ولم يسبق أن تبدّى النفور الأوروبي بهذه الصورة المكشوفة والمثقلة بالرسائل وحتى بالتحدي، ما يثير خشية دوائر أميركية عديدة، فضلاً عن الشعور بشيء من "الإهانة" على الرغم من تفهم الدواعي والمسببات التي تقف خلفها "الترامبية". وما فاقم الوضع أن البيت الأبيض أصر في النسخة التي نشرها لخطاب بنس، على الزعم بأن المؤتمر رد على تحيات الرئيس بـ"التصفيق".
ليس في واشنطن من لا يعرف أن الصمت الذي أربك وأحرج نائب الرئيس لم يكن رد فعل عفوي، ولا رسالة عابرة، فالإشارات وعلامات الضيق الأوروبي تتواصل منذ فترة، والخلافات كثيرة مع إدارة ترامب حول إيران وحلف شمال الأطلسي وسورية وروسيا، فضلاً عن ملفات اقتصادية.
وقال دبلوماسيون ومسؤولون إن رحلة بنس التي استمرت أربعة أيام إلى أوروبا لم تنجح سوى في تعميق الانقسامات مع الحلفاء التقليديين في قضايا مثل إيران وفنزويلا، ولم تطرح أملاً يذكر في كيفية التعامل مع تهديدات تراوح من التسلح النووي إلى تغير المناخ.
وفي كل هذه الملفات يلتقي من يطلق عليهم وصف "حراس" ونخب السياسة الخارجية الأميركية المعمول بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع الموقف الأوروبي عموماً.
وفي محاولة من الكونغرس لبعث رسائل طمأنة إلى الحلفاء، شارك 50 عضواً من الكونغرس، من الديمقراطيين والجمهوريين، في المؤتمر، في أكبر تجمع نيابي أميركي، منذ انطلاق أعمال هذا المؤتمر قبل 55 سنة. وجمعت بين الفريق، وضمنه بايدن ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وحدة الموقف المطمئن للأوروبيين، خلافاً لخطاب الإدارة الذي مثله بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو.
وللمرة الأولى تنطق واشنطن بلسانين في هذا المؤتمر السنوي الهام المتواصل انعقاده منذ العام 1963، بالإضافة إلى أنها، المرة الأولى، التي تبدو فيها الإدارة الأميركية في وادٍ وأوروبا الحليفة في وادٍ آخر.
ويبدو من ردود فعل الأوروبيين أن التطمينات لم تكن مجدية، حسب ما نقلته التقارير، خصوصاً عن الجانب الألماني. فالثقة تآكلت، وأوروبا "لم تعد ترى أن الرئيس (الأميركي) يهتم بمواقفها أو بمصالحها. التحالف كسر"، وهو تعبير تكرر على لسان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي نسب إليها قولها إن "النظام العالمي الذي تولت أميركا قيادته قد انهار وتحطم". توصيف توقف عنده مراقبون لأنه صادر عن دولة مركزية في الاتحاد الأوروبي ومعروفة بحرصها على العلاقة المميزة مع واشنطن. ذهابها إلى هذا الحد ورفعها لشعار أنه على القارة الأوروبية "الاتكال على نفسها"، شكل إشارات واضحة على عمق التباين مع واشنطن والذي يرى أوروبيون أنه تباين موضوعي كبير يتخطى ترامب "الذي ليس أكثر من ظاهرة" في هذا السياق.
وفيما أبقى بايدن على بصيص أمل بإمكانية عودة الحلف مع أوروبا إلى سابق عهده لكن بعد رحيل ترامب، توقف دبلوماسيون وسياسيون أوروبيون شاركوا في الاجتماع عند دلالات مقابلة وعده بأن "هذا الأمر سيمر، وأميركا ستعود" ما أن يرحل ترامب عن البيت الأبيض بالتصفيق الحاد وقوفاً من الحاضرين في مؤتمر ميونخ للأمن. وبالنسبة إليهم، فإن هذا الفرح كشف عن حالة الضعف التي اعترت الدبلوماسية الغربية في مواجهة سياسة تأكيد الذات التي انتهجها ترامب، إذ إنه لم يكن هناك رد فعل منسق من الأوروبيين حيال رسالة "أميركا أولاً"، فقد وجدت ميركل نفسها وحيدة بعدما ألغى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حضوره في اللحظات الأخيرة. ودفع ذلك البعض للتحسر على إخفاق الغرب في تأييد النظام الدولي القائم على قواعد راسخة الذي ناصرته واشنطن نفسها قبل وصول ترامب إلى الحكم. وآلت إلى الصين مهمة مساعدة ميركل في دفاعها عن النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تحدث يانغ جي تشي، أرفع الدبلوماسيين الصينيين، بالإنكليزية لأكثر من 20 دقيقة عن فضائل التجارة الحرة والتعاون العالمي.
كما أنه على الرغم من الفرح بتصريح بايدن، إلا أن الأوروبيين غير مقتنعين بأنه يمكن لبايدن أو أي شخص آخر إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إذ إنه وحتى لو هزم الديمقراطيون ترامب في الانتخابات الرئاسية في العام 2020، فإن حلفاء أميركا يعتبرون أنه لا يمكن إصلاح الضرر الذي حصل في عهد ترامب، خصوصاً التشكيك بمصداقية السلطات الأميركية في التعاون مع العالم، مشيرين إلى أن أجزاء رئيسية في "الترامبية" ستبقى حية، بغض النظر عن فترة رئاسته أو عمن سيخلفه. وقال مسؤول ألماني رفيع المستوى: "نكون أغبياء إذا اعتقدنا أن ترامب شذوذ". ويأتي هذا الكلام الأشبه بالنعي للتحالف الأوروبي الأميركي، على خلفية مؤتمرين في الأيام الأخيرة، في واشنطن ووارسو، لتعزيز "التحالف" ضد تنظيم "داعش" وإيران. وقد انتهيا إلى أقل من المطلوب بكثير، إذا لم يكن إلى الفشل الذي جرى حجبه بالديباجة الفضفاضة، إذ لا يستقيم سعي إدارة ترامب لبناء التحالفات في أي ملف، طالما أن سياستها الخارجية تقوم على كسر القائم من الأحلاف والاتفاقيات. وحتى الحليف التاريخي القديم والأهم، فقد الثقة بالعلاقة معها وبجدواها. يشار إلى أن لمدينة ميونخ مواعيد كبيرة مع التاريخ، إذ عقد في العام 1938 مؤتمر فرنسي بريطاني إيطالي للموافقة على ضم جزء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا، والذي تبعه التمدد الألماني وانفجار الحرب العالمية الثانية. ومؤتمرها بالأمس ربما كان المحطة الأولى لتفكيك الحلف الذي قام على أنقاض تلك الحرب.