08 نوفمبر 2024
التحامل على المُتَدَيِّنينَ من المسلمين
عندما نتحدث عن "الإسلاموفوبيا"، فإننا في الغالب نتحدّث عنها في السياق الغربي، أين تطورت صناعةً ذات أهداف شريرة، مدفوعة بأجنداتٍ غير بريئة، للتخويف من الإسلام وتأجيج مشاعر الكراهية، والتحامل على المسلمين، وتسويغ التمييز العنصري والديني بحقهم. هذه حقائق ثابتة في العقدين الماضيين، وقد صدرت دراسات مُحْكَمَةِ عديدة، تفضح هذه الصناعة، ومن يقف وراءها وأهدافهم منها، ومن ذلك دراسة صدرت عام 2015 عن مركز التقدم الأميركي بعنوان: Fear Inc. 2.0، أو "شركة الخوف"، ثم تبعتها دراسات أخرى كثيرة، منها واحدة صدرت عن جامعة بيركلي الأميركية المرموقة. هدف هذا المقال ليس مناقشة "الإسلاموفوبيا" في سياقها الغربي، بقدر ما أنه يهدف إلى تسليط الضوء على صناعة "الإسلاموفوبيا" بين المسلمين أنفسهم. وقد يكون مستغربا إن استهللت بالزعم أن "الإسلاموفوبيا" بين المسلمين تضاهيها بين غيرهم، وأن المتواطئين فيها ليسوا فقط أنظمة قمعية جعلت من "الإسلام السياسي" فزّاعة لإجهاض حق وطموحات الشعوب العربية بالحرية والكرامة. بل إن مثقفين عربا كثيرين، بمن فيهم "ليبراليون"، لا يقلون تواطؤاً في هذا السياق، هذا إن لم يكونوا الأكثر تحاملاً على المتدينين في حياتهم الشخصية وتشويههم، بل وربما محاولة إقصائهم واستئصالهم.
لا أرى في الحكم السابق مبالغة، ذلك أنك تلمسه في اللمز والغمز عند الحديث عن مسلم متدين في حياته الشخصية، مهما كانت كفاءته الفكرية أو الوظيفية. كثيراً ما تجد ذلك الاستخفاف بالمتديّن، رجلاً وامرأة، وكأن تدينهما منقصة، إن لم يكن ناقضاً لمستوى راقٍ قد يكونان عليه في مجاليهما! وبالمناسبة، وقبل الاستطراد أكثر، أتحدث هنا حصراً عن تدين شخصي، وليس عن انتماء تنظيمي أو إيديولوجي معين، سواء لتيار ضمن ما يعرف بـ"الإسلام السياسي"، أو لطرق وتيارات سلفية وصوفية منظمة. هذا لا يعني تسويغاً لمحاولات أيٍّ كان أن يعيب على آخر انتماءه الديني أو الفكري أو السياسي أو التنظيمي، فهذه حقوقٌ محفوظةٌ، أيّاً كانت وجهة الفكر والانتماء، ولكنها محاولة لتوضيح مدى العطب والخلل في مقاربات كثيرين منا لمسألة التديّن، بل والإسلام نفسه دينا.
المفارقة هنا أن كثيرين ممن يصنفون أنفسهم علمانيين وليبراليين ويساريين عرباً يَتَذَمَّرونَ وَيَضُجونَ من محاولات بعض، بين من يصنفون أنفسهم "إسلاميين"، مصادرة حقهم في تبني الفكر والسلوك الذي يريدونه في حياتهم الشخصية. أشاركهم ذلك التذمر والضجر. ولكن كيف يمكنهم تفسير محاولاتهم هم التدخل في خصوصيات غيرهم، وإصدار أحكام عليهم، والتقليل من شأنهم، بل وتسفيههم والحطُّ من قدرهم وقدراتهم، فقط لأنهم متدينون في فكرهم وسلوكهم الشخصي! أم أن هذه ليست حرية شخصية عندما يتعلق الأمر بالتدين؟
الكفاءة كالأخلاق ليسا بالضرورة مرتبطين بالتدين من عدمه. كم من مُتَدَيِّنٍ عديم الأخلاق، الدين عنده أقرب إلى قشور؟ ينطبق الأمر نفسه على المتأدلجين بين العرب بغير إيديولوجيا "الإسلام السياسي" ممن يمقتون التدين. كم من "ليبرالي" هو إقصائي واستئصالي؟ وكم من "يساري" برجوازي وغير ثوري؟ وكم من "علماني" يعطي لنفسه حق التدخل في فضاء الدين، وليس فقط محاولة فصله عن فضاءي السلوك والسياسية؟ بل قد يتوسل بعضهم الدين طريقاً لتحقيق أهداف ذاتية أو حزبية!
واستمراراً في موضوع الكفاءة، إطارها ليس الإيديولوجيا، وإنما التخصص والخبرة والاستيعاب والإحاطة والعمق، متحرّراً كله من إسار الإيديولوجيا والقوالب الجاهزة في التحليل والتفسير. إن "العلمانيين" و"الليبراليين" و"اليساريين" بين العرب ممن يحللون الظواهر ويدرسونها بمقاسات الإيديولوجيا وقيودها ليسوا أفضل حالاً من "إسلاميٍّ" يُخْضِعُ كل حالة، وكل ظاهرة، لموازين فقهية ودينية. إذن، ليس الأمر مرتبطا بالتديّن من عدمه، وإنما بالقدرة على الانفكاك من قيود إيديولوجية صارمة، في قراءة حالات وظواهر حية ومرنة ومتحركة.
أبعد من ذلك، النظرة الدونية لصاحب كفاءة، ومتدينٍ في حياته الشخصية، متفتح الآفاق، مبدع في مجال عمله، هي إدانة بالدرجة الأولى لصاحب النظرة الاستعلائية الفوقية، فهي دليل ضحالة فكرية، كما هي دليل سوء أخلاق. ثمَّ، لماذا فقط المسلم هو من يهاجَم إن كان متديناً؟ أيجرؤ أحد أن يسائل كفاءة مسيحي أو يهودي على أساس تدينه الشخصيِّ؟ طبعا لا، ولا ينبغي أن يحدث ذلك أصلاً، فهذا أيضاً دليل ضحالة فكرية وسوء أخلاق. ولكن التساؤل هنا للقول إن هذا إن أكد شيئاً، على الأقل في تقديري، فإنما يؤكّد أن المسألة مرتبطة بصورة من صور "الإسلاموفوبيا" منتشرة بين بعض المسلمين.
كما في أي دين آخر، ليس التدين إسلاميّاً علامة تخلف أو رجعية. هذه خيارات وحريات شخصية، ولا يجوز لأحد أن يتدخل فيها، أو أن يصدر أحكاماً قيمِيَّةَ دونِيَّةً على أساسها. لا فرق بين مُتَدَيِّنٍ وغيره في مجال العمل إلا بالكفاءة. والمُحَجَّبَةُ لا تقل كفاءةً عن غير المُحَجَّبَةِ بسبب ارتدائها الحجاب. والعكس صحيح. الحكم للميدان لا للتحيزات. وكما أن بعضهم يرى أن التحرّر من القيم الدينية الإسلامية حرية شخصية، فإن الالتزام بتلك القيم أيضاً حرية شخصية. لا تحرّرك من تلك القيم يجعل منك متفوقاً وعميقاً، ولا الالتزام بها يجعل منك رجعياً ومتخلفاً. والعكس صحيح. وبالمناسبة، في دولة كأميركا لا يعتبر التدين الشخصيُّ طعناً في كفاءة أحد، حتى ولو تداخلت قناعات ذلك الشخص الدينية مع مواقفه السياسية. راجعوا من هو مايك هاكبي، الحاكم السابق لولاية أركنسا، والمحلل السياسي اليمينيُّ على قناة "فوكس نيوز". كان قسيساً في الكنيسة المعمدانية، وهو لا يزال فخوراً بتدينه وتأثير تدينه في صياغة مواقفه السياسية. أيضا، الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، دَرَّسَ المسيحية في الكنيسة في أيام الأحد عقودا طويلة. لا أحد من المتحاملين، بين العرب، على الإسلام وعلى الملتزمين به ينتقص من هؤلاء، ولا حتى من مثقفين عرب من غير المسلمين الملتزمين بدينهم. هذا دليل ضحالة وشعور بالدونية، ودليل على تردٍ أخلاقي. قناعاتنا وأفكارنا وتديننا، أو عدم تديننا، حرياتٌ شخصية لا ينبغي لأحد أن يتطفل عليها. عش حياتك كما تريد، وسأعيش حياتي كما أريد، فحياة كل واحد فينا شأنٌ خاص لا دخل لأحد فيه، ما دام لا يؤثر على المحيطين بنا، ومقياس الكفاءة يحدّده ميدان العمل، لا الإيديولوجيات التي ننتمي إليها. وَنَعَمْ، بئست تلك الصيغة المقيتة من "الإسلاموفوبيا" المنتشرة بين بعض العرب والمسلمين.
المفارقة هنا أن كثيرين ممن يصنفون أنفسهم علمانيين وليبراليين ويساريين عرباً يَتَذَمَّرونَ وَيَضُجونَ من محاولات بعض، بين من يصنفون أنفسهم "إسلاميين"، مصادرة حقهم في تبني الفكر والسلوك الذي يريدونه في حياتهم الشخصية. أشاركهم ذلك التذمر والضجر. ولكن كيف يمكنهم تفسير محاولاتهم هم التدخل في خصوصيات غيرهم، وإصدار أحكام عليهم، والتقليل من شأنهم، بل وتسفيههم والحطُّ من قدرهم وقدراتهم، فقط لأنهم متدينون في فكرهم وسلوكهم الشخصي! أم أن هذه ليست حرية شخصية عندما يتعلق الأمر بالتدين؟
الكفاءة كالأخلاق ليسا بالضرورة مرتبطين بالتدين من عدمه. كم من مُتَدَيِّنٍ عديم الأخلاق، الدين عنده أقرب إلى قشور؟ ينطبق الأمر نفسه على المتأدلجين بين العرب بغير إيديولوجيا "الإسلام السياسي" ممن يمقتون التدين. كم من "ليبرالي" هو إقصائي واستئصالي؟ وكم من "يساري" برجوازي وغير ثوري؟ وكم من "علماني" يعطي لنفسه حق التدخل في فضاء الدين، وليس فقط محاولة فصله عن فضاءي السلوك والسياسية؟ بل قد يتوسل بعضهم الدين طريقاً لتحقيق أهداف ذاتية أو حزبية!
واستمراراً في موضوع الكفاءة، إطارها ليس الإيديولوجيا، وإنما التخصص والخبرة والاستيعاب والإحاطة والعمق، متحرّراً كله من إسار الإيديولوجيا والقوالب الجاهزة في التحليل والتفسير. إن "العلمانيين" و"الليبراليين" و"اليساريين" بين العرب ممن يحللون الظواهر ويدرسونها بمقاسات الإيديولوجيا وقيودها ليسوا أفضل حالاً من "إسلاميٍّ" يُخْضِعُ كل حالة، وكل ظاهرة، لموازين فقهية ودينية. إذن، ليس الأمر مرتبطا بالتديّن من عدمه، وإنما بالقدرة على الانفكاك من قيود إيديولوجية صارمة، في قراءة حالات وظواهر حية ومرنة ومتحركة.
أبعد من ذلك، النظرة الدونية لصاحب كفاءة، ومتدينٍ في حياته الشخصية، متفتح الآفاق، مبدع في مجال عمله، هي إدانة بالدرجة الأولى لصاحب النظرة الاستعلائية الفوقية، فهي دليل ضحالة فكرية، كما هي دليل سوء أخلاق. ثمَّ، لماذا فقط المسلم هو من يهاجَم إن كان متديناً؟ أيجرؤ أحد أن يسائل كفاءة مسيحي أو يهودي على أساس تدينه الشخصيِّ؟ طبعا لا، ولا ينبغي أن يحدث ذلك أصلاً، فهذا أيضاً دليل ضحالة فكرية وسوء أخلاق. ولكن التساؤل هنا للقول إن هذا إن أكد شيئاً، على الأقل في تقديري، فإنما يؤكّد أن المسألة مرتبطة بصورة من صور "الإسلاموفوبيا" منتشرة بين بعض المسلمين.
كما في أي دين آخر، ليس التدين إسلاميّاً علامة تخلف أو رجعية. هذه خيارات وحريات شخصية، ولا يجوز لأحد أن يتدخل فيها، أو أن يصدر أحكاماً قيمِيَّةَ دونِيَّةً على أساسها. لا فرق بين مُتَدَيِّنٍ وغيره في مجال العمل إلا بالكفاءة. والمُحَجَّبَةُ لا تقل كفاءةً عن غير المُحَجَّبَةِ بسبب ارتدائها الحجاب. والعكس صحيح. الحكم للميدان لا للتحيزات. وكما أن بعضهم يرى أن التحرّر من القيم الدينية الإسلامية حرية شخصية، فإن الالتزام بتلك القيم أيضاً حرية شخصية. لا تحرّرك من تلك القيم يجعل منك متفوقاً وعميقاً، ولا الالتزام بها يجعل منك رجعياً ومتخلفاً. والعكس صحيح. وبالمناسبة، في دولة كأميركا لا يعتبر التدين الشخصيُّ طعناً في كفاءة أحد، حتى ولو تداخلت قناعات ذلك الشخص الدينية مع مواقفه السياسية. راجعوا من هو مايك هاكبي، الحاكم السابق لولاية أركنسا، والمحلل السياسي اليمينيُّ على قناة "فوكس نيوز". كان قسيساً في الكنيسة المعمدانية، وهو لا يزال فخوراً بتدينه وتأثير تدينه في صياغة مواقفه السياسية. أيضا، الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، دَرَّسَ المسيحية في الكنيسة في أيام الأحد عقودا طويلة. لا أحد من المتحاملين، بين العرب، على الإسلام وعلى الملتزمين به ينتقص من هؤلاء، ولا حتى من مثقفين عرب من غير المسلمين الملتزمين بدينهم. هذا دليل ضحالة وشعور بالدونية، ودليل على تردٍ أخلاقي. قناعاتنا وأفكارنا وتديننا، أو عدم تديننا، حرياتٌ شخصية لا ينبغي لأحد أن يتطفل عليها. عش حياتك كما تريد، وسأعيش حياتي كما أريد، فحياة كل واحد فينا شأنٌ خاص لا دخل لأحد فيه، ما دام لا يؤثر على المحيطين بنا، ومقياس الكفاءة يحدّده ميدان العمل، لا الإيديولوجيات التي ننتمي إليها. وَنَعَمْ، بئست تلك الصيغة المقيتة من "الإسلاموفوبيا" المنتشرة بين بعض العرب والمسلمين.