دخلت إسرائيل في معركتها الانتخابية هذا الأسبوع مع تقديم القوائم المتنافسة للانتخابات نموذجاً جديداً في تشريع الكهانية الفاشية، نسبة إلى الرابي الأميركي اليهودي، مئير كهانا، الذي أسّس في مطلع ثمانينيات القرن الماضي حركته العنصرية الفاشية "كاخ"، الداعية إلى طرد العرب وإقامة ملكوت إسرائيل التوراتية.
فقد أرجأ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، رحلته التي كانت مقررة الأربعاء إلى روسيا للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد الأزمة الدبلوماسية التي عصفت بعلاقات البلدين منذ إسقاط طائرة روسية فوق أجواء سورية، من أجل ترتيب أوراق معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل. ويأتي ذلك لضمان عدم خوض أحزاب يمينية صغيرة وفاشية، مثل "إيحود لئومي" الذي يقوده النائب العنصري بتسليئيل سموطريتش، وحزب "البيت اليهودي" تحت قيادة الرابي والعقيد السابق رافي بيرتس، ممثل التيار الديني الصهيوني، وحركة "عوتصماه يهوديت"، وهي الحركة التي تسير على درب حركة كهانا وتجاهر بذلك ويقودها ميخائيل بن أريه وإيتمار بن غفير، في قائمة تحالفية واحدة. وتعهّد نتنياهو بمنح مرشح "البيت اليهودي" موقعاً على لائحة حزب "الليكود"، ومنح المرشحين الأولين في اللائحة، رافي بيرتس وبتسليئيل سموطريتش، حقيبتين وزاريتين.
وأبرز هذا الجهد الذي قام به نتنياهو بموازاة التحريض الدائم على اليسار الإسرائيلي والعرب عموماً، عمق القلق لديه من خسارة الانتخابات في حال سقوط أحزاب يمينية صغيرة نتيجة عدم اجتيازها نسبة الحسم (3.25 في المائة من الأصوات الصحيحة، أي نحو 145 ألف صوت)، وبالتالي احتمال تمكن معسكر الوسط واليمين الليبرالي من تشكيل كتلة مانعة (أي كتلة من 61 عضواً يعارضون تكليف نتنياهو بتشكيل حكومة)، بالاعتماد على أصوات أعضاء الكنيست العرب من قائمة "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" و"الحزب الشيوعي".
كما عكست تحركات نتنياهو بشكل أكبر صحة تحذيرات نائب رئيس أركان الجيش الأسبق، يئير غولان، من "الأجواء الفاشية التي تسود إسرائيل" والتي كانت سائدة في بلدان أوروبية في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي. فقد خلع "الليكود" ونتنياهو بكل سهولة كل مظاهر الديمقراطية وأشهروا حقيقة العنصرية المتأصلة في اليمين الإسرائيلي ونزعاتها الفاشية، التي تعكسها اليوم حركة "عوتصماه يهوديت" مع أيديولوجيتها الدينية والعنصرية، لتشكّل عملياً امتداداً طبيعياً ومتأخراً لحركة "بريت هبريونيم" (حلف الزعران)، الذي قاده في الثلاثينيات من القرن الماضي أبا أحي مئير، وحظي بدعم وتأييد قائد الصهيونية التنقيحية، زئيف جابوتينسكي. ولعل من المفيد في هذه المناسبة التذكير بأن نتان ميلكوفسكي، جد نتنياهو نفسه، الذي كان سكرتيراً لجابوتينسكي، كان من أشد المدافعين عن حركة "بريت هبريونيم"، وساهم مع آخرين، بينهم مؤسس تيار الدينية الصهيونية، الرابي أبراهام يتسحاق كوك، في الدفاع عن أحي مئير وآخرين، اتهموا في ذلك الوقت بقتل القيادي الصهيوني العمالي أرلزروف.
لم يكن ممكناً بدء هذا الاستعراض والتشخيص للمعركة الانتخابية الحالية في إسرائيل، في ظلّ إسباغ نتنياهو الشرعية على عصابات كهانا الجديدة، تحت مسمى "عوتصماه يهوديت"، من دون استحضار تاريخ "بريت هبريونيم"، ووقوف جدّ نتنياهو إلى جانب أعضائها، خصوصاً أنّ مبدأ القوة اليهودية (وهي للمفارقة الترجمة العربية لاسم عوتصماه يهوديت)، أساسي في فكر الصهيونية عموماً، والصهيونية التنقيحية بقيادة جابوتينسكي خصوصاً، لا سيما أنّ نتنياهو يتباهى بأنّ "الليكود" وهو على رأسه، خليفة جابوتينسكي ومن يحمل إرثه.
وجاء خلع قناع الليبرالية والديمقراطية لصالح الدفاع عن شرعية حركة "عوتصماه يهوديت"، مقروناً بالتحريض العنصري على العرب في الداخل، واعتبار الأحزاب التي تمثلهم في الكنيست أنها أحزاب تسعى لتقويض الدولة وهدمها. ومع ذلك، فإنّ بني غانتس ويئير لبيد، زعيما التحالف الجديد "كحول لفان" (وتعني أزرق أبيض، وهي عبارة تستخدم إسرائيلياً للحديث عن كل ما هو إسرائيلي أصيل وعن كل منتج إسرائيلي)، لم يترددا في الردّ على نتنياهو، في محاولة إظهار وإبراز كونهم يميناً ليبرالياً وصهيونياً، وذلك بانتقاد شرعنة "عوتصماه يهوديت"، ولكن ليس بدون محاولة التحريض على العرب في الداخل وعلى حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"، الذي كان عزمي بشارة من أبرز مؤسسيه، ويدعو لدولة مواطنة متساوية للعرب واليهود، ونزع الطابع الصهيوني واليهودي عن الدولة مع إبراز الهوية الفلسطينية والعربية للعرب في الداخل.
اقــرأ أيضاً
وسعى غانتس إلى مساواة "التجمع الوطني الديمقراطي" دون غيره، بحركة "عوتصماه يهوديت"، للإعلان عن أنه لن يتعاون مع مثل هذا الحزب، فيما تجاهل أحزاباً أخرى، في حين كان يئير لبيد قد أعلن منذ أن فاز بالانتخابات للمرة الأولى مع تأسيس حزبه "ييش عتيد" عام 2013، أنه لن يتحالف مع "الزعبيز"، في إشارة للنائبة الفلسطينية حنين زعبي، التي ركبت أسطول "الحرية" على متن السفينة "مافي مرمرة" عام 2010.
وتكفي نظرة إلى القوائم الـ13 المرشحة لاجتياز نسبة الحسم، حتى يتضح حجم وعمق سيطرة اليمين على إسرائيل ومشهدها الحزبي. فمن بين 13 قائمة، توجد اثتنان فقط يمكن تعريفهما (مع تحفظ متفاوت) بأنهما يساريتان. القائمة الأولى هي لـ"حزب العمل" بقيادة أفي غباي، الذي جاء للحزب قبل أقل من عامين فقط وكان قيادياً في حزب "كولانو الييني" بقيادة وزير المالية موشيه كاحلون، ووزيراً عن الحزب لشؤون البيئة في ائتلاف نتنياهو الحالي. ولا تمنح الاستطلاعات الحالية هذه القائمة أكثر من 8-10 مقاعد في أحسن الحالات، وهو ما يعزّز الحديث في إسرائيل عن إنهاء الحزب لدوره ووظيفته التاريخية. أما القائمة الثانية، فهي تعود لحزب "ميرتس"، التي تتأرجح على حدود نسبة الحسم، ويتوقّع أن تحصل في أحسن الأحوال على 4-5 مقاعد.
وفي معسكر اليسار أيضاً يتم احتساب الأحزاب العربية التي كانت قد خاضت الانتخابات الأخيرة في قائمة مشتركة، لكنها تفككت هذه المرة إلى قائمتين؛ الأولى هي تحالف "التجمع الوطني الديمقراطي"، و"القائمة العربية الموحدة". وقد حاول هذا التحالف الإبقاء على القائمة المشتركة، لكن عضو الكنيست أحمد طيبي، المقرّب من سلطة رام الله، والذي ربطته علاقات متينة بالقيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان، انشق عن القائمة المشتركة مع إعلان تبكير الانتخابات، بادعاء أن توزيع المقاعد فيها غير عادل، ثم سرعان ما بدأ يتحدث عن خوض الانتخابات في قائمة مستقلة تهتم بالشأن الاقتصادي والاجتماعي، ولن تمانع في دعم كتلة مانعة لصالح تكليف الجنرال بني غانتس برئاسة الحكومة. وبعد سلسلة من المفاوضات المضنية، وقبل ساعات من نهاية الموعد الرسمي لتقديم القوائم، في العاشرة من مساء أول من أمس الخميس، تحالف حزب أحمد طيبي مع قائمة "الجبهة" و"الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، بقيادة أيمن عودة، لتتشكّل بذلك القائمة الثانية من الأحزاب العربية.
مقابل هذه القوائم الأربع (العمل، ميرتس، تحالف التجمع والقائمة الموحدة، وتحالف الجبهة مع طيبي)، تخوض الانتخابات 9 قوائم أخرى كلها ضمن اليمين، لكنها تتدرج بين يمين ديني صهيوني فاشي، ويمين حريدي، ويمين اقتصادي سياسي ليبرالي بعض الشيء يمثله تحالف غانتس - لبيد، ويمين سياسي متطرف يمثله "الليكود" بقيادة نتنياهو، وحزب "يسرائيل بيتينو" بقيادة أفيغدور ليبرمان.
وفي ظلّ الخريطة أعلاه، يتّضح عمق انتشار اليمين وتغلغل مواقفه العنصرية ضدّ العرب في المجتمع الإسرائيلي، وهو ما يزيد من معضلة جدوى المشاركة العربية للفلسطينيين في الداخل، في الكنيست. لكن ومع ذلك، فإنّ المعركة الانتخابية الحالية شهدت الانقسام الكبير في القائمة المشتركة وتبلور القائمتين المذكورتين أعلاه على أسس سياسية واضحة، على الرغم من أن الجدل الذي علا صوته، خلق وهماً بأنّ الخلاف على ترتيب المقاعد.
ويمكن القول، بحسب المواقف المعلنة، إنّ تفكيك القائمة كان حتمياً بفعل التناقض في مواقف القائمتين. فبينما تعلن القائمة المشتركة للجبهة وأحمد طيبي (الجبهة العربية للتغيير)، أنها لن تمانع في تشكيل قوة مانعة لصالح الجنرال بني غانتس، وفق تصريحات طيبي، فإنّ قائمة "التجمّع" و"القائمة العربية الموحدة" ترفضان أي خيار من هذا النوع. وبالتالي لم يكن ممكناً تشكيل قائمة مشتركة لا تستطيع أن تعرض على الرئيس الإسرائيلي بعد الانتخابات موقفاً موحداً، في مسألة المرشح لتكليفه بتشكيل الحكومة.
إلى ذلك، تحالف "الجبهة - طيبي" لا يعارض السلطة الفلسطينية أو أي من ممارساتها، وهو يؤيد موقفها في مسألة الانقسام الفلسطيني، كما يدعم الخط العام للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
ولا بدّ من القول أخيراً إنّ ملابسات الانشقاق وتفكيك القائمة المشتركة إلى قائمتين، ترك أثراً سلبياً في صفوف المجتمع الفلسطيني في الداخل، تخشى الأحزاب أن يترجم إلى تراجع نسبة التصويت والمشاركة في الانتخابات إلى ما دون 55 في المائة. علماً أنّ نسبة العرب الذين شاركوا في الانتخابات الماضية قاربت 66 في المائة، بينما تشير استطلاعات أولية اليوم إلى احتمال أن لا تتجاوز نسبة المشاركين هذه المرة الـ55 في المائة، بحسب ما قال مصدر مطلع في أحد الأحزاب العربية لـ"العربي الجديد".