استطاعت النخب التونسية أن تبرهن على تماسك على الرغم من الخلافات الموضوعية الكبيرة، والصمود السياسي أمام اختبارات السقوط الكبرى التي شهدتها السنوات الأربع الماضية، ونجحت في المرور خطوة بعد أخرى إلى المجال الآمن ومأسسة التجربة الديمقراطية الوليدة.
وتجنّبت تلك النخب، لأسباب عديدة، السيناريوهات الليبية والمصرية واليمنية والسورية، وهو ما جعلها بالفعل في قلب الرهانات الدولية المتناقضة التي تحاول وضع كل إمكانياتها لتحقيق نوايا متقابلة، بين المساعدة على إنجاح التجربة والسعي إلى إفشالها، مما جعل الرئيس المنصف المرزوقي يقول منذ أيام إن تونس "مختبر دولي سياسي".
ولم يعد المسؤولون التونسيون يخفون تخوّفهم من بعض النوايا الدولية المريبة، مما دفع رئيس الحكومة مهدي جمعة منذ أيام، إلى التصريح علناً بأن "العديد من الأطراف تستهدف المسار الانتخابي ولا تريد لتونس أن تتجاوز هذه المرحلة". في حين أعلن رئيس "الهيئة العليا للانتخابات" شفيق صرصار "أنّ بعض البلدان لا تريد نجاح النموذج التونسي". غير أن اللافت هو صمود التجربة التونسية إزاء نوايا إجهاضها ونجاحها في توفير مناخ سياسي آمن رافض للعنف، وميّال للتوافق على أساس التنازل المُتبادل، وتمكُنها في ظروف سياسية وأمنية واقتصادية صعبة، في إنجاز أهم استحقاقات المرحلة الانتقالية.
نجحت تونس في إنجاز دستور يراه كثر متطوراً، بغالبية مطلقة في المجلس التأسيسي. ونجحت في وضع قانون انتخابي جديد وإنشاء مؤسسات دستورية وتعديلية ضامنة للممارسة الديمقراطية، وهو ما يعني أنها باتت في الأمتار الأخيرة من مسارها الانتقالي، مما يضاعف من شدة الرهان ويضيّق على مناوئيها فرص وزمن التدخل. ولا تبدو تونس وحيدة في مواجهة الرافضين لنجاح التجربة والراغبين في إسقاطها، فهناك دول عديدة تعمل على إنجاحها إما خوفاً من تداعيات فشلها عليها، أو لرغبة حقيقية في ولادة تجربة ديمقراطية عربية فعلية قد تغيّر من شكل المنطقة وربما من تاريخها.
وفي السياق، أقرَ وزير الداخلية التونسية لطفي بن جدوّ منذ أيام بوجود تهديدات ارهابية جدية تستهدف ضرب الانتخابات. وكشف عن وجود تهديدات ارهابية أخرى تستهدف تونس خلال الشهر الحالي، وشدّد على أن وزارته على أتمّ الاستعداد لمواجهة "الخطر الإرهابي". وأضاف أنّ "المجموعات الإرهابية تضع كل تركيزها للقيام بعمليات تستهدف إفشال الانتخابات".
وللتصدّي لهذه التهديدات، قال بن جدو إنه "تم تشكيل أربع لجان أمنية تتكون من ضباط رفيعي المستوى، لمتابعة العملية الانتخابية". ولفت إلى أنه "تم تحديد جميع مسالك مكاتب الاقتراع وتوزيع المادة الانتخابية، وإعداد مسالك بديلة للتي قد تشهد مشاكل أيام الاقتراع بالتنسيق مع وزارة الدفاع". وأكد أنه "سيتمّ إلغاء إجازات الأمنيين كلّما اقتضت الحاجة، وخصوصاً خلال مرحلة الانتخابات".
وأعلنت وزارة الدفاع أنها ستلجأ لاحتياطيي الجيش لتأمين الانتخابات بهدف دعم قوات الأمن والجيش وعدم تشتيت جهود الفرق العسكرية والأمنية الموجودة في النقاط الساخنة، تحديداً على الحدود الغربية مع الجزائر، والحدود الشرقية الجنوبية مع ليبيا.
واستعدت تونس في الفترة الأخيرة، عبر تطوير التجهيزات الأمنية والعسكرية البرية والبحرية والجوية، لمواجهة المجموعات المسلحة في المناطق الجبلية الوعرة، كما طوّرت أنظمة مراقبة الحدود. وكانت المؤسسة الأمنية شهدت تطوراً كبيراً في مردودها، مما دفع بوزير الداخلية إلى الإقرار بأن المؤشرات الأمنية استعادت معدلاتها قبل سنة 2011 وحتى قبلها، في إشارة واضحة إلى استعادة عافية هذه المؤسسة وطمأنة التونسيين بالرغم من المخاوف المعلن عنها.
وسيتوجه حوالي 5 ملايين و236 ألف تونسي من أصل حوالي 11 مليون نسمة، إلى صناديق الاقتراع، أي بزيادة حوالي مليون ناخب جديد مقارنة بانتخابات 2011، وهو ما يعكس شغفاً مدنياً بالاستحقاق العتيد، بغضّ النظر عن المخاوف التي رافقت بدايات العملية الانتخابية. لكن، على الرغم من كل ذلك، يبقى عدد الناخبين دون المأمول، بالنظر إلى عدد الذين يحق لهم الانتخاب والذي يبلغ 7,3 مليون ناخب بعد إتاحة الحق بالانتخاب لمن يبلغ 18 سنة يوم الاقتراع.
ويطرح العدد الكبير من الناخبين جملة من التحديات الأمنية والتنظيمية، فقد عرفت انتخابات 2011 طوابير طويلة وإقبالاً مكثفاً على مكاتب الاقتراع، استمر ليوم كامل، مع أن عدد الناخبين لم يزد عن أربعة ملايين في حينه، وهو ما سيفرض على هيئة الانتخابات أن تبحث عن حلول لضمان مرونة عملية الاقتراع دون التغافل عن المراقبة الدقيقة التي تفرضها نزاهة الانتخابات وشفافيتها.
وأشارت الهيئة إلى أنها "ستنتدب 60 ألف شخص لعضوية مكاتب الإقتراع التي تتجاوز 11 ألف مركز، ولكنها لم تسجل منهم إلا 20 ألفاً حتى الآن".
وأعلنت الحكومة أنها ستضع كل إمكانياتها تحت تصرف الهيئة، وجنّدت مسؤولاً رفيعاً في كل محافظة، ليكون المخاطب المباشر للهيئات الفرعية لتيسير مهامها، ما سيقلّص من مركزية القرار ويتيح مرونة محلية لحل المشاكل الطارئة في الجهات. وعدّد صرصار المشاكل، معتبراً أنها "تتراوح من العنف إلى العوامل المناخية في الأرياف، التي يُمكن أن تعطل وصول الناخبين إلى مكاتب الاقتراع، نظراً للأمطار الغزيرة التي تستقبلها تونس عادة في هذه فترة الخريف".
وكانت انتخابات 2011 تميّزت باعتراف معظم الأحزاب بنتائجها، بالرغم مما شابها من نقص وتجاوزات. وأبدت كل الأطراف رغبة واضحة في أن تكون انتخابات هذا العام أكثر نزاهة وتنظيماً، على أن يبقى معيار نجاحها، الأهمّ في قبول ما سينتج عنها من نتائج سياسية، وهو ما انعكس في "ميثاق الشرف" الذي وقّعته أهم الأحزاب التونسية، والذي ينصّ على احترام مبادئ التمويل السليم للحملات الانتخابية واحترام المنافسين وتجنب دعوات التباغض والمسّ بالأعراض.
وأدركت الأحزاب السياسية التونسي، منذ أيام الثورة الأولى، أن تجاوز الصراع الأيديولوجي والسياسي للخطوط الحمر قد ينسف العملية الديمقراطية بأكملها، ويقضي بالتالي على حظوظها في الوجود ككيانات متنافسة تتوالى على السلطة سلمياً، وهو نفس الإدراك الذي جنّب البلاد سيناريوهات تعيشها بقية الدول العربية.
وتحشد قوى المجتمع المدني في تونس، التي يعتبرها مراقبون دوليون صمّام الأمان في مسار الانتقال الديمقراطي، لمراقبة الانتخابات في كامل مراحلها، وانتدبت من أجل ذلك عشرات الآلاف من المتطوعين بغرض تكوينهم وإعدادهم في كل تفاصيل العملية الانتخابية. وذهبت بعض المنظمات المدنية إلى حد الإعلان عن مراقبة مضامين خطابات السياسيين ومدى مطابقتها بعد النجاح في الانتخابات للوعود الانتخابية. وأعلنت منظمة "اي ووتش" أنها شرعت في مراقبة تمويل الحملات الانتخابية لأكبر الأحزاب من وجهة نظرها.
ووقع صرصار، يوم الثلاثاء الماضي، بروتوكولاً مع الاتحاد الأوروبي، حول بعثة مراقبي الانتخابات الدوليين الذين سيتواجدون في تونس بدءاً من 15 سبتمبر/أيلول المقبل، لمراقبة المسار الانتخابي في المرحلتين التشريعية والرئاسية، وما بعدها. وأشار إلى أن "عدد المراقبين إجمالاً يُقدّر بـ30 ألف مراقب وطني وأجنبي، غير أن مراقبين محليين يتوقعون أن يكون العدد أكبر بكثير".
وفرضت "الهيئة المستقلّة للسمعي البصري" على وسائل الإعلام قيوداً كثيرة خلال تغطية الانتخابات في مختلف مراحلها لضمان التغطية العادلة بين كل المرشحين والقوائم الانتخابية.
وستشكل نوعية الانتخابات ومستوى الحملات الانتخابية معايير حقيقية لقياس نجاحها في أن تكون عاكسة لحس ديمقراطي شعبي يُسقط مقولة عدم استعداد الشعوب العربية للممارسة الديمقراطية.