قد يستغرب القارئ هذا العنوان ويتساءل متعجبًا أو مستنكرًا: هل يوجد في السجن حياة اجتماعية وسياسية حتى توصف بأنها ديمقراطية أو ديكتاتورية؟ وهل يتمكن السجناء من ممارسة تجربة من هذا النوع خلف الأسوار؟ وهل يستقيم أن تطبق الديمقراطية في سجون دولة لا تطبقها على وجهها الصحيح في ميدانها الطبيعي؟
تبدو هذه الأسئلة ومثيلاتها مشروعة إذا دار الحديث حول السجناء الجنائيين، أما في حالة السجناء السياسيين فالأمر مختلف تمامًا؛ فكثير منهم اعتاد العمل السياسي المنظم قبل دخول السجن، وبينهم روابط ثورية وتنظيمية، ثم هم حريصون على التكتل ليواجهوا تكتل إدارة السجن ويصبحوا قوة مقابل قوة، وهي مصلحة تلتقي مع مصلحة إدارات السجون في معظم الأحيان، فتودعهم عنابر خاصة بهم بعيدًا عن عنابر السجناء الجنائيين. فأن تتعامل مع مندوبين عن المئات خير لها من أن تتعامل مع هؤلاء جميعًا منفردين، بالإضافة إلى أن الحياة داخل عنبر واحد تفرض على المقيمين فيه مهما اختلفت أفكارهم أن تكون بينهم قواسم مشتركة؛ في المأكل والمشرب والنوم وتسكين القادمين الجدد، إلى جانب ملفات فكرية وثقافية وتواصل يومي بإدارة السجن للتفاوض وحل المشكلات.
ومهمة هذا المقال تسليط الضوء على مدى قدرة السجناء السياسيين على إدارة شؤونهم بديمقراطية، من خلال تجربة الكاتب الشخصية في واحد من هذه السجون بدأت منذ أكثر من عام، ويضاف إليها تجارب آخرين في سجون أخرى استمع إليها الكاتب من أصحابها مباشرة حينما انتقلوا منها إلى ذات السجن الذي يسكنه.
وتكمن قيمة هذه التجربة في أنها تضع الثوار أمام اختبار حقيقي للمبادئ التي يعلنون إيمانهم بها ويضحّون من أجلها بأرواحهم وأعمارهم. خاصة أن مجتمعهم في السجن متنوع الأفكار والانتماءات، فهل يديرون مجتمعهم هذا بعيدًا عن التدخل المباشر للسلطة المستبدة وفق ما يؤمنون به ويثورون من أجله؟ أم أن بين المبادئ المعلنة والممارسة الواقعية فجوة ينبغي أن يعالجوها؟
من أهم الجوانب الإيجابية في هذه التجربة أنهم ينتخبون مسؤولي الغرف ومجلس إدارة العنبر الذي يحوي ثماني عشرة غرفة أو أضعاف ذلك بحسب التصميم الهندسي لكل سجن، في عملية تصويت نزيهة. هذا هو الإجراء الذي يتفق عليه الجميع، ولكنهم فيما دونه متباينون أشد التباين.
من مظاهر هذا التباين أن فريقا يرى ضرورة تحديد مدة ولاية كل مهمة، بينما يرى آخرون أن يُنتخب صاحب المهمة مرة واحدة طوال فترة الاعتقال وإن امتدت شهورًا وسنوات. ويزيد الفريق الأول ألا يُسمح له بالبقاء في مهمته أكثر من مدتين متتاليتين، في حين لا يرى الفريق الثاني داعيًا لذلك. وتدور مناقشات سياسية هادئة حينا وعاصفة حينا بين المنادين بدورية الانتخابات وتحديد تواليها وبين المتحمسين لديمقراطية المرة الواحدة، والتي تنتهي غالبا بانتصار حجة الفريق الأول.
ومن مظاهر التباين أيضا أن فريقا يرى ضرورة أن تسبق الانتخاباتِ لائحةٌ توافقية لضمان تحقق الديمقراطية تحوي صلاحيات المنتخبين بدقة وطبيعة مهامهم وآلية مساءلتهم وسحب الثقة منهم، في الوقت الذي يختزل فيه فريق آخر الأمر في إجراء عملية الانتخابات دون لائحة واضحة.
ومن مظاهر التباين كذلك أن فريقا يرفض تركيز السلطات كلها في يد مجلس إدارة منتخب، ويطالب بأن تتوزع بين مجلس إدارة له صلاحيات التنفيذ ومجلس شورى (برلمان) منتخب له صلاحيات التشريع والرقابة، ولجنة تحقيق لها صلاحيات الفصل بين المتنازعين، بينما يرى فريق آخر أن مجلس الإدارة المنتخب يكفي.
كما يظهر التباين في أن فريقا لا يعترف بالخطوط الحمراء عند مناقشة القضايا المثارة والمتعلقة بالحراك الثوري وكيفية تطويره ويؤمن بضرورة النقد الذاتي لتصحيح المسار، في حين يفضل فريق آخر أن نغلق هذا الباب المؤدي إلى الخلافات والمشاجرات. أو بكلمة أخرى: يفضل الحفاظ على الأمن القومي والسّلم الاجتماعي في السجن، إذا صح التعبير.
كذلك يتجلى هذا التباين في أن فريقا يتبنى خلع رداء الحزبية وتقديم الكفاءات لمواقع المسؤولية، في الوقت الذي يظل فيه آخرون أسرى الانتماء التنظيمي عند إجراء عملية الانتخابات.
ويبدو التباين أيضا عندما يتبنى فريق مبدأ ديمقراطية التمثيل ليصبح المنتخَب ممثلا للذين انتخبوه يعود إلى استطلاع آرائهم قبل التصويت داخل المجلس المنتخب في الأمور الجوهرية، بينما يتبنى فريق آخر مبدأ ديمقراطية التفويض ليصبح المنتخَب غير مطالب باستطلاع آراء من انتخبوه، ولكنه يصوت وفقًا لرؤيته الذاتية وحدها، باعتباره قد انتخب للقيام بهذه المهمة وقضي الأمر.
ويتضح ذلك التباين في نظرة الفريقين إلى القدر الذي ينبغي تطبيقه من الديمقراطية داخل السجن، فريق يرى السجن مجتمعا مكتمل الأركان ينبغي أن تطبق فيه كل قواعد الديمقراطية وأن يتمرس فيه السياسيون على تنفيذها بصورتها الكاملة، بينما يرى الفريق الآخر أن السجن جملة معترضة في سياق الحياة نمارس فيه ما تيسر من الديمقراطية بحسب الحاجة الملحة فقط.
هذه التباينات كلها نجدها أيضا داخل التيار الفكري الواحد والمدرسة السياسية الواحدة، حتى داخل جماعة الإخوان المسلمين التي يمثل أعضاؤها الآن الشريحة المنظمة الأبرز داخل المعتقلات المصرية. الأمر الذي يدل على وجود اختلافات مفاهيمية وتطبيقية حول الديمقراطية داخل مجتمع الثورة المصرية، مما يؤكد حاجة المجتمع المصري عامة والثوري منه خاصة إلى مراجعة مفاهيمه عن الديمقراطية وإلى دوام التدرب على ممارستها ممارسة صحيحة داخل التنظيمات السياسية والثورية قبل وأثناء نضاله من أجل تحقيقها على مستوى الدولة المصرية.
*معتقل على ذمة قضية سياسية. عمل مدرسًا ومدققا لغويا ومعلقا صوتيا، مدون وناشط سياسي مصري، باحث متخصص في الأدب العربي الحديث
تبدو هذه الأسئلة ومثيلاتها مشروعة إذا دار الحديث حول السجناء الجنائيين، أما في حالة السجناء السياسيين فالأمر مختلف تمامًا؛ فكثير منهم اعتاد العمل السياسي المنظم قبل دخول السجن، وبينهم روابط ثورية وتنظيمية، ثم هم حريصون على التكتل ليواجهوا تكتل إدارة السجن ويصبحوا قوة مقابل قوة، وهي مصلحة تلتقي مع مصلحة إدارات السجون في معظم الأحيان، فتودعهم عنابر خاصة بهم بعيدًا عن عنابر السجناء الجنائيين. فأن تتعامل مع مندوبين عن المئات خير لها من أن تتعامل مع هؤلاء جميعًا منفردين، بالإضافة إلى أن الحياة داخل عنبر واحد تفرض على المقيمين فيه مهما اختلفت أفكارهم أن تكون بينهم قواسم مشتركة؛ في المأكل والمشرب والنوم وتسكين القادمين الجدد، إلى جانب ملفات فكرية وثقافية وتواصل يومي بإدارة السجن للتفاوض وحل المشكلات.
ومهمة هذا المقال تسليط الضوء على مدى قدرة السجناء السياسيين على إدارة شؤونهم بديمقراطية، من خلال تجربة الكاتب الشخصية في واحد من هذه السجون بدأت منذ أكثر من عام، ويضاف إليها تجارب آخرين في سجون أخرى استمع إليها الكاتب من أصحابها مباشرة حينما انتقلوا منها إلى ذات السجن الذي يسكنه.
وتكمن قيمة هذه التجربة في أنها تضع الثوار أمام اختبار حقيقي للمبادئ التي يعلنون إيمانهم بها ويضحّون من أجلها بأرواحهم وأعمارهم. خاصة أن مجتمعهم في السجن متنوع الأفكار والانتماءات، فهل يديرون مجتمعهم هذا بعيدًا عن التدخل المباشر للسلطة المستبدة وفق ما يؤمنون به ويثورون من أجله؟ أم أن بين المبادئ المعلنة والممارسة الواقعية فجوة ينبغي أن يعالجوها؟
من أهم الجوانب الإيجابية في هذه التجربة أنهم ينتخبون مسؤولي الغرف ومجلس إدارة العنبر الذي يحوي ثماني عشرة غرفة أو أضعاف ذلك بحسب التصميم الهندسي لكل سجن، في عملية تصويت نزيهة. هذا هو الإجراء الذي يتفق عليه الجميع، ولكنهم فيما دونه متباينون أشد التباين.
من مظاهر هذا التباين أن فريقا يرى ضرورة تحديد مدة ولاية كل مهمة، بينما يرى آخرون أن يُنتخب صاحب المهمة مرة واحدة طوال فترة الاعتقال وإن امتدت شهورًا وسنوات. ويزيد الفريق الأول ألا يُسمح له بالبقاء في مهمته أكثر من مدتين متتاليتين، في حين لا يرى الفريق الثاني داعيًا لذلك. وتدور مناقشات سياسية هادئة حينا وعاصفة حينا بين المنادين بدورية الانتخابات وتحديد تواليها وبين المتحمسين لديمقراطية المرة الواحدة، والتي تنتهي غالبا بانتصار حجة الفريق الأول.
ومن مظاهر التباين أيضا أن فريقا يرى ضرورة أن تسبق الانتخاباتِ لائحةٌ توافقية لضمان تحقق الديمقراطية تحوي صلاحيات المنتخبين بدقة وطبيعة مهامهم وآلية مساءلتهم وسحب الثقة منهم، في الوقت الذي يختزل فيه فريق آخر الأمر في إجراء عملية الانتخابات دون لائحة واضحة.
ومن مظاهر التباين كذلك أن فريقا يرفض تركيز السلطات كلها في يد مجلس إدارة منتخب، ويطالب بأن تتوزع بين مجلس إدارة له صلاحيات التنفيذ ومجلس شورى (برلمان) منتخب له صلاحيات التشريع والرقابة، ولجنة تحقيق لها صلاحيات الفصل بين المتنازعين، بينما يرى فريق آخر أن مجلس الإدارة المنتخب يكفي.
كما يظهر التباين في أن فريقا لا يعترف بالخطوط الحمراء عند مناقشة القضايا المثارة والمتعلقة بالحراك الثوري وكيفية تطويره ويؤمن بضرورة النقد الذاتي لتصحيح المسار، في حين يفضل فريق آخر أن نغلق هذا الباب المؤدي إلى الخلافات والمشاجرات. أو بكلمة أخرى: يفضل الحفاظ على الأمن القومي والسّلم الاجتماعي في السجن، إذا صح التعبير.
كذلك يتجلى هذا التباين في أن فريقا يتبنى خلع رداء الحزبية وتقديم الكفاءات لمواقع المسؤولية، في الوقت الذي يظل فيه آخرون أسرى الانتماء التنظيمي عند إجراء عملية الانتخابات.
ويبدو التباين أيضا عندما يتبنى فريق مبدأ ديمقراطية التمثيل ليصبح المنتخَب ممثلا للذين انتخبوه يعود إلى استطلاع آرائهم قبل التصويت داخل المجلس المنتخب في الأمور الجوهرية، بينما يتبنى فريق آخر مبدأ ديمقراطية التفويض ليصبح المنتخَب غير مطالب باستطلاع آراء من انتخبوه، ولكنه يصوت وفقًا لرؤيته الذاتية وحدها، باعتباره قد انتخب للقيام بهذه المهمة وقضي الأمر.
ويتضح ذلك التباين في نظرة الفريقين إلى القدر الذي ينبغي تطبيقه من الديمقراطية داخل السجن، فريق يرى السجن مجتمعا مكتمل الأركان ينبغي أن تطبق فيه كل قواعد الديمقراطية وأن يتمرس فيه السياسيون على تنفيذها بصورتها الكاملة، بينما يرى الفريق الآخر أن السجن جملة معترضة في سياق الحياة نمارس فيه ما تيسر من الديمقراطية بحسب الحاجة الملحة فقط.
هذه التباينات كلها نجدها أيضا داخل التيار الفكري الواحد والمدرسة السياسية الواحدة، حتى داخل جماعة الإخوان المسلمين التي يمثل أعضاؤها الآن الشريحة المنظمة الأبرز داخل المعتقلات المصرية. الأمر الذي يدل على وجود اختلافات مفاهيمية وتطبيقية حول الديمقراطية داخل مجتمع الثورة المصرية، مما يؤكد حاجة المجتمع المصري عامة والثوري منه خاصة إلى مراجعة مفاهيمه عن الديمقراطية وإلى دوام التدرب على ممارستها ممارسة صحيحة داخل التنظيمات السياسية والثورية قبل وأثناء نضاله من أجل تحقيقها على مستوى الدولة المصرية.
*معتقل على ذمة قضية سياسية. عمل مدرسًا ومدققا لغويا ومعلقا صوتيا، مدون وناشط سياسي مصري، باحث متخصص في الأدب العربي الحديث