، لكنه ليس مبرراً بأي حال، ويقدم تفسيرا منطقيا لماذا نجح هذا التنظيم، الأكثر وحشية في التعامل مع البشر والحجر والشجر، في استقطاب آلاف الشباب من شتى أصقاع الأرض، وانتشر في ظرف عامين، مستبدلاً فكر القاعدة، ومتهما إياه أنه ليس "عنيفا" بما يكفي لتحقيق المآرب التي تبدو هلامية، ولا يعرف ما غايتها.
حلم إنشاء الدولة "الإسلامية" الأقرب إلى التفسير الأفلاطوني للمدينة الفاضلة في وصفها وتفاصيلها، تبدو قرص العسل الذي يدفع بهؤلاء الشباب إلى الهروب إلى الأمام، والقفز في الهواء، على أمل أن يتحقق الحلم على أنقاض الرؤوس المقطعة، والأجساد المحترقة، وهدم كل ما يتعلق بتطور فكر الإنسان ورقيه، في التعامل مع حضارات الآخرين واحترام الرؤى والتفسيرات المتباينة.
ما بات ضرورة ملحة، أن يقف أصحاب التيارات ذات المرجعية الإسلامية بعض الوقت، للتأمل في مجمل الأدبيات التي تتنازعها تناقضات كثيرة، أو عفا على كثير منها الزمن، أو عجز بعضها عن إثبات واقعيته، أو توافقه مع روح العصر ومستجداته. وقد أثبت التعامل الأمني، بوضوح، فشله في التعامل مع الأفكار، وهو ما يتحمل شطره الأكبر التيارات ذات المرجعية الإسلامية، إضافة إلى الدول التي تتصدر محاربة التطرف في أشكاله كافة. لم يعد نوعا من الترف التعامل مع هذا الأمر، بشكل أكثر حكمة. لكن، ليس مقبولاً أن تتنصل التيارات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية من مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية، حتى لا نصحو يوما على كابوس أبشع من "داعش".
الإغراء بحمل السلاح والمواجهة بالقوة كان السلاح الأبرز في مواجهة النموذج الإخواني "الذي لم يعد يسمن ولا يغني من جوع، في مواجهة بطش الأنظمة الديكتاتورية"، بحسب مرجعيات الفكر السلفي الذي أضيفت إليه صفة "الجهادي" لاحقاً لتمييزه عن عموم التيار السلفي. كان لهذا التيار نشاط واضح وكبير، في نهاية تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، حتى بات الأبرز في النقاشات الفكرية على المنتديات الإلكترونية (البدايات الأولى لوسائل الإعلام الاجتماعي)، وتفوق، في تقديري، على معظم المنتديات الإخوانية في اجتذاب الشباب للنقاشات الفكرية التي باتت فيها الغلبة لتيار ناشط وفاعل في مواجهة مدرسة فكرية، ذات مرجع إسلامي (إذ أتحفظ على استخدام مصطلح "إسلامي")، قديمة توقف بها الزمن بعد رحيل الرعيل الأول للجماعة. ذاك النشاط على المنتديات الإلكترونية، وشهدته بنفسي على مدار سنوات، كان له الأثر الواضح في تمهيد الأرضية لانتشار هذا الفكر من أفغانستان إلى غالبية الدول العربية والإسلامية، وحتى الغربية، بشكل متفاوت.
هذا الفكر الذي أثار الغرب حوله لغطاً كثيراً، وفسره بمفهوم أمني بحت، أدخل الفيل إلى المزرعة، وتبعته في ذلك أنظمة عربية وإسلامية، في محاولات لم تخل من السذاجة والسطحية، في التعامل مع ظاهرة فكرية، أكثر منها أمنية. تسبب هذا السلوك في نتائج عكسية بالمطلق، وعلى الرغم من تحقيق نجاحات تصلح للبهرجة الإعلامية وللعلاقات العامة أكثر من نجاحها في معالجة الأمر بطريقة مختلفة، فقد نجحت، بشكل مباشر وغير مباشر، على "تفتيت" الكتلة الكبرى للقاعدة، لكنها، في الوقت نفسه، كانت كمن عمد إلى تفتيت كتلة بكتيرية بطريقة التفجير، فهو ينشرها أكثر من أن يحتويها، وهو ما حدث بالفعل. فقد برزت ظاهرة تجنيد الشباب، ذوي الأصول المسلمة في الغرب الذي لم يعش أساسا في دول إسلامية، ليشنوا حملة رعب بتفجيرات إرهابية في الأماكن العامة. وهو ما ينطبق، أيضاً، على دول عربية عدة، ليس لديها دوماً إلا دواء واحد لأي داء، "القمع الأمني".
كان "الإخوان المسلمين" كتنظيم يشكلون هاجسا أمنيا لعدد من الدول العربية، وعملوا على مدار عقود لمحاربته، نظرا أيضا لتسببه في تفريخ خلايا صغيرة، ذات توجهات فكرية متطرفة، فضلا عن أنه منظومة توازي الدولة، من حيث المكونات والولاءات. وكانت النتيجة ظهور تنظيم متطرف فكرياً هو "القاعدة".
لم يتعلم العالم الدرس، وتعامل بالمنطق نفسه مع هذا التنظيم، ليفرخ تنظيما أكثر تطرفاً وأشد ضراوة، وأسرع تأثيراً في شريحة من الشباب العربي والمسلم الغاضب على كل الظروف المحيطة به، والتي تدفعه دفعاً نحو التطرف، وأخذ المبادرة بالعنف، لمحاولة تحقيق ما عجز عن تحقيقه الشباب الذي خرج سلمياً إلى الشوارع قبل أعوام قليلة، مطالبا بحياة أفضل. ونجح التنظيم المتطرف في استقطاب هذه الشريحة الغاضبة لحمل السلاح، متوهماً أنه سيحقق به ما عجز الآخرون عن تحقيقه.
وعلى الرغم من أن الغضب من الظروف القائمة قد يشكل مدخلاً سهلاً للوقوع في براثن هذا التطرف، لكنه ليس مبرراً بأي حال، ويقدم تفسيرا منطقيا لماذا نجح هذا التنظيم، الأكثر وحشية في التعامل مع البشر والحجر والشجر، في استقطاب آلاف الشباب من شتى أصقاع الأرض، وانتشر في ظرف عامين، مستبدلاً فكر القاعدة، ومتهما إياه أنه ليس "عنيفا" بما يكفي لتحقيق المآرب التي تبدو هلامية، ولا يعرف ما غايتها.
حلم إنشاء الدولة "الإسلامية" الأقرب إلى التفسير الأفلاطوني للمدينة الفاضلة في وصفها وتفاصيلها، تبدو قرص العسل الذي يدفع بهؤلاء الشباب إلى الهروب إلى الأمام، والقفز في الهواء، على أمل أن يتحقق الحلم على أنقاض الرؤوس المقطعة، والأجساد المحترقة، وهدم كل ما يتعلق بتطور فكر الإنسان ورقيه، في التعامل مع حضارات الآخرين واحترام الرؤى والتفسيرات المتباينة.
ما بات ضرورة ملحة، أن يقف أصحاب التيارات ذات المرجعية الإسلامية بعض الوقت، للتأمل في مجمل الأدبيات التي تتنازعها تناقضات كثيرة، أو عفا على كثير منها الزمن، أو عجز بعضها عن إثبات واقعيته، أو توافقه مع روح العصر ومستجداته. وقد أثبت التعامل الأمني، بوضوح، فشله في التعامل مع الأفكار، وهو ما يتحمل شطره الأكبر التيارات ذات المرجعية الإسلامية، إضافة إلى الدول التي تتصدر محاربة التطرف في أشكاله كافة. لم يعد نوعا من الترف التعامل مع هذا الأمر، بشكل أكثر حكمة. لكن، ليس مقبولاً أن تتنصل التيارات الفكرية ذات المرجعية الإسلامية من مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية، حتى لا نصحو يوما على كابوس أبشع من "داعش".