تعرّفنا إلى البلجيكي بولي لانر يوم أطلّ بفيلمه الجميل "العمالقة" (2011)، الذي نال عنه 13 ترشيحًا لجوائز "ماغريت" الخاصة بالسينما البلجيكية (فاز بـ5 منها). لكن للرجل سيرة مديدة، فهو بدأ يجوب المهرجانات منذ مطلع الألفية الثالثة مع أفلامه القصيرة، قبل أن يحطّ في برلين مع باكورته "أولترانوفا" (2004)، ثم في "كانّ" مع "الدورادو" (2008).
آخر أعماله كمخرج يحمل عنوان "الأولون، الأخيرون" (2016)، الذي أعاده إلى "مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)"، حيث فاز بالجائزة الكنسية. مسيرته التمثيلية تزخر بعشرات الأدوار في السينما والتلفزيون، انطلقت مع دور اللص في "توتو البطل" (1990) لجاكو فان دورمايل، وصولاً إلى صاحب مقهى في آخر أفلام برتران بلييه "قافلة استثنائية" (2018)، إلى جانب جيرار دوبارديو.
في لقائه "العربي الجديد"، يطرح البلجيكي بولي لانر أفكارًا وتساؤلات سينمائية وحياتية مختلفة، تُضيء بعض المشهد وعلاقته به في أوروبا وخارج هوليوود.
(*) أفلامك خاصة جدًا. هل تلازمك طويلاً قبل الإفراج عنها؟
لا. فيلمي الأخير "الأولون، الأخيرون" وُلد فجأة. كانت لديّ رغبة في الحديث عن نهاية العالم على طريقتي الخاصة، بلغتي وأسلوبي وإحساسي. عن تلك الأفكار السوداوية التي تسمّم حياتنا، وتصوغ نظرتنا إلى العالم، حدّ أنه بات من الصعب أن نعيش في منأى منها. طبعًا، هذا الشعور لا يأتي من فراغ، بل تُغذّيه الأحداث السياسية والتطورات الأمنية وحتى البيئية. كان هدفي أن أبعث رسالة أمل على رغم كلّ ما نتعرّض له.
هذا على الصعيد العام. أما على المستوى الخاص، فأصبتُ بانتكاسة صحية كان لها تأثير بالغ في نظرتي إلى الحياة والموت. مقاربة الموت في أفلامي شيء عرفته عن كثب، وكان هاجسًا يوميًا في حياتي فترة من الزمن، لذلك قررتُ أن يكون له مكان بارز في عملي. أمي كانت مُصابة بداء في القلب، وورثتُ منها هذا المرض. قبل تصوير الفيلم بـ3 أشهر، أُجريت لي عملية قلب. هذا جعلني أستوحي إحدى الشخصيات من تجربتي. ما تراه في الفيلم من إعلان لنهاية المجتمع، هو في الحقيقة نهاية شخص. كان يجب أن أسأل نفسي: إذا لا بُدّ من نهاية، فكيف علينا أن نعيشها؟ أعتقد أنه علينا أن نعيشها بأكبر سعادة ممكنة.
طبعًا، كالعادة، أجدني مشغولاً بسؤال: كيف أحوّل الأفكار التي في داخلي إلى سلسلة مشاهد متجانسة؟ كيف أحوّلها إلى صيغة بصرية؟ هذا هو الهمّ الأكبر عندي. أيضًا، في فيلمي الأخير، ما أملى عليّ أسلوب الكتابة، هو عندما سافرتُ بالقطار من تولوز إلى باريس، فرأيتُ كيف احتلّت المصانع الضخمة تلك المسافة بين المدينتين. هكذا "تركب" القصّة عندي عادة. خطوة خطوة، أجد نفسي داخل الحبكة.
(*) هل تبحث عن أماكن التصوير قبل مباشرة الكتابة؟
هذا يتوقف على الفيلم. عادة، الأماكن التي يصعب التصوير فيها تُشكّل تحديًا كبيرًا لي. أبحث بنفسي عن أماكن التصوير. لا أسند هذه المهمّة إلى أحد. هذا البحث يحصل في موازاة عملية الكتابة. أحتاج إلى لحن لأنطلق في الكتابة، وعندما أنطلق أحتاج إلى معرفة الديكورات التي سأصوّر فيها. الديكور يغذّي نوعًا ما مخيّلتي. الأمر أشبه بأن تختار الممثل الذي تريد أن تكتب له خصيصًا. وجهه وصوته يساعدان على "توضيب" الملامح. أحيانًا، تستغرق عملية إيجاد ديكورات مناسبة عامين. أعود مرارًا إلى المكان نفسه للتأكّد من صوابية خياري، حدّ أني عندما أنتهي من الكتابة، أكون قد قررتُ زوايا التصوير حتى.
(*) أفلامك تخفي واقعًا مُرًّا، رغم أجوائها العبثية الكوميدية.
أفلامي تأملٌ في ما أسمّيه "الانزلاق الاجتماعي". أعتقد أننا للمرة الأولى منذ وجودنا على هذه الأرض، غير مطمئنين إلى مستقبلنا وما سيحمله إلينا. المستقبل بات شيئًا يخيفنا جدًا، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي. لا نعرف ماذا سيحلّ بنا في الأعوام الخمسين المقبلة. نحن شهود مرحلة إشكالية جدًا من تاريخ البشر. ينبغي لسينمائيّ مثلي أن يُدرك هذه الحقيقة.
(*) تتعامل كثيرًا مع القساة. الشخصيات القاسية التي لا تبدو عليها الرحمة.
أفضّل تعريفها بـ"شخصيات قوية". السينما التي أنجزها ليست شفهية. أي أن الشخصيات لا تفصح عمّا في داخلها من خلال الحوار. حتى أننا لا نعرف كثيرًا عن خلفية كلّ شخصية. كلّ شيء مكتوب على جبين الشخصيات. عليك التقاط الأشياء هكذا. النظرات تروي الكثير أيضًا. لكن نظرة تأتيك من صاحب وجه أجوف لا تقول الكثير. لذلك، أحتاج إلى شخصيات تمتاز بالعزم والصلابة كي أستطيع أن أنقل إليك أحاسيسها، تمامًا كما في أفلام الغرب الأميركي. أحاول أن أصنع نقيض الأفلام الأميركية التجارية، حيث لا يتوقف العشيقان عن تبادل كلام الحبّ وتذييل كلامهما بـ"أحبك". عندي، لا أحد يقول "أحبك". مع ذلك، نفهم مَن يحبّ مَن.
(*) عمومًا، هل السينما هي التي تلهمك أم الحياة؟
أستلهم قليلاً من السينما. لستُ "سينيفيليًا" كبيرًا. في طفولتي، لم أحلم بالسينما. لم أكن أعرف حتى أنه يُمكن لشخص مثلي أن يصبح مخرجًا، خصوصًا في بلجيكا. تطوّر هذا مع الوقت. كنتُ أرغب في الرسم، وعملتُ رسّامًا بالفعل. كي أعتاش، عملتُ في مهن مختلفة في مواقع تصوير الأفلام منذ بلوغي 19 عامًا. ثم بدأتُ أمثّل في عمر متأخّر نسبيًا. أنجزتُ أول فيلم قصير وأنا في 36 من العمر. أتحدّر من بيئة اجتماعية بسيطة ومتواضعة وشعبية. في القرية حيث تربيتُ، لا توجد صالة سينما. لم نكن نرتاد المسرح. حتى المطالعة لم تكن من أولوياتنا. الثقافة لم تشكّل أولوية، لكن عقولنا كانت منفتحة. كنّا نتقبل الأفكار المختلفة والطليعية. لذلك، أستوحي من الحياة. الثقافة التي فتحتُ عينيّ عليها هي الثقافة الشعبية، ومنها أفلام الـ"وسترن" التي كنّا نتابعها على التلفزيون.
(*) هل تكوّنت لديك طريقة عمل معينة بعد أفلام عدة؟
نعم. شعاري هو أن أعمل في جوٍّ مريح يغلب عليه المرح. أحتاج إلى إشاعة هذا المناخ خلال التصوير، كي لا أشعر بأن أعضاء الفريق يحاكمونني. هذا يمدّني بثقة تساعدني في التعبير عن قلقي أو شكوكي عندما لا أكون واثقًا من خياراتي. أما إذا عشت صراعًا دائمًا مع الآخرين، فيصعب التعبير عن شكوكي. فلسفتي أنه يمكن الإفصاح عن قلقي للفريق عندما تنشأ بيني وبين أفراده علاقة متينة. وكي أرسو على ذلك النوع من العلاقة، عليّ تأسيس جوٍّ من المرح. مع الوقت، اكتشفتُ أن العاملين في أفلامي، رغم الموازنة الضئيلة التي تحظى بها، يعملون بتفانٍ. لذلك، عليّ أن أعاملهم بالمثل. عمومًا، ألتزم هذه الفلسفة في العمل. عدا ذلك، أشعر أني أشتغل بطريقة كلاسيكية: قليل من الارتجال، كثير من التمرين وإعادة الكتابة في اللحظة الأخيرة. علمًا أني "أُمَنْتج" خلال التصوير وليس بعده.
(*) ألا يزعجك أن تكون أمام الكاميرا وخلفها في الوقت نفسه؟
جرّبتُ هذا في "إلدورادو". كانت الأشياء على ما يرام. كنّا تمرّنّا جيدًا. ربما كان سهلاً لأننا لم نكن سوى ممثلين. أما في "الأولون، الأخيرون"، فلم أتوقّع أن أتعذّب إلى هذا الحدّ لدخول شخصية جيلو، لأني كنت أشاهد المواد المصوّرة كلّ يوم مع بقية الممثلين. كون الـ"كاستنغ" من الطراز الرفيع، شعرتُ فجأة أني أدنى مستوى من بقية الممثلين. أصابني نوع من "بارانويا". تطلب الأمر 3 أسابيع كي أخرج من هذه المشكلة. في حالات مماثلة، أحتاج إلى مساندة فريق العمل ونيّاتهم الصافية تجاهي. لو كنت في حال خصام معهم، لما تجرأتُ على مصارحتهم بالشكوك التي تداهمني إزاء تمثيلي.
أكرّر أن على الفنّان أن يتمكن من التعبير عن شكوكه بحرية، من دون أن يحاكمه أحد. هذا يساعده كثيرًا.
(*) ولكن، كيف يتم استقبال أفلامك في بلجيكا؟
بلجيكا بلد خاص جدًا. هناك ما يُعرف بسينما الجنوب وسينما الشمال. كلّ سينما مختلفة عن الأخرى، وتعمل وفق آليتها التمويلية الخاصة. ما أعرفه عني هو أن لديّ شعبية معينة في بلجيكا، وهناك إقبال على أفلامي. أحد أسباب الإقبال في بلجيكا الناطقة بالفرنسية هو أنه (الإقبال) جيّد في الخارج. هناك شيء خاص بهذا الجزء من بلجيكا: على فرنسا أن تعطي مشروعية للعمل كي يُشاهده الناس. في بلجيكا الفلمنكية، الأمور تختلف: يمكن لفيلم أن يكتفي بالإيرادات المحلية. هناك أفلام حقّقت 800 ألف مُشاهد في بقعة جغرافية لا يزيد عدد سكانّها على 6 ملايين نسمة.
(*) ألا تطمح إلى العمل في الولايات المتحدة الأميركية؟
السينما الأميركية "يوتوبيا". أعرف أني لن أُخرج الأفلام في الولايات المتحدة. لا يهمّني هذا البتة. كلّ شيء معقّد هناك. كمخرج، لا أملك القرار النهائي في المونتاج، علاوة على أني لا أملك كلّ بنود ثقافتهم. لا رغبة لي في إنجاز فيلم ناطق بالإنكليزية. هذا يمنعني من معرفة ما إذا كان الممثل يمثّل جيدًا أم لا. في حين أني أفعل ما أريد في بلجيكا. أشعر أني محظوظ كوني أعمل في أوروبا، ولو كانت سينمانا أقل انتشارًا، علمًا أن أفلامي تُعرَض في كلّ مكان، من أوستراليا والولايات المتحدة إلى كندا مرورًا بفرنسا وحتى في آسيا القصوى. في بلجيكا، لا تُفرَض عليّ أيّ رقابة من أيّ نوع كان. مُنتجي يتركني وشأني ولا يتدخّل ولا يفرض عليّ أي شيء لا أريده. من البلاهة أن أتخلى عن هذه الشروط، وأذهب إلى مكان حيث ستكون حياتي 10 مرّات أصعب.