20 نوفمبر 2024
الانتخابات الفرنسية وسيف ديموقليس العدالة
حل القضاء الفرنسي ضيفاً ثقيلاً على الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا. ووجد اثنين من أكثر المرشحين حظوظا للفوز فيها أنفسهما متابعَين بتحقيقاتٍ قضائية بشأن شبهات فساد برزت فجأة، وباتت تهدّد مستقبلهما السياسي. يتعلق الأمر بمرشح يمين الوسط، فرانسوا فيون، ومرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان. يثير النقاش الذي أحدثته اليوم هذه التحقيقات القضائية أسئلة سياسية وقضائية كثيرة في فرنسا، من قبيل توقيت هذه التحقيقات، والجهة التي تحرّكها؟ ومن المستفيد منها؟ وتأثير القضاء على إحدى أهم الآليات الديمقراطية، أي الانتخابات؟ وهو ما بات يطرح السؤال عريضا: من سيحسم في النهاية: القضاء أم الناخب؟ أليست الانتخابات أكبر عملية محاسبة شفافة مباشرة، يقوم بها الناخب مباشرة، المعنيّ الأول والأخير بإدارة الشأن العام؟
يشبّه الإعلام الفرنسي ما يقع اليوم في فرنسا بـ "مطاردة الساحرات" التي شغلت الفرنسيين عمّا هو أهم في الحملة الانتخابية، أي البرامج والسياسات التي يحملها كل مرشح لهذه الانتخابات، إلى درجةٍ أصبح معها قرار القضاء هو الذي سيحدّد قرار الناخب الفرنسي الذي فقد سلطة اختياره الحر، بناء على قناعاته وتوجهاته.
لذلك، ارتفعت اليوم في فرنسا أصواتٌ تطالب بنوعٍ من "الهدنة القضائية" في أثناء الحملات الانتخابية، وهو ما يعارضه المتمسكون بـ "دولة القانون" التي أسس لها المفكر الفرنسي مونتسكيو، والتي تقول إن القانون يجب أن يسود في كل زمان ومكان.
سبق للقضاء الفرنسي أن "تريّث" في انتخاباتٍ سابقة، وانتظر حتى انتهاء الحملات الانتخابية،
حتى لا يؤثر على توجهات الناخبين. حدث ذلك في انتخابات 1997 و2011، لكن ما يحدث اليوم في انتخابات 2017 يعتبره الفرنسيون أمرا غير مسبوق. وبما أن القضاء في فرنسا يبقى مستقلا، فلا سلطة لأيٍّ كان للتدخل للجم القضاة عن ملاحقة السياسيين في أثناء حملاتهم الانتخابية. وبات المرشحون السياسيون في مرمى العدالة التي تحولت إلى سيف ديموقليس، معلق فوق رؤوسهم، يهدّدهم، في كل لحظة، بالسقوط، ووضع نهاية لمسارهم السياسي. فلا يمكن أن يمر يوم من دون أن نسمع عن إجراء قضائي اتخذه قضاة التحقيق الفرنسي ضد أحد المرشحين الذين تحولوا إلى طرائد تلاحقهم عناصر الشرطة القضائية في منازلهم ومكاتبهم ومقرات حملاتهم.
وهو ما دفع مرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، إلى رفض الاستجابة لاستدعاءات المحققين، منتقدة ما وصفتها بـ "دولة القضاة". أما منافسها من اليمين الوسط، فوصف ما يحدث بأنه "انقلابٌ مؤسساتي"، وكلاهما تمسّك بترشيحه، معتبرا أن أكبر محاكمةٍ يمكن أن يتعرّض لها السياسي هي محاكمة الشعب في لحظة الانتخابات، وهما معا قرّرا، كل واحد منهما على حدة، أن يواجها هذه اللحظة من دون الالتفات إلى ملاحقات القضاء، فقد سبق لفيون أن صرح بأنه "يضع نفسه رهن إشارة حكم الاقتراع العام المباشر". أما لوبان فردّت متحدية القضاء بالقول إنها لن تقدم الحساب إلا أمام الشعب، الحَكَم الأول والأخير.
فرّقت هذه المواجهة بين السياسيين والقضاء، في لحظة حاسمة، الفرنسيين بين مدافعين حول مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي والمنادين بضرورة أن تسري العدالة على الجميع سواسية، لا فرق بين مرشح رئاسي ومواطن عادي، لأن جوهر العدل هو إقامة المساواة بين الناس، وهو ما عبر عنه وزير العدل الفرنسي، عندما دافع عن التحقيقات بالقول إنه لا توجد عدالة للمشاهير، وأخرى للناس العاديين. وفي المقابل، هناك من ينادي بـ "تعطيل" العدالة في لحظة الانتخابات، حتى لا تؤثر على اختيارات الناخبين. وما بين الموقفين، ولكل منهما حججه ومبرّراته، هناك من يتساءل عن التوقيت، لأن القضاء في لحظة حاسمة في المسار الديمقراطي الفرنسي قرّر التدخل بدون استئذان، ما أثر على شروط التنافس النزيه بين المرشحين، وهو ما بات يهدد مستقبل الحياة الديمقراطية في فرنسا.
وللتوضيح أكثر، لا يتعلق السؤال الذي يطرح اليوم في الإعلام الفرنسي بمدى قانونية التحقيقات التي يتعرّض لها متنافسون في هذه الانتخابات، لأنه لا أحد يمكنه أن يعترض على قيام القضاء
بعمله، وإنما حول توقيتها ومدى شرعيتها في أثناء فترة الحملة الانتخابية؟ خصوصا أن القضايا موضوع التحقيقات ليست طارئة، وإنما هي قديمة، وهو ما يطرح سؤالا آخر: أين كان القضاء طوال الفترة السابقة؟ ولماذا انتظر حتى بدأت الحملة الانتخابية لبدء تحقيقاته في شبهات فسادٍ كان يفترض وجودها منذ فترة سابقة، والمشتبه بهم كانوا يشتغلون في الشأن العام، قبل أن يصبحوا مرشحين للرئاسيات الفرنسية؟
مجموعة أسئلة لا تجد لها اليوم جوابا شافيا في الإعلام الفرنسي. وهو ما دفع كثيرين إلى التشكيك في استقلالية العدالة الفرنسية، حتى وإن كان القضاة مستقلين، بما أن مسطرة التحقيق تكون خاضعةً للنيابة العامة التي مازال تعيين قضاتها تابعا لوزير العدل، ما يطرح أسئلة كثيرة حول فرضية استخدام القضاء، من أجل التأثير على نتائج الانتخابات، حتى وإن غابت شبهة تسييس القضاء في فرنسا. وبالتالي، هناك اليوم أصواتٌ أصبحت ترتفع للمطالبة بتعديل منظومة العدالة، بعد انتهاء فترة الانتخابات الحالية.
وفي المقابل، هناك من يرى فيما يحدث اليوم تأكيداً وتجسيداً لاستقلالية القضاء الفرنسي الذي يجب تقويته وتثبيت استقلاليته أكثر. لكن السؤال الكبير الذي يطرحه النقاش اليوم في فرنسا هو عن شرعية إحدى أهم آليات الديمقراطية الغربية، أي الانتخابات، التي كانت تعتبر أهم لحظة في مسار كل ديمقراطية، بما أنها لحظة المساءلة والحساب الشعبي المباشر، لكن في السنوات الأخيرة تحولت إلى مهرجانات واستعراضات، فهل يعيد القضاء الفرنسي لهذه اللحظة جزءا من وهجها، لحظة للمحاسبة والمساءلة الشعبية؟
يشبّه الإعلام الفرنسي ما يقع اليوم في فرنسا بـ "مطاردة الساحرات" التي شغلت الفرنسيين عمّا هو أهم في الحملة الانتخابية، أي البرامج والسياسات التي يحملها كل مرشح لهذه الانتخابات، إلى درجةٍ أصبح معها قرار القضاء هو الذي سيحدّد قرار الناخب الفرنسي الذي فقد سلطة اختياره الحر، بناء على قناعاته وتوجهاته.
لذلك، ارتفعت اليوم في فرنسا أصواتٌ تطالب بنوعٍ من "الهدنة القضائية" في أثناء الحملات الانتخابية، وهو ما يعارضه المتمسكون بـ "دولة القانون" التي أسس لها المفكر الفرنسي مونتسكيو، والتي تقول إن القانون يجب أن يسود في كل زمان ومكان.
سبق للقضاء الفرنسي أن "تريّث" في انتخاباتٍ سابقة، وانتظر حتى انتهاء الحملات الانتخابية،
وهو ما دفع مرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، إلى رفض الاستجابة لاستدعاءات المحققين، منتقدة ما وصفتها بـ "دولة القضاة". أما منافسها من اليمين الوسط، فوصف ما يحدث بأنه "انقلابٌ مؤسساتي"، وكلاهما تمسّك بترشيحه، معتبرا أن أكبر محاكمةٍ يمكن أن يتعرّض لها السياسي هي محاكمة الشعب في لحظة الانتخابات، وهما معا قرّرا، كل واحد منهما على حدة، أن يواجها هذه اللحظة من دون الالتفات إلى ملاحقات القضاء، فقد سبق لفيون أن صرح بأنه "يضع نفسه رهن إشارة حكم الاقتراع العام المباشر". أما لوبان فردّت متحدية القضاء بالقول إنها لن تقدم الحساب إلا أمام الشعب، الحَكَم الأول والأخير.
فرّقت هذه المواجهة بين السياسيين والقضاء، في لحظة حاسمة، الفرنسيين بين مدافعين حول مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي والمنادين بضرورة أن تسري العدالة على الجميع سواسية، لا فرق بين مرشح رئاسي ومواطن عادي، لأن جوهر العدل هو إقامة المساواة بين الناس، وهو ما عبر عنه وزير العدل الفرنسي، عندما دافع عن التحقيقات بالقول إنه لا توجد عدالة للمشاهير، وأخرى للناس العاديين. وفي المقابل، هناك من ينادي بـ "تعطيل" العدالة في لحظة الانتخابات، حتى لا تؤثر على اختيارات الناخبين. وما بين الموقفين، ولكل منهما حججه ومبرّراته، هناك من يتساءل عن التوقيت، لأن القضاء في لحظة حاسمة في المسار الديمقراطي الفرنسي قرّر التدخل بدون استئذان، ما أثر على شروط التنافس النزيه بين المرشحين، وهو ما بات يهدد مستقبل الحياة الديمقراطية في فرنسا.
وللتوضيح أكثر، لا يتعلق السؤال الذي يطرح اليوم في الإعلام الفرنسي بمدى قانونية التحقيقات التي يتعرّض لها متنافسون في هذه الانتخابات، لأنه لا أحد يمكنه أن يعترض على قيام القضاء
مجموعة أسئلة لا تجد لها اليوم جوابا شافيا في الإعلام الفرنسي. وهو ما دفع كثيرين إلى التشكيك في استقلالية العدالة الفرنسية، حتى وإن كان القضاة مستقلين، بما أن مسطرة التحقيق تكون خاضعةً للنيابة العامة التي مازال تعيين قضاتها تابعا لوزير العدل، ما يطرح أسئلة كثيرة حول فرضية استخدام القضاء، من أجل التأثير على نتائج الانتخابات، حتى وإن غابت شبهة تسييس القضاء في فرنسا. وبالتالي، هناك اليوم أصواتٌ أصبحت ترتفع للمطالبة بتعديل منظومة العدالة، بعد انتهاء فترة الانتخابات الحالية.
وفي المقابل، هناك من يرى فيما يحدث اليوم تأكيداً وتجسيداً لاستقلالية القضاء الفرنسي الذي يجب تقويته وتثبيت استقلاليته أكثر. لكن السؤال الكبير الذي يطرحه النقاش اليوم في فرنسا هو عن شرعية إحدى أهم آليات الديمقراطية الغربية، أي الانتخابات، التي كانت تعتبر أهم لحظة في مسار كل ديمقراطية، بما أنها لحظة المساءلة والحساب الشعبي المباشر، لكن في السنوات الأخيرة تحولت إلى مهرجانات واستعراضات، فهل يعيد القضاء الفرنسي لهذه اللحظة جزءا من وهجها، لحظة للمحاسبة والمساءلة الشعبية؟