22 نوفمبر 2015
البحث في الجزائر عن صورة الجنرال
وفّرت تنحية رئيس الاستخبارات الجزائرية، الجنرال محمد مدين، المعروف باسم آخر، أو "فني"، هو توفيق، فرصةً مغريةً للمهتمين بالحدث السياسي الجزائري، من أجل تخطي ركوده المزمن، وتشكلت حول التنحية مناسبة إعلامية دسمة، اجتاحت كل الوسائط، التقليدية منها والحديثة. وتدلّى حبل التعليقات والتحليلات الصاعدة والنازلة، كلازمة فظّة أحياناً، في الأخبار العاجلة والواعدة بخلخلة المشهد السياسي لأسابيع مقبلة، غير أن الطارئ الجدير بالتنويه، في تغييرٍ كبيرٍ مثل هذا في الجزائر، هو بارانويا العثور على صور جديدة للجنرال المُغادر، أسفرت عن جفاف الحبر الـمُسال حول ما وراء الخبر، وما بعده، لصالح بحثٍ حثيثٍ عن ملامح ومواصفاتٍ ظلت مبهمة ردحاً من الزمن؛ وذلك لأن توفيق الذي عُرف شعبياً، أو عرّف نفسه، "برب الدزاير"، كانت تُنسب إليه صورتان فقط.
أسوةً بالتقاليد الاستخباراتية في المعسكر الشرقي، أسّس الجنرال توفيق، الذي تلقى جزءاً من تكوينه المبكر في قلاع الاستخبارات السوفييتيه، عهدته التي امتدت خمساً وعشرين سنة، على الغموض، والهلامية، والتفادي المطلق للحضور الإعلامي، فلا أحد يعرف شكله، طوله أو لون عينيه؛ رُفع توفيق إثر هذا التعتيم المُنظم إلى مصاف الربوبية، ربوبية الجزائر، وهو قول اُختلف كثيراً في نسبته إلى توفيق نفسه، أم لغيره؟ وبرّر كثيرون رهاب الميديا هذا بالظروف الأمنية الحرجة إبّان الأزمة الوطنية في التسعينات، إلا أن تواتره، بعد نهاية الفصول المظلمة لتلك الأزمة إثر اتفاق المصالحة الوطنية، أكد رسوخ هذا التقليد والعمل به.
استخدم بوتفليقة نقطة الضعف هذه، إثر عودته من رحلته العلاجية في فرنسا، وشيوع الحديث عن نيّة "صانع الرؤساء" في الجزائر، الجنرال توفيق، البحث عن بديل محتمل، في حال ساءت صحة الرئيس أكثر، منتهكاً بذلك بروتوكولات اتفاق غير مُعلن بينه وبين الرئيس، والذي تبلور بُعيد الانتخابات الرئاسية في 2004 بين الرجلين القويين. وهكذا، وفي رمشة عينٍ أصبحت تتداول على الملأ أسماء لضباط رفيعين في الاستخبارات، تمهيداً لإقالتهم، أو إحالتهم على التقاعد، في خرقٍ غير مسبوق لناموس الغموض، بل تجرأ "الجناح المدني" في الدولة، ممثلاً بحزب جبهة التحرير الوطني، على جناح عسكريٍّ، حين باشر أمينه العام، عمار سعيداني، هجوماً وُصف بالتاريخي على شخص الجنرال توفيق.
استمر هذا المسلسل بإحالة ضباط مقربين من الجنرال إلى التقاعد، إضافة إلى التفكيك الإداري المتتابع لسلطة الاستخبارات، وإلحاقها بقيادة الأركان التي يترأسها أحد الأوفياء للرئيس. وأُشيعت أسماء دوائر وسلطات كانت، إلى وقت قريب، منعدمة الوجود، كما زُجّ في السجن أحد قياداتها الكبار في قضيةٍ، لا تعرف بعد خيوطها البيضاء من السوداء.
مباشرةً، بعد إذاعة الخبر الذي كان مسألة وقت في نظر مراقبين، حتى بدأ هوس البحث عن
وبَدَا، مع استعار هذه الرغبة الملحة، أن "الرعيّة" متلهفة للنظر في تقاسيم "الراعي"، وتحسس وجوده العياني، وأن الكل يسعى إلى إمتاع بصره بنظرة أولى لوجه "الإله"، فتحولت وجهة السعي هذه صوب "الصورة"، بدل "المعنى". ويكشف سعي مثل هذا، وازى في بعض جوانبه الهوس بصور المشاهير والفنانين، عن مجتمع الجزائري "منزوع السحر السياسي"، إذ عملت "الدولة العميقة"، هنا، كما في بلدان عربية أخرى، على رفع العمل السياسي إلى قمم عالية، وقامت بعضها بحملات منظمة، من أجل اجتثاث الهمّ السياسي من الفكر الـجَـمْعي، فأضحت المجتمعات العربية، مع استثناءات قليلة، مُغتربة عن واقعها السياسي.
وتقلّصت بذاك فرص ظهور معارضة مُغايرة على مستوى التصور والعمل، معارضة تحفّز ظهور بدائل سياسية مقنعة، ومُناسبةً لبلورة عمل سياسي خالٍ من "الأَمْثلَةِ"، وهو ما ظهر جلياً في بعض من بلدان الربيع العربي، أين شهدنا تفاوتاً بين الأحلام الشبّانية وأولئك الذي اضطلعوا بهدرها سياسياً. وظهر جليّاً أن هذه الأنظمة أوجدت معارضة على صورتها، وتبددت بذلك فرصة ذهبية لانعقاد اهتمام مغاير والتفاف للمجتمع من جديد حول الهمّ السياسي.
يعد هذا التوق الجزائري إلى التعرف إلى أرباب الأوطان هؤلاء نزوعاً إلى كشف الحُجب التي تفنن النظام في الالتفاف بها، فحتى الرئيس الجزائري كان يُعرف باسمٍ، هو عبد القادر المالي، إبّان الثورة التحريرية، وكذلك حمل الرئيس الراحل، محمد بوضياف، اسم "سي الطيب الوطني"؛ كما تم تسريب صور للقائد الجديد للاستخبارات، عثمان طرطاق، الملقب أيضا "بشير". وينخرط المجتمع بذلك، لا إرادياً، فيما يشبه موجة من معاداة الأيقنة السياسيّة، كاشفاً عن محاولة خجلة لاسترجاع الفعل والمبادرة السياسيين من دوائره المغلقة.
تموت الآلهة السياسية القديمة في الوطن العربي، تباعاً، منذ بزوغ أحلام التغيير، في النفوس الوجلة تارةً، وفي الواقع تارة أخرى، وتصحب "الصورة" التي تنزع، دائماً، إلى تجاوز دِلالاتها، هذا الزمن الغَسَقي، وهي بذلك تكشف، في الجزائر كما في بلدان عربية أخرى، عن محاولة بالغة الرمزية، من أجل استعادة المعنى السياسي من صنّاعه السيئين.