الاستشراق منتجاً عربياً

25 يونيو 2016

سعيد: المركزية الغربية تمنع ظهور مفكرٍ أكثر استقلالية (Getty)

+ الخط -
ليس المقصود بالعنوان أعلاه تناول أطروحة الاستشراق المعكوس التي قدّمها صادق جلال العظم في كتابه "ذهنية التحريم" الصادر عام 1997، بهدف نقد كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد. وخلص، في نهايتها، إلى أن طروحات سعيد عن الاستشراق أنتجت "استشراقاً معكوساً"، ورسخت ثنائية الشرق والغرب التي انتقدها سعيد. من جهة أخرى، لا نسعى إلى التطرّق لبعض المستشرقين "الشرقيين" الذين عاشوا في الغرب، وتبنّوا أفكار الاستشراق، وعمدوا إلى تعميمها وتسويقها، كما الحال مع الباحث المتوفى فؤاد عجمي (أميركي، لبناني الأصل) إبّان حكم المحافظين الجدد، وغزو العراق. ما يتناوله هذا المقال هو عملية إنتاج المعرفة عن الشرق في الشرق نفسه من منظور نقدي. وحرّي بنا، توضيح مسألة في غاية الأهميّة، مؤداها أن تناولنا الموضوع يركّز على جزئيّةٍ بذاتها، تعبّر عنها نماذج لأساتذة، وباحثين عرب، نهلوا المعرفة وحصلوها في الغرب المتقدم، وأعادوا نشرها بأحكامها القيمية، وصورها النمطية من دون القدرة على امتلاك الأدوات البحثية والتحليلية اللازمة لإعادة إنتاجها بطريقةٍ أكثر شموليّة، وتصحيح عيوبها، ونواقصها.
بدايةً، يمثل الاستشراق واحدةً من حالات تخارج الثقافة الغربية. والمنظور الذي ترسمه هذه الثقافة في تخارجها تتحكّم فيها المعايير التالية: التفوق الأوروبي على الشرق، والفوقية العرقيّة، والمركزية الغربية (الثقافية والسياسية)، ويكون تأكيد هذا التفوق، حسب إدوارد سعيد، بإلغاء احتمالية ظهور مفكرٍ أكثر استقلالية، وأكثر شكًاً قد يشكّل وجهة نظرٍ مغايرةٍ حول المسألة (الفوقية). وبهذا المعنى، ظهر الاستشراق والمسشترقون فقط لأنهم كانوا يمتلكون القوة اللازمة على دراسة الشرق، بوصفهم أصحاب السلطة العليا (ثقافيّاً وسياسياً)، من دون أي مقاومةٍ تذكر من جانب الشرق". أضف إلى ذلك، الاستشراق كمنظومة ثقافية، أكاديمية، وسياسية تّعود على قمع وإقصاء أي محاولة منهجيةٍ لإنتاج معرفةٍ مغايرةٍ بأدواتٍ بحثيةٍ وأكاديميةٍ رصينة. ويمكن الدلالة على ذلك، بموقف برنارد لويس، وثلة الباحثين الغربيين الدائرين في فلكه، من أفكار إدوراد سعيد، والتي وصفها لويس بأنها "أطروحة مزيفة" وحاقدة.
مثلت الدراسات الاستشراقية، والتي تناولت مجتمعات الغير، على ما يقول جان بودريار، أنتربولوجيًاً، ودرست مجتمعاتها سيسولوجياً، الوجه المعرفي الموجه للاستعمار في علاقاته مع الشعوب المستعمرة، فهل تراجعت أو انتهت بزواله؟. الجواب قطعاً لا، فقد استمرت الدراسات الاستشراقية في المرحلة ما بعد الكولونيالية، بأدواتٍ مغايرة لاستمرار تكريس التسلط المعرفي، والسياسي على الشرق، وذلك من خلال الدعوة إلى إنشاء شركاتٍ اقتصادية "استعمارية"، أو مؤسساتٍ تعليمية، خَرجت نخبًا فكرية وسياسية، تشبعت، على اختلاف مشاربها الفكرية
والأيديولوجية، بأفكار الاستشراق، وغدت، في نمط حياتها وتفكيرها، نسخةً عن المستعمر، بل لا تقل خطراً عنه. أما المعرفة المنتجة استشراقياً بعد العولمة والحرب على الإرهاب، والتي تتابين تبايناً جذرياً مع المعرفة الاستشراقية إبّان صعود الكولونيالية، على ما يقول حميد دباشي في كتابه "ما بعد الاستشراق: المعرفة، والسلطة في زمن الإرهاب"، فهي أكثر خطورةً كونها معرفةٌ رخوةٌ وسريعة الزوال، وترتبط بصلات مع برنامج "دراسات المناطق" المرتبط بشكل مباشرٍ، أو غير مباشر، بوزارة الخارجية والاستخبارات الأميركية.
يقودنا العرض السابق عن الاستشراق، ومراحل تطوره إلى الجزئية الرئيسية في المقال، فقد شهد العالم العربي، في العقدين الماضيين، ظاهرة نشوء الجامعات الأجنبية الخاصة، واستحدثت، في السنوات الأخيرة، فروع لمراكز أبحاث، و (Think tanks)، ومؤسساتٌ بحثيةٌ غربية في عدد من الدول العربيّة. للوهلة الأولى، يبدو إنشاء الجامعات والمؤسسات البحثية الغربية في العالم العربي عملاً تنويريًا، يهدف إلى امتلاك الأدوات البحثية القادرة على إنتاج معرفةٍ تتجاوز الطرائق الكلاسيكية المترهلة في الجامعات العربيّة. لكن هذه الجامعات، والتي استقطبت المقتدرين اقتصادياً من التلاميذ، وتوسّعت في الدول الغنية، مثل دول الخليج، أوجدت مشكلةً أكبر، ألقت بتداعياتها ليس فقط على مخرجات التعليم والأبحاث، بل على هوية المجتمعات وثقافتها. الخلل الأكبر، في رأيي، أن هذه المؤسسات استنسخت الدراسات الاستشراقية مدخلاً ومنهجاً، فأنتجت خرّيجين، وأبحاثاً تناولت الشرق بالمنظور الاستشراقي الاستعلائي نفسه. وبدل من أن تقدم نقدًا عميقًا ومتماسكاً للمسلمات والصور المسبقة، حاولت ترسيخها وتعميمها، فبرزت ما سماها بعضهم ظاهرة "المستشرقين الشرقيين في الشرق". ولعل الأبحاث التي تنتجها فروع المراكز البحثية الغربية في المنطقة العربية (Brookings،Carnegie ، Rand، .. إلخ)، مثال قائم في العيان على عملية الاستلاب المعرفي، القائمة على مسبقات الذهنية الغربية تجاه ثقافة الآخر، وتفاعلات مجتمعاته الداخلية.
ومع أن كل تعميم خاطئ بدرجةٍ أو بأخرى، فإن من يتابع مخرجات المؤسسات السابقة تجاه الثورات العربيّة مثلاً، يرصد هذا الخلل بوضوح. فعند انطلاقتها، ونجاح بعضها كما جرى في تونس، ومصر في الربع الأول من عام 2011، سارعت المخرجات البحثية لهذه المؤسسات إلى احتكار نتائج الثورات معرفياً، فانتشرت مقولات "ثورة الياسمين" وثورات "النيو ميديا"، وكأن هذه الثورات مفرز غربي ضد الاستبداد. كما ركز بعضها على تأثر الشباب العربي بجين شارب، وكفاح اللاعنف في المجتمعات المتخلفة. لكن، عندما انحرف مسار الثورات، ودخلت في مرحلةٍ انتقاليةٍ، لم تخل من العنف والعنف المضاد، عادت صورة الشرق المتخيلة والمنطق التصوّري المسبق، ليحكم مخرجاتها من جديد، خصوصاً في الحديث عن المجتمعات المتخلفة ما قبل دولتية، الطوائف والقبائل، القابلية للاستبداد، حتمية البديل الإرهابي عن الاستبداد "الحداثي"، ..إلخ.
أخيراً، يعدّ تفكيك الاستشراق ومنطقه حاجةً ضروريةً أكثر من أي وقت مضى. والموقف العلمي الموضوعي يفرض المساهمة الجدّية في نقل الشرق من حالته الساكنة إلى حالةٍ جديدةٍ متقدمة من دون قيود أيديولوجية وأفكار مسبقة. ولذلك، لا بد من مساهمةٍ عربيةٍ جديةٍ في إنتاج المعرفة عبر جامعات ومراكز أبحاث، تعتمد أدواتٍ وطرائق بحثية رصينة، تستقطب أكاديميين عرباً وأجانب مؤمنين وقادرين على دخول المعترك الأكاديمي، لتصحيح المفاهيم الاستشراقية وتصويبها، بدلاً من توسيع انتشارها عبر استيراد مؤسساتٍ بحثية غربية، أو مستشرقين غربيين وعرب.

حمزة المصطفى
حمزة المصطفى
المدير العام لتلفزيون سوريا. حاصل على درجة دكتوراه من جامعة أكستر البريطانية في العلوم السياسية. عمل سابقاً باحثاً في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ونشر كتب وأبحاث علمية محكمة، وعدّة مقالات.