12 مايو 2015
الانتخابات الرئاسية ... ولعبة الأرقام
حتى القردة، في حديقة حيوانات "الجيزة"، كانت تعلم أن أرقام النتائج، في معظم الاستفتاءات المصرية منذ يوليو/تموز 1952، وحتى ثورة يناير/كانون الثاني 2011، تعبّر عن إرادة الحاكم، المستفتى عليه، بأكثر مما تعبر عن الحقيقة.
عقب اختياره بعد رحيل أنور السادات، أجرت مجلة المجلة السعودية، حواراً طويلاً مع الرئيس الجديد، حسني مبارك، ساق فيه رواية خطيرة من بين ما ساقه، من أدله حاول أن يؤكد بها حدوث تغيير عن عهود سابقيه. قال: عندما حضر إلي اللواء النبوي إسماعيل، وزير الداخلية، ليبلغني بنتائج الاستفتاء، قال لي إن 99% من الناخبين منحوني ثقتهم، فقلت له، والحديث لمبارك، لا لا الناس زهقت من حكاية 99% دي، خفضوها شويه (!)، وتم خفضها فعلاً(!)
بهذه البساطة، والتلقائية، وقلة الخبرة، اعترف مبارك بأنه عدّل نتائج الاستفتاء، الأول في حياته، بتعليمات منه، متجاهلاً أن من يملك أن يأمر بالخفض، يملك أن يأمر بالزيادة، والعادة أن الحكام المستبدين، كالبحر، يحبون الزيادة.
وأذكر هنا واقعة كنت شاهداً عليها، وطرفاً أصيلاً فيها، وهي، في آخر انتخابات رئاسية لمبارك في عام 2005، وكنت منافسه "شبه الوحيد"، على الرغم من وجود عشرة مرشحين آخرين.
وكانت الواقعة بعد انتهاء أعمال الفرز، والتجميع، وقبل ساعات قليلة من إعلان النتائج الأخيرة. توجّهت إلى مقر لجنة الانتخابات الرئاسية، والتقيت رئيسها، وكان رئيساً للمحكمة الدستورية، وحصل على المكافأة، لاحقاً، بتعيينه وزيراً للعدل بعد الانتخابات.
فور دخولي غرفة الرجل الذي بدا عليه الاضطراب والتوتر (استقبلني حافياً، ونصف قميصه خارج ملابسه) بادرته بتقديم طعن على مئات من واقعات التزوير والتلاعب في النتائج، بل وفي الرصد، والجمع للأصوات، خصوصاً في الاسكندرية التي تعدلت نتيجتي فيها من 63% إلى 36%، وإذا بالرجل يهم ويحتضنني بقوة، قائلاً: لا تقدم هذا الطعن، فأنا حتى الآن لا أعرف كيف أبلغ الرئيس بالنتائج؟ ولم أكن أعرف النتائج التي لم يستطع أن يبلغ مبارك بها. قلت للرجل مستفسراً وبدهشه: هل الرئيس لم ينجح؟ قال: طبعاً لا، لكن حصولك على 24% أمر أزعج المحيطين به جداً، ورفضوا إبلاغه النتيجة. قلت للرجل: بما أن الرئيس فاز، وفقاً لما تقول، وعلى الرغم من كل هذا التزوير والتلاعب، لماذا لا تعلن النتيجة، وما معنى انتظارك إبلاغه بها قبل إعلانها؟ لم يرد الرجل، وقبل على مضض تسلم طعني، ولم يمر وقت طويل، حتى شاهدت الرجل نفسه، الذي أبلغني أنني حصلت على 24%، وهو يعلن النتيجة، لكن، بعد خفض أصواتي إلى 8% أي سدس الرقم الأول! وبالقطع، الرئيس وربما آخرون في أسرته، لم ترق لهم النتيجة الأولى، على الرغم من كل ما اعتراها من تلاعب، ليتدخل بقرار منه، بتغيير الأرقام، على غرار اعترافه بأول استفتاء جاء به إلى مقعد الرئاسة.
من هذه القصص المعفرة بتراب الواقع، أسأل نفسي عن نتائج الاستفتاء على اسمين (المسمى الانتخابات الرئاسية الحالية)، ولماذا ينشغل بعضهم بالنتائج، فالجميع لا يشك بفوز عبد الفتاح السيسي، لكن الكل يجتهد في عدد ما سيحصل عليه من أصوات، وما سيحصل عليه الزميل المناضل حمدين صباحي، وما حدث في تصويت المصريين في الخارج خير دليل وشاهد.
وأحسب أن السطور السابقة، وما جاءت عليه من وقائع، تؤكد أننا ننشغل بما لا ينبغي أن يشغلنا كثيراً، فالسيسي يعرف عدد الأصوات التي سيحصل عليها، وكم سيسمح لمنافسه بأن يحصل، وفقاً للنتيجه الأخيرة، غير القابلة للطعن عليها أمام أي جهة! ربما هذه الحقيقة التي يعلمها جيداً رجل مخابرات، مثل السيسي، هي التي تحمله على هذا السلوك الانتخابي "الفاتر"، والباهت، وكأن الرجل في بطنه بطيخة صيفي، كما يقول المثل المصري.
عبد الفتاح السيسي، ربما سيكون أول مرشح في تاريخ الانتخابات الرئاسية، في العالم، يخوض انتخابات وينجح، من دون أن يعلن على الناس برنامجاً انتخابياً مكتوباً ومطبوعاً، يحاسب عليه بعد 100 يوم أو 100 سنة! وهو، أيضاً وبالقطع، سيكون أول رئيس يخوض انتخابات رئاسية، وينجح فيها، من دون أن يعفّر قدميه بالانتقال إلى ناخبيه، ومن دون أن يعقد بنفسه مؤتمراً انتخابياً واحداً، بل لا أبالغ إذا قلت إن السيسي لم يحضر يوماً، حتى كضيف، أو مشاهد، مؤتمراً انتخابياً واحداً، لأنه لم يكن يستطيع أن يفعل هذا منذ صباه، بسبب دخوله الثانوية الجوية، ومنها إلى الكلية الحربية، وصولاً إلى يوم ترشحه بالبذلة العسكرية.
الرجل لم يقدم برنامجاً انتخابياً، لأنه، وكما قال محمد حسنين هيكل، لا يحتاج! وهو أيضاً لم ينزل إلى الناس، ولم يقف خطيباً بينهم، لأنه ليس مضطراً. وكل ما يقال عن أن الرجل مستهدف، ربما يكون كلاماً له ظل من الحقيقة، لكن ألم يكن مبارك مستهدفاً؟ّ ألم يكن عبد الناصر مستهدفاً؟ وكان كل منهما يمشي ويتحرك بين الناس بسيارة مكشوفة؟ ألم يكن السيسي نفسه مستهدفاً، عندما كان يعقد لقاءات كبيرة، ومتعددة، في مناسبات مختلفه، في استاد الكلية الحربية، وغيرها، ويحضرها آلاف البشر في تخريج هذه الدفعة، أو تلك؟
إننا أمام حالة مبررة من الاطمئنان الزائد، مصدرها، كما تقول عبارة حسن البارودي، في فيلم "الزوجة الثانية"..(الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا)، ولك الله يا مصر، فقد عاد لنا بعد الثورة زمن نعرف فيه النتائج قبل بدء الانتخابات، ونسلي أنفسنا بانتظار لعبة الأرقام.
عقب اختياره بعد رحيل أنور السادات، أجرت مجلة المجلة السعودية، حواراً طويلاً مع الرئيس الجديد، حسني مبارك، ساق فيه رواية خطيرة من بين ما ساقه، من أدله حاول أن يؤكد بها حدوث تغيير عن عهود سابقيه. قال: عندما حضر إلي اللواء النبوي إسماعيل، وزير الداخلية، ليبلغني بنتائج الاستفتاء، قال لي إن 99% من الناخبين منحوني ثقتهم، فقلت له، والحديث لمبارك، لا لا الناس زهقت من حكاية 99% دي، خفضوها شويه (!)، وتم خفضها فعلاً(!)
بهذه البساطة، والتلقائية، وقلة الخبرة، اعترف مبارك بأنه عدّل نتائج الاستفتاء، الأول في حياته، بتعليمات منه، متجاهلاً أن من يملك أن يأمر بالخفض، يملك أن يأمر بالزيادة، والعادة أن الحكام المستبدين، كالبحر، يحبون الزيادة.
وأذكر هنا واقعة كنت شاهداً عليها، وطرفاً أصيلاً فيها، وهي، في آخر انتخابات رئاسية لمبارك في عام 2005، وكنت منافسه "شبه الوحيد"، على الرغم من وجود عشرة مرشحين آخرين.
وكانت الواقعة بعد انتهاء أعمال الفرز، والتجميع، وقبل ساعات قليلة من إعلان النتائج الأخيرة. توجّهت إلى مقر لجنة الانتخابات الرئاسية، والتقيت رئيسها، وكان رئيساً للمحكمة الدستورية، وحصل على المكافأة، لاحقاً، بتعيينه وزيراً للعدل بعد الانتخابات.
فور دخولي غرفة الرجل الذي بدا عليه الاضطراب والتوتر (استقبلني حافياً، ونصف قميصه خارج ملابسه) بادرته بتقديم طعن على مئات من واقعات التزوير والتلاعب في النتائج، بل وفي الرصد، والجمع للأصوات، خصوصاً في الاسكندرية التي تعدلت نتيجتي فيها من 63% إلى 36%، وإذا بالرجل يهم ويحتضنني بقوة، قائلاً: لا تقدم هذا الطعن، فأنا حتى الآن لا أعرف كيف أبلغ الرئيس بالنتائج؟ ولم أكن أعرف النتائج التي لم يستطع أن يبلغ مبارك بها. قلت للرجل مستفسراً وبدهشه: هل الرئيس لم ينجح؟ قال: طبعاً لا، لكن حصولك على 24% أمر أزعج المحيطين به جداً، ورفضوا إبلاغه النتيجة. قلت للرجل: بما أن الرئيس فاز، وفقاً لما تقول، وعلى الرغم من كل هذا التزوير والتلاعب، لماذا لا تعلن النتيجة، وما معنى انتظارك إبلاغه بها قبل إعلانها؟ لم يرد الرجل، وقبل على مضض تسلم طعني، ولم يمر وقت طويل، حتى شاهدت الرجل نفسه، الذي أبلغني أنني حصلت على 24%، وهو يعلن النتيجة، لكن، بعد خفض أصواتي إلى 8% أي سدس الرقم الأول! وبالقطع، الرئيس وربما آخرون في أسرته، لم ترق لهم النتيجة الأولى، على الرغم من كل ما اعتراها من تلاعب، ليتدخل بقرار منه، بتغيير الأرقام، على غرار اعترافه بأول استفتاء جاء به إلى مقعد الرئاسة.
من هذه القصص المعفرة بتراب الواقع، أسأل نفسي عن نتائج الاستفتاء على اسمين (المسمى الانتخابات الرئاسية الحالية)، ولماذا ينشغل بعضهم بالنتائج، فالجميع لا يشك بفوز عبد الفتاح السيسي، لكن الكل يجتهد في عدد ما سيحصل عليه من أصوات، وما سيحصل عليه الزميل المناضل حمدين صباحي، وما حدث في تصويت المصريين في الخارج خير دليل وشاهد.
وأحسب أن السطور السابقة، وما جاءت عليه من وقائع، تؤكد أننا ننشغل بما لا ينبغي أن يشغلنا كثيراً، فالسيسي يعرف عدد الأصوات التي سيحصل عليها، وكم سيسمح لمنافسه بأن يحصل، وفقاً للنتيجه الأخيرة، غير القابلة للطعن عليها أمام أي جهة! ربما هذه الحقيقة التي يعلمها جيداً رجل مخابرات، مثل السيسي، هي التي تحمله على هذا السلوك الانتخابي "الفاتر"، والباهت، وكأن الرجل في بطنه بطيخة صيفي، كما يقول المثل المصري.
عبد الفتاح السيسي، ربما سيكون أول مرشح في تاريخ الانتخابات الرئاسية، في العالم، يخوض انتخابات وينجح، من دون أن يعلن على الناس برنامجاً انتخابياً مكتوباً ومطبوعاً، يحاسب عليه بعد 100 يوم أو 100 سنة! وهو، أيضاً وبالقطع، سيكون أول رئيس يخوض انتخابات رئاسية، وينجح فيها، من دون أن يعفّر قدميه بالانتقال إلى ناخبيه، ومن دون أن يعقد بنفسه مؤتمراً انتخابياً واحداً، بل لا أبالغ إذا قلت إن السيسي لم يحضر يوماً، حتى كضيف، أو مشاهد، مؤتمراً انتخابياً واحداً، لأنه لم يكن يستطيع أن يفعل هذا منذ صباه، بسبب دخوله الثانوية الجوية، ومنها إلى الكلية الحربية، وصولاً إلى يوم ترشحه بالبذلة العسكرية.
الرجل لم يقدم برنامجاً انتخابياً، لأنه، وكما قال محمد حسنين هيكل، لا يحتاج! وهو أيضاً لم ينزل إلى الناس، ولم يقف خطيباً بينهم، لأنه ليس مضطراً. وكل ما يقال عن أن الرجل مستهدف، ربما يكون كلاماً له ظل من الحقيقة، لكن ألم يكن مبارك مستهدفاً؟ّ ألم يكن عبد الناصر مستهدفاً؟ وكان كل منهما يمشي ويتحرك بين الناس بسيارة مكشوفة؟ ألم يكن السيسي نفسه مستهدفاً، عندما كان يعقد لقاءات كبيرة، ومتعددة، في مناسبات مختلفه، في استاد الكلية الحربية، وغيرها، ويحضرها آلاف البشر في تخريج هذه الدفعة، أو تلك؟
إننا أمام حالة مبررة من الاطمئنان الزائد، مصدرها، كما تقول عبارة حسن البارودي، في فيلم "الزوجة الثانية"..(الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا)، ولك الله يا مصر، فقد عاد لنا بعد الثورة زمن نعرف فيه النتائج قبل بدء الانتخابات، ونسلي أنفسنا بانتظار لعبة الأرقام.