التاريخ كان نائماً هنا..

07 أكتوبر 2014
+ الخط -

أربعون دولة في حلف عسكري وسياسي، من أجل فصيل صاعد من صفحات التاريخ وشقوق الجغرافيا المتشظّية في الشرق الأوسط منذ سقوط بغداد الثاني، هل هو دليل على أن شعوب الشرق الأوسط، في الوجه الآخر لتعثّرهم، يصنعون التاريخ؟

أبداً، فقد كانت نزهتهم في التاريخ مقتضبة، وزيارة خفيفة، سرعان ما خرجوا منها، بمساعدة الزلزال الذي ضرب المنطقة، وبانتحار غير رحيم، قادته القوى المناهضة للتغيير. دخلوه، في عزّ الربيع، وبحيويةٍ منقطعة النظير في الزمن المعاصر، بعدما ظلت الشعوب معلقةً في بهوه طوال ثلاثة عقود تقريباً، أو خارج أسواره، وهي العطالة التي أعقبت ميلاد الاستبداد العربي الجديد، على أنقاض أحلام النهضة العربية الاشتراكية القومية الموحدة، ولم تنتهِ عندما كان التاريخ يفتح أبوابه من جديد مع سقوط المعسكر الشرقي، وبداية الدول الجديدة في أوروبا، وبعدما انتهى جزء من الأحزاب الوحيدة، بعسكرها في دول أفريقيا السوداء، وانتهت السلطة العسكرية في أميركا اللاتينية، وأصبح لعودة التاريخ اسم محدّد، يصفه الناس بالانتقال الديمقراطي. الملاحظ، اليوم، أن العرب لم يعودوا إلى تاريخ كانوا فيه، ولم يبقوا حتى في التاريخ الذي انتهى منهم.

العرب اليوم نسوا التاريخ، العرب لم يعيشوا نهاية التاريخ، عندما انتهت معسكرات التنكيل الديمقراطي مع الربيع العربي. لم يعيشوا بداية التاريخ مطوّلاً، بعدما عادت الشعوب إلى كهوف الخوف والشك. العرب، بكل بساطة، اختاروا نسيان التاريخ. نسوا التاريخ، فأنساهم نفسه.

ولكن التاريخ، في المقابل، يصنع بهم بقاءه وغابته في جغرافيا أخرى لشعوب أخرى. حجتي في ذلك ثلاثة مواقف. أولها أن كل الأزمات التي تعيشها البشرية، بما في ذلك التي تحدث في أوكرانيا، للعرب تأثّر مباشر بها، أو بجوارها فيها، وإن كان جوار الميت. ولا تأثير لهم في تغيير مجرى الحياة، هنا أو هناك. كانت البداية على الشكل التالي، انطلقت حرب التقزيم المستمر ضد روسيا، في الشرق الأوسط، وفي آسيا، فكان أن قضمت موسكو قرمها العتيق، وأعادت إلى اللغة الروسية سطوة الدولة، باعتبار أن أوكرانيا كانت، وما زالت، روسية، وأن التوزيع الذي حدث، يوماً، مع خروتشوف، كان في زمن الاتحاد السوفييتي. الشكل الاستراتيجي لروسيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحرب الباردة، انتهى بالإصرار الغربي على تقزيم أحفاد القياصرة. وعندها، عادت الحرب الباردة إلى العالم، فتزامنت مع الحروب الحامية لدول الشرق المتوسط. ولكن الشعوب كانت قد عادت إلى سباتها، تحت رايات التطرف تارة، أو تحت رايات التردّد تارات عديدة.

مع التطرف، نعيش الدرجة الصفر في التاريخ، العودة إلى فكرته البدوية الأولى، ومع التردّد نعيش الدرجة الصفر للتاريخ، لا تاريخ لمَن يتردّد في صناعته. والثابت، الآن، أن هيجل، الذي جعل من التاريخ عقيدة القرن 19 وما بعده، لم يخطر على باله أن قولته: التاريخ يتطور، أحياناً، من أسوأ جانب فيه، لم تصدُقْ، على الرغم من أنها آخر أمل تبقّى لنا، باعتبار أن الجوانب السيئة كثيرة فيه عندنا، وأن أنظمتنا هي أسوأ جانب فيه، حتى الحل الأسوأ التاريخي لم يصدُق معنا. فهذا الهيجل بنى التاريخ على رواية الحرية، إنه قصة الحرية الإنسانية من عهد الجمهورية الرومانية، إلى عهد الحرية المدنية في الدولة الحديثة. وعندما تغيب الحرية، باسم الدين أو باسم الوطن المبهم أو باسم الفكرة المستبدّة، يغيب التاريخ، ويدخل الغيبوبة النهائية، ونبقى خارجه، في أحسن الأحوال. نحن، أيضاً، خارجه حتى إن كانت جغرافيا المغرب في صميم التفاوض التاريخي الحالي، بين أمم الغرب وبين شرقه البعيد.

الموقف الثاني، إنه عندما ظهر إسلام داعش، كانت النتيجة الأولى خارطة جديدة، انمحت فيها الحدود بين العراق وسورية، ولم تكن لا شعوب المنطقة، ولا الشعبان المعنيان، على أهبة لاستقبال ذلك. وكانت اللحظة العربية تحميض آخر لأسطورة سايكس بيكو في نسخةٍ لا تاريخية، خارج التاريخ، تعود باسم "أبو بكر البغدادي".

التاريخ كان نائماً، هنا أيضاً، بالنسبة لنا فقط. فالذي كان مقيماً في اللغة الطائفية، استيقظ على خارطة ونشيد وعلم، حتى ولو كانت الدولة بالمعنى العميق غير موجودة، فلم يعد ممكناً الحديث عن عودة الشعوب إلى صوابها الجغرافي بعد الذي يحدث الآن. وسيعاد تقطيع خارطة الشرق الأوسط، ولا شيء يمكن أن يطمئننا على مصير دول شمال أفريقيا ومناعتها من العدوى. وسنكون مجدداً الخاسرين من عودة الحرب الباردة، أو السلام البارد، لا فرق، ولا أحد فكر أن تاريخ الدم بين السنّة والشيعة، الذي جرى إحياؤه باسم الربيع العربي، ثم باسم السيف الرباني، سوف يعود إلى سيرته القديمة. نسينا أن ذلك التاريخ هو أيضاً تاريخ دمنا، ولم يعد ممكناً أن تختبئ الجغرافيا في ظلال تاريخ نسيناه. جغرافيا تعوّض التاريخ الإيجابي، تخرج لتقتل أبناءها.

ثالثاً، من نسيان التاريخ أننا أصبحنا بين خيارين، لا واحد بينهما إنساني: الدكتاتورية أو الرعب الإرهابي. والغريب أن أميركا، التي انتصر فيها أوباما على قاعدة الخروج السياسي من الحل العسكري في العراق، يعود باسم العراق، وباسم سورية أيضاً، إلى منطقة نسيت التاريخ، وفوّضت الجغرافيا لأعدائها، وعلّقت انضمامها إلى التجربة الإنسانية في الحرية. غير أن ذلك لم يمنع أن الآخرين يتهموننا بأننا سبب فشل التوجه الأميركي نحو القطب الآسيوي، ممثلاً في الخروج من العراق وبالتقرّب إلى موسكو. نحن، هنا أيضاً، نعكّر صفو التاريخ، لأننا لا نفهمه.

فهمت الشعوب مبكراً أنه ليس هناك عبارة يمكن أن تُخرجهم من كهوف علي بابا، ليدخلوا التاريخ غير الديمقراطية، أو، على الأقل، الفهم الوطني لها، التاريخ باعتباره عملية جدلية تتيح للعقل اكتشاف نفسه.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.