تعمّدت الإدارة الأميركية التقليل من أهمية زيارة وفد رسمي تركي رفيع المستوى أجرى مباحثات، أمس الأربعاء، في وزارتي الخارجية والمالية في واشنطن، لبحث الأزمة بين الحليفين وطرق تفكيكها.
وتبدّى ذلك قبل وصول المسؤولين الأتراك وبعده، يوم الثلاثاء، وفيما كان الوفد التركي في طريقه إلى واشنطن، نفت وزارة الخارجية الأميركية علمها بالموضوع، في حين أنه كان قد تم ترتيب لقاءاته التي حصلت بعد أقل من 24 ساعة على صدور النفي. وكأن الخارجية الأميركية تقصّدت التقليل من أهمية الاجتماع سلفاً، للإيحاء بأنها ليست مستعجلة ولا مستعدة للتساهل في مطالبها الخاصة بإطلاق سراح القس الأميركي الموقوف في تركيا، آندرو برونسون.
وبعد الاجتماع مع نائب وزير الخارجية جون سوليفان، امتنع أعضاء الوفد التركي عن الإدلاء بأي تصريح أو توضيح. كما اكتفت المتحدثة الأميركية، هاذر نيورت، ببيان موجز وعمومي قالت فيه: "عقدنا مشاورات مع الأتراك وسوف نعمل على متابعتها". صيغة استُخدمت في توصيف اجتماعات سابقة بينهما، فشلت في التوصل إلى نتيجة. وتكرر المشهد بعد اجتماع المسؤولين الأتراك مع المعنيين في وزارة المالية، إذ بقي بعيداً عن الأضواء ومن دون تعقيبات رسمية.
الرسالة من هذا التعامل ليست فقط أن المباحثات متعثرة والأزمة تراوح مكانها، بل أيضاً أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ترى أنها باتت في موقع يمكّنها من إملاء شروطها، وأن الكرة الآن في الملعب التركي. فتركيا تعاني حالياً من تحديات اقتصادية خطيرة يؤشر إليها الهبوط المتسارع في قيمة الليرة التركية، وإذا كانت هذه الصعوبات قد تراكمت عواملها منذ فترة، فإن الأزمة السياسية مع واشنطن جاءت لتفاقمها.
التنافر السياسي بين واشنطن وأنقرة مزمن، قام على توجّس متبادل، وقد تغذّى من تلكؤ واشنطن في ممارسة الضغط اللازم على الأوروبيين لقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، إلى أن جاءت الحرب على تنظيم "داعش" وتردد أنقرة في الانضمام بداية إلى التحالف، مع ما تركه ذلك من ضيق في واشنطن. ثم وقعت محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، لتصب الزيت على هواجس أنقرة التي اتهمت واشنطن باحتضان زعيم حركة "الخدمة" فتح الله غولن، خصم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ والمتهم بالضلوع في محاولة الانقلاب والمقيم في الولايات المتحدة، التي ترفض تسليمه إلى أنقرة حتى الآن. تلا ذلك الحكم بالسجن في واشنطن على مسؤول كبير في مصرف "هالك" التركي الرسمي، بتهمة خرق العقوبات والتعامل مع إيران.
وجاء التقارب التركي الروسي ليزيد من التباعد بين واشنطن وأنقرة، خاصة بعد إعلان الأخيرة عن رغبتها في شراء منظومة الدفاع الروسي إس- 400، ورد الكونغرس بالعمل على وقف تزويد تركيا بالمقاتلة الأميركية إف – 35. وأخيراً، أشعل نائب الرئيس مايك بينس شرارة قضية القس الأميركي المحتجز قيد الإقامة الجبرية في تركيا، مع الإلحاح على وجوب إخلاء سبيله.
التهاب المسألة بسرعة أعطاها طابع التحدي الذي انتقلت معه الأزمة إلى حرب العقوبات المتبادلة والرسوم التجارية. وتوعدت واشنطن بالمزيد من العقوبات، وبإعادة النظر في دخول بضائع تركية إلى السوق الأميركية بقيمة 1.75 مليار دولار من دون رسوم جمركية. ساهم ذلك حسب قراءات لمراقبين، في تسريع تدهور وضع الليرة، كما في تراجع الاستثمارات، وتزايد العجز في ميزان المدفوعات، فضلاً عن ارتفاع معدل التضخم. وضعٌ لو تعذرت معالجته، يهدد بوصول تركيا إلى "القصور عن الوفاء بالتزاماتها المالية وتسديد ديونها"، حسب موقع "بلومبرغ" الاقتصادي.
وسط حالة الأزمة الاقتصادية في بلاده، جاء الوفد التركي إلى واشنطن التي تصر على إطلاق سراح برونسون أولاً، وهي تتطلع بعده إلى فرض مطالب أخرى، في مقدمتها إلزام تركيا بوقف السعي للحصول على شبكة إس-400 من موسكو، وبوقف شراء النفط والغاز من إيران، عندما تسري العقوبات على قطاع الطاقة الإيراني، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
مطالب رفض أردوغان تلبيتها، فهل يبقى رافضاً لشروط ترامب المستبعد أن يتراجع عنها وهو في عزّ موسم انتخابات الكونغرس التي يشارك في حملتها من موقع التشدد في السياسات الداخلية والخارجية؟
فريق من المراقبين لا يستهين بحدة المأزق الذي وجدت تركيا نفسها فيه، فهي لا تقوى، حسب هذه المدرسة، على التخلي عن علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، لأنه لا بديل يوازي هذه العلاقة، لا كماً ولا نوعاً. حتى روسيا غير قادرة على التعويض عن تحالف تركيا مع واشنطن، فهذه لها حساباتها المفترقة عن مصالح تركيا في المنطقة، وسورية هي المثال الأبرز، حيث رفضت موسكو، أخيراً، أي حضور أو دور لتركيا في منطقة إدلب.
لكن في المقابل، ثمة من يرى أن تركيا ليست بلا أوراق لمواجهة أزمتها، منها الورقة الأوروبية، إذ لأوروبا مصلحة في مساعدة تركيا على الأقل لأنها تؤوي ثلاثة ملايين لاجئ، ومن الأفضل تمكينها من استمرار استضافتهم على أرضها.
البحث في واشنطن عن مخرج يحفظ ماء الوجه للطرفين التركي والأميركي، بقي من دون نتيجة حتى الآن، المبادلة بالموقوفين لدى الطرفين، غير مقبولة من قبل واشنطن. في مطلع يونيو/حزيران الماضي، أجرى وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو مباحثات مع نظيره الأميركي في واشنطن، مايك بومبيو، حول الخلافات. الحصيلة كانت وضع "خريطة طريق" وتشكيل "مجموعة" للمتابعة، لكن التخريجة كانت واهية والعلاقات ساءت أكثر. اليوم حتى تخريجة من هذا النوع تعذّر التوصل إليها.