يمارس الخطاب الإعلامي في فرنسا "عنفاً" غير مسبوق على حركة "السترات الصفراء"، وبشيء من التعالي والهجوم يقدم صورة مخيفة عن الحراك الشعبي الذي يطالب بحزمة من الإصلاحات الحكومية، بينما يتصاعد الجدل حول إصابة ناشطة تبلغ من العمر سبعين عاماً بجروح بالغة في مدينة نيس.
مع نشوء الحركة الشعبية ونزولها إلى الشارع تعاطت وسائل الإعلام الفرنسية بحذر، ما لبث أن خف تدريجياً، ترافقه إيقاعات من الحماس. إذ جندت هذه الوسائل خطابها اليومي لدعم مسار الحراك معتبرة إياه "حراك الطبقات المهمشة والمنسية من قبل الحكومة"، مركزة على مشاركة الفنانين والإعلاميين والمشاهير عبر التغريدات على "تويتر" أو نزولهم إلى الشارع ونقل تصاريحهم، إضافة إلى تصاريح الناشطين في الحراك.
وتعاملت بنقلها المباشر عبر شاشات التلفزة أو من خلال المواقع الإلكترونية ببعض من الشفافية التي شابها الحذر من مشاهد العنف الذي ظهرت في البداية كردة فعل. لكن التفسيرات التي جاءت في صيغتها الأولية ما لبث أن تعاطى معها الإعلام بلهجة عالية، محذراً من مخاطر العنف والتكسير والتحطيم الذي نفذته مجموعات من الحراك، خصوصاً بعد تعرض قوس النصر ومكاتبه وبعض التماثيل التاريخية للتهشيم.
هوامش العنف
وفي الجولة الرابعة تغير الخطاب إعلامياً. فمن اللوجستيات التي عملت على إظهار مشاعر الناس ومطالبهم وهمومهم، إلى التركيز على "هوامش" العنف وتضخيمها أحياناً، وإظهارها في "ماكينة" مدروسة وبمواقيت استغلت كل الظروف الممكنة والمشاهد وسجلتها وبثتها في خدمة سياسة حكومة إيمانويل ماكرون التي أظهرت من اللحظة الأولى نيتها العميقة إلى "شيطنة الحراك" عبر تجنيد الإعلام وتخويف المواطن الفرنسي المتعاطف في البداية مع الحراك ومطالب الناس. لكن ما لبثت أن أثبتت هذه الأجندة المحكمة تدريجياً.
وقد قُدمت الصورة العنفية للحراك عبر وسائل الإعلام القريبة من الحكومة والبعيدة عنها، على أنه "مستشرٍ"، كما وصفت يوماً صحيفة "لوفيغارو" التكسير في خلفية التظاهر السلمي. وهي صورة تقارب أيضاً وجهاً من وجوه الاحتجاج ضد الطبقة الغنية المحسوبة والمستفيدة من سياسات الحكومة والغلاء وتزايد وتيرة الضرائب مع تراجع بعض التقديمات الاجتماعية، وهو أكبر هموم النازلين إلى الشارع.
موت السلمية
لكن في الأسبوع الأخير، وبعد الجولة الـ 18 للحركة، بدا الخطاب في وسائل الإعلام الفرنسية شبه موحد على "تحطيم الصورة السلمية للحراك"، أو ما يسمى اليوم "موت السلمية"، واختزال الحراك بالعنف والفوضى، واتهامه بعرقلة حياة الفرنسيين كل يوم سبت، وكأن هذا الحراك خارج عن حياة الفرنسيين ولا يعبر عن شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي الذي يعاني من "تركة" السياسات الماكرونية، اقتصادياً واجتماعياً.
وكتب برونو فرابات في صحيفة "لاكروا" بعنوان ولهجة آمرة متوجهاً إلى "السترات الصفراء": "هذا يكفي أيتها السترات الصفراء!". وأضاف فرابات: "لقد حان الوقت الذي نود فيه القيام بشيء آخر يوم السبت، بدلاً من السؤال في أي منطقة في باريس أو في أي مدينة فرنسية ستستعرض السترات الصفراء عضلاتها أو تتوقف. إنها طاقة حيوية كافية تم إنفاقها".
كلام برونو فيه شيء من توصيف يجعل اللغة الإعلامية تتطابق مع تململ الشارع الفرنسي، وهي محاولة للإجهاز على الحراك بعد أن حوطته الهالة الأمنية والحكومية برزمة قرارات وطوقته إلى درجة "منع التظاهر" وتركت العنف يظهر بكل هذه الفجاجة من أجل كسر الصورة السلمية الذي حاول المنظمون على قدر كبير الحفاظ عليها. وقد حاز بعض المواطنين الفرنسيين على مخالفات تقدر قيمتها بثلاثة ثلاثين يورو، فقط لأنهم ارتدوا بزات السترات الصفراء.
بلطجية الحراك
وفي هذه الأجواء، ظهرت على السطح قضية ناشطة سبعينية قيل إنها تعرضت للضرب من قبل الشرطة في مدينة نيس، وهو ما دفع ماكرون إلى تمني الشفاء العاجل لها لكنه أردف آملاً: "أن يكون لديها بعض الحكمة"، في إشارة إلى أنه لا يمكنها تجاوز الحواجز الأمنية من دون اعتراض الشرطة لها.
ويتزامن هذا مع تكريس صفحات في الجرائد الفرنسية لإظهار الأضرار وآثار التظاهرات على التجار والمرافق العامة. إذ ركزت صحيفة "لوموند" في تقرير موسع على صرخات التجار في شارع الشانزليزيه، حيث معترك التظاهرات الرئيسية ورمزيتها. ووصفت "لوموند" في تقرير أعده فيكتور اسحاق آن، المتظاهرين بـ "البلطجية"، وهو مصطلح نعرفه في عالمنا العربي بقوة وحضر في وسائل الإعلام والخطابات المضادة في كثير من الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي.
تخويف الناس
وبحسب تقارير والتحليلات التي تبثها وتستضيف من أجلها القنوات الفرنسية، وعلى رأسها "بي إف أم"، يتم التركيز مع الضيوف على الوجه العنفي للحراك بكونه صورة "أصيلة" عنه، مرهبين الجالسين في بيوتهم من تزايد هذا العنف جولة بعد أخرى ومركزة على بث صور إحراق المقاهي أو المطاعم أو أكشاك بيع الصحف على أنها دليل ساطع على "بلطجة" المتظاهرين وتحولهم إلى سلوك متطرف قد يكون هو الهدف الرئيسي من الحراك.