عند تعيينه المفاجئ رئيسا للحكومة الروسية، في أغسطس/آب 1999، لم يكن اسم فلاديمير بوتين معروفاً على نطاق واسع، ولم يكن يتصور أحد أن ضابط الـ"كي جي بي" السابق هذا، سيتولى، بعد أشهر معدودة، رئاسة أكبر بلد في العالم، وسيبقى في منصبه حتى يومنا هذا، بل يستعد لشغله لولاية رئاسية رابعة مدتها ست سنوات. بعد سلسلة من الأزمات التي عاشتها روسيا في التسعينيات، والحرب الشيشانية الأولى (1994 ـ 1996) وتعثّر الدولة مالياً عام 1998، والتتابع السريع لرؤساء الوزراء، اتخذ الرئيس الروسي آنذاك، بوريس يلتسين، في نهاية المطاف، قرار تعيين بوتين رئيساً للوزراء. قرار حدد ملامح السياسة الروسية، بل الدولية، للسنوات اللاحقة.
على مدى السنوات الأخيرة من حكم يلتسين وتدهور حالته الصحية وفقدانه السيطرة على شؤون البلاد وسط زيادة تدخلات أسرته في الحكم، تردد أكثر من اسم كمرشح محتمل لخلافته، إلى أن حسم خياره لصالح بوتين، وسط استمرار الجدل حول دوافع هذا القرار. في هذا الإطار، اعتبر مدير برنامج "المؤسسات السياسية والسياسة الداخلية الروسية" في مركز "كارنيغي" في موسكو، أندريه كوليسنيكوف، أن "قرار تعيين بوتين لم يكن خيار يلتسين وحده، وإنما أيضا المحيطين به من أجل ضمان حصانة الرئيس وأسرته بعد التنحي واستمرارية إصلاحاته".
تنحّى يلتسين عن الحكم ليلة رأس السنة 1999 ـ 2000، مقدماً في كلمة متلفزة اعتذارات عن "آمال لم تتحقق"، ومسلّماً السلطة لبوتين، الذي تولى زمام الرئاسة لحين إجراء انتخابات مبكرة. ولم يخلّ بوتين بالتزاماته أمام "الأسرة"، وكان أول مرسوم وقّع عليه هو ضمان الحصانة الكاملة ليلتسين، ولكنه بدأ، في السنوات المقبلة، بالتخلص من إرث سلفه ورجاله، متوجها إلى تعزيز سلطة الفرد.
شرع بوتين في إبعاد طبقة الأوليغارشيين غير الموالين له عن السيطرة على الموارد الطبيعية ووسائل الإعلام، والإطاحة بمن عارض ذلك، وعلى رأسهم الملياردير اليهودي، بوريس بيريزوفسكي، الذي هرب إلى بريطانيا، ووُجد ميتاً في ظروف غامضة عام 2013. أما أثرى أثرياء روسيا، مالك شركة "يوكوس" النفطية، ميخائيل خودوركوفسكي، فتمت ملاحقته جنائياً بتهم الاحتيال والتهرّب من دفع الضرائب في عام 2003، ليُسجن لمدة عشر سنوات، فيما رأته المعارضة والأوساط الليبرالية الروسية رسالة تحذير من بوتين لأوليغارشيي يلتسين، بأن قواعد اللعبة قد تغيرت.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، عاشت روسيا "شهر عسل" قصيرا مع الغرب، بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة، حين أجرى بوتين، كأول رئيس أجنبي، اتصالاً مع الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الابن، داعماً العملية العسكرية الأميركية في أفغانستان.
واقتصادياً، مع استعادة سيطرة الدولة على الموارد الطبيعية وارتفاع أسعار النفط، تحولت روسيا إلى لاعب مؤثر في سوق الطاقة العالمية، مما ساعدها في تحقيق معدلات نمو قياسية، بمعدل 7 في المائة سنوياً حتى عام 2007 وسداد ديونها الخارجية. وأدى تحسّن مستوى المعيشة إلى ارتفاع شعبية بوتين، فحقق فوزاً كبيراً بولاية رئاسية ثانية عام 2004. وكان من مؤشرات تحسّن أداء الاقتصاد الروسي أيضاً، تشكيل ثالث أكبر احتياطات من الذهب والعملة الصعبة عالمياً (بعد الصين واليابان)، قاربت 600 مليار دولار بحلول عام 2008.
ومع استعادة استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية داخلياً، بدأت روسيا بإعادة صياغة علاقاتها الخارجية وتغيير لهجتها حيال الغرب، والاعتراض بشدة على توسّع حلف الأطلسي شرقاً، وتوجّه أوكرانيا وجورجيا غرباً بعد ثورتي الورد (2003 في تبليسي) والبرتقالية (2004 في كييف). وفي كلمته الشهيرة أمام مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، وجّه بوتين اتهامات صريحة إلى الغرب بـ"فرض جدران وخطوط فاصلة جديدة، والدفع بالبنية التحتية العسكرية للأطلسي باتجاه الحدود الروسية".
وانتقلت روسيا إلى الأعمال العسكرية خلال الأزمة الجورجية عام 2008 التي عُرفت إعلامياً بـ"حرب الأيام الخمسة" في إقليم أوسيتيا الجنوبية الانفصالي المدعوم من موسكو، التي شنّتها رداً على مقتل عدد من جنود حفظ السلام الروس.
وأعاد أستاذ العلوم السياسية بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، التغير الذي طرأ على السياسة الخارجية الروسية، إلى "إخلال الغرب بوعوده لآخر زعيم للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، بعدم توسّع الأطلسي شرقاً، والأعمال أحادية الجانب من قبل خصوم روسيا".
وأضاف كوكتيش لـ"العربي الجديد"، أنه "منذ عام 2008، أصبحت موسكو ترد على الانتهاكات أحادية الجانب. في الحالة الجورجية، تحركت روسيا رداً على مقتل جنودها، وما كان لأي بلد أن يسمح بمرور ذلك مرور الكرام. في عام 2014، تحركت روسيا في أوكرانيا بعد تخلي الغرب عن الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وفي سورية عام 2015، للدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط".
وفي العالم العربي أيضاً، شهدت سياسة الكرملين تحولا نوعيا بين التخلي عن العقيد الليبي، معمر القذافي، إبان حكم مدفيديف، وتأييد نظام بشار الأسد في سورية، ودعمه بكافة الطرق بعد عودة بوتين. وأوضح كوكتيش سبب الاختلاف في تعامل روسيا مع الملفين الليبي والسوري، قائلاً إن "مصالح روسيا في سورية كانت أكبر منها في ليبيا. صحيح لم تكن هناك التزامات موقّع عليها حيال دمشق، ولكنها نابعة من الوجود العسكري الروسي في ميناء طرطوس".
وخلال سنوات حكمه، أضفى مدفيديف شرعية على عودة بوتين إلى الرئاسة، فأقرّ أيضاً تعديلات دستورية لتمديد الولاية الرئاسية من أربع إلى ست سنوات، وهو أمر مهّد لعودة بوتين إلى الكرملين لولايتين أخريين بمدة إجمالية 12 عاماً.
ومع ذلك، تراجعت وتيرة الاحتجاجات فيما بعد، على إثر تشديد قانون التظاهر وصدور أحكام بالسجن بحق عدد من المحتجين، بتهمة "الاعتداء على أفراد الأمن"، خلال "المسيرة المليونية" الرافضة لتنصيب بوتين رئيساً، في 6 مايو 2012، فيما عُرف إعلامياً بـ"قضية ساحة بولوتنايا". أما حالياً، فلم يعد عامل الشارع مؤثراً في السياسة الداخلية الروسية، رغم استشراء الفساد ومتاعب الاقتصاد الروسي، على إثر مواجهته صدمتي العقوبات الغربية وتدني أسعار النفط.
منذ عام 2014، هيمنت السياسة الخارجية على أجندة الكرملين، في ضوء إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم، ودعم المسلحين الموالين لها في منطقة دونباس (دونيتسك ولوغانسك) شرقي أوكرانيا، وبدء حرب العقوبات الاقتصادية مع الغرب، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر في سورية، في أول عملية عسكرية لموسكو خارج فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، منذ تفككه (1991). وفي الوقت الذي روّج فيه الإعلام الروسي لـ"شرعية" ضم القرم، نظراً لإجراء استفتاء تقرير المصير، رأته الدول الغربية وكييف نفسها "احتلالاً" وإخلالاً بمذكرة بودابست (1994)، التي نصت على ضمان أمن أوكرانيا مقابل انضمامها إلى معاهدة منع انتشار السلاح النووي.