الاستيطان... الثابت المتسارع في السياسة الإسرائيلية
تشغل قضية الاستيطان ومصادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة حيزاً مهماً من النقاش والجدل في أعقاب انطلاق مسيرة المفاوضات المتعثرة قبل أكثر من عقدين، غير أن هذا النقاش والجدل يحتدم، اليوم، مع كشف حكومة بنيامين نتنياهو تمديد قرار مصادرة 410.884 دونماً من الأراضي، الممتدة من مستوطنة معالي أدوميم شرق القدس وحتى محافظة الخليل، والتي تشكل منطقة العزل الشرقية التي تمتد حتى البحر الميت. اتخذت القرار حكومة نتنياهو في العام 2009، وعملت بموجبه على تغيير الوقائع على الأرض، لتكون مساحة العزل الكلية (1.564000 دونم) منها (716.210) دونمات مصنفة مناطق عسكرية مغلقة، ومناطق مصنفة (محميات طبيعية)، وتشكل منطقة العزل 27% من مساحة الضفة الغربية.
أكثر ما يميز ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ مارس/ آذار 2009 وحتى مطلع العام الحالي، الثبات على سياسة الاستيطان، واستخفافه بالمطالبات المستمرة بوقف هذه السياسة، من الأطراف الراعية عملية "السلام والمفاوضات"، وإصرار السلطة الفلسطينية على تجميد البناء الاستيطاني شرطاً للعودة إلى طاولة المفاوضات، وقد تحول هذا الشرط موضوعاً خلافياً بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، إلا أن الاستيطان شكل حجر الزاوية لمصطلح "الدولة اليهودية" الذي اتبعت مسارات تنفيذه المؤسسة الصهيونية. وكان نتنياهو، بعد مائة يوم على رئاسته الحكومة، قد ألقى خطابه في جامعة بار إيلان، تبنى فيه حل الدولتين نظرياً، ومن ثم عملياً موافقته على أي خطوة، تساعد في تثبيت "سلطة إسرائيل" في المناطق الفلسطينية المحتلة، بتوسيع البناء في المستوطنات اليهودية وتعميقه، ما أفرزته تلك الوقائع في سنوات نتنياهو الأولى هي المشقة التي تكبدها الموفدون الغربيون والأميركيون لثنيه عن الاستمرار في سياسة الاستيطان.
وتطرح قضية الاستيطان تحدياً كبيراً أمام الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، خصوصاً بعدما تبين أن قرارات المصادرة أتت على نحو 75% من مساحة الضفة الغربية، وقد فشلت جهود وقف الأنشطة الاستيطانية، بسبب التعنت الإسرائيلي والدعم الذي يتلقاه المستوطنون من حكومة نتنياهو مباشرة، التي جعلت سياسة التمدد الاستيطاني الطابع الغالب للسياسة الإسرائيلية، وليبلغ عدد المستوطنين في الضفة أكثر من نصف مليون مستوطن في 144 مستوطنة رسمية ومائة مستوطنة غير رسمية منتشرة في الضفة وفي أحياء القدس الشرقية.
تسعى حكومة نتنياهو، وبتسارع محموم، إلى وضع خطط دائمة لإقامة الوحدات الاستيطانية والبناء المكثف في الأراضي الفلسطينية المصادرة، لمواصلة التضييق والحصار على الفلسطينيين، ولتبقى هذه القضية، ناهيك عن أنها تمثل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان الفلسطيني، ولكل المواثيق والأعراف والمبادئ الدولية، إلا أنها تشكل عقبة كأداء تحول دون إحراز تقدم ملموس "يأمله" الفلسطينيون لإعلان دولتهم المستقلة، وتشكل دليلاً على بؤس الخيار والرجاء الذي تنتهجه السلطة الفلسطينية، وشاهداً حياً على العجز أمام الإملاءات والإجراءات الإسرائيلية في المفاوضات. حيث أن تمسّك الاحتلال بثوابته المعلنة يقود إلى التسليم ببقاء المستوطنات على الأرض الفلسطينية أمراً لا مفر منه، على ما يبدو، وربما تكون المفارقة الأكثر إدهاشاً بانقلاب المفاهيم بفضل سياسة العجز الفلسطيني أن تكون المستوطنات حجر الزاوية، من المنظور الإسرائيلي، مثل غيرها من الزوايا المهمة، القدس، حق العودة، اللاجئين، الحدود، المياه، الأمن .. إلخ ، تصبح ثوابت إسرائيلية وخطاً أحمر، تتحدد بموجبه السياسة الإسرائيلية بمجملها مع الجانب الفلسطيني وليس العكس.
من هنا، يمكن النظر إلى خطورة الاستيطان واتساعه وكثافته، يوماً بعد يوم، ومخططاً إثر مخطط، اقتلاع أشجار الزيتون وهدم المنازل وتهجير البدو ومخططات لمصادرة أراضي النقب وشق الطرق لتأمين الحماية للمستوطنين وحرمان الفلسطينيين من استغلال أراضيهم في البناء والزراعة واستعمال المياه الجوفية، وغيرها. وذلك كله يعني تأسيس البنية التحتية اللازمة للاستيطان والتهويد، وربط المستوطنات مع المناطق المحتلة عام 1948، وهو ما يتماشى مع النظرة الإسرائيلية "للمفاوضات" المطروحة منذ مؤتمر مدريد. وحجم التخطيط الاستيطاني والمشاريع التي تنفذها المؤسسة الإسرائيلية لا تدل على الإطلاق أن دولة فلسطينية تلوح في الأفق غير أفق المفاوضات، ولا تدل على أن الإسرائيلي سيغادر هذه المستوطنات، كما يظن أصحاب نظرية حل الدولتين.