التحريض والتنمر بدعوى حرية الرأي
أن تعيش في فضاء المعرفة وتعدد الآراء بين القبول والرفض في عصر العولمة؛ فهذا سمو ثقافي جميل بحق هذا الجيل الذي يؤمن بحرية الرأي والتعبير، ولكن الأجمل أن يتجسد هذا المبدأ بخلوه تمامًا من التحريض والتنمر والكراهية، التي ابتلي بها الكثير من الطبقة المثقفة في المجتمعات العربية وغيرها..
بيد أن البشر خلقوا متفاوتين في العقول والأفهام، حيث إن الاختلاف في الشكل واللون والبنى الجسمية والعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية وغير الدينية سنّة كونية، وطبيعة بشرية منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها حتى يومنا هذا، ولا يمكن أن تجتمع أمة على رأي واحد، وهذا ما حكاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ". (سورة هود، الآية 118)، فمقتضى الآية الكريمة أن الخلاف قائم ودائم حتى قيام الساعة، حيث اقتضت حكمة الله أن يكون الاختلاف سببا للتعارف والتكامل بين الشعوب والأمم، وعاملا أساسيا في تعزيز العلاقات وتقويتها، وليس للتعصب والصراعات والقتل، فلقد بين لنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم قائلا "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". (الحجرات، الآية 13).
وبما أن الاختلافات قد زادت حدتها، واشتعلت وتيرتها، وكِيل بالتُهم والتحريض والتنمر والشتائم حتى بلغت ذروتها؛ فرض على كثير من المثقفين والأكاديميين المعتدلين الانسحاب من مواقع التواصل الاجتماعي تجنبا للوقوع في النعرات الطائفية والحزبية، وخشية أن يُقوَّلوا ما لم يقولوا، ويُفترى عليهم أمام الأشهاد، ونتاج ذلك وللأسف نكون قد حجبنا شمس المعرفة وروادها بسبب أخلاقنا وسوء تعاملنا الخالي من الأخلاق واحترام الرأي الآخر.
وعلى كُلٍّ، فقد أصبحنا نتساءل في أنفسنا عن سبب غياب ثقافة الرأي والرأي الآخر، وعدم تفعيل مبدأ قولك صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولي خطأٌ يحتمل الصواب، وليعذُر بعضنا بعضًا؟
للإجابة عن هذا السؤال، سنركز على أهم العوامل الأساسية في غياب ثقافة احترام الرأي، واستبدالها بالكراهية والتنمر، وهو ما يتنافى مع قيمنا ومعتقداتنا وأعرافنا، ومن أهمها:
أولًا : غياب التوعية الصحيحة بمفهوم الرأي والرأي الآخر، وعدم التفريق بين النص الإلهي المقدس، والرأي البشري القابل للنقد، كأن يتربى الطفل منذ صغرة على الأستاذية الأبوية داخل أسرته، والتي للأسف الشديد يمارسها بعض الآباء داخل البيوت على أبنائهم وزوجاتهم، ولا يتيح لهم فرصة إبداء الرأي مما يتبادر للأذهان مع مرور الزمن أن الاعتراض أو اقتراح تعديل لقول الأب يُعد إخلالًا باحترامه، حيث يتم الخلط بين مفهوم الاحترام والقداسة الإلهية، إذ ينتقل الطفل الى المدرسة ومن ثم إلى الجامعة، ويتلقى من المعلم والمحاضر نفس الأسلوب؛ فينشأ شخصًا عصبيًا متعصبًا لرأيه ولا يؤمن بالأخذ من الآخرين، فنتوارث هذا المنوال جيلًا بعد جيل حتى تبقى ثقافة عدم القبول بالرأي هي الثقافة السائدة في مجتمعاتنا.
التعبير عن الرأي عامل مهم في صقل الشخصية الإنسانية، وغرس قيمة الاستقلالية في الفرد، وهو أيضًا عاملٌ إيجابيٌ في التنفيس عن مشاعر الاحتقان، مما يُكسب الإنسان راحةً نفسيةً، ويُسهم إيجابيًا في صحته النفسية
ثانيًا: التعصب الأعمى للرأي، سواء كان شخصيًا أو سياسيًا أو حزبيًا أو عرقًيا أو أيًا كان نوعه، حيث يرسم في ذهنه أن الاستسلام للطرف الآخر صاحب الرأي السديد يُعد "انكساراً وهزيمة"، وهذا ما نلمسه في واقعنا، خصوصًا في مواقع التواصل.
ثالثًا: غياب الأدب الذي ينبغي علينا اعتماده في التعامل مع الرأي الآخر من استماع القول واتباع أحسنه، وهذا منهج رباني قويم ذَكّرنا به ربنا قائلًا "فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ". (الزمر، الآية 18).
رابعًا: الاعتقاد الخاطئ بتفوق جنس على آخر، كالجنس الأبيض على الأسود، أو الخيرية العقائدية واحتكار الخيرية وحصرها في معتقد أو دين واحد دون الأديان الأخرى أو سلالة دون سلالة، وهذا من أهم عوامل الصراعات والحروب التي شهدتها وعانت منها البشرية على مر العصور حتى يومنا هذا.
خامسًا وأخيرًا: العجلة في فهم مقصد صاحب الرأي - دون مراعاة نية الكاتب أو المتحدث - وإصدار الحكم بناءً على لغةٍ ضبابيةٍ تتناول صاحب الرأي بالتجريح والتنمر وتحريض الآخرين عليه، إذ يفترض أن يتم التعامل مع الرأي الآخر بتناول حياة صاحبه بالتشريح، وبيان عيوبها وهي لغة يعوزها الطابع العلمي.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن التعبير عن الرأي عامل مهم في صقل الشخصية الإنسانية، وغرس قيمة الاستقلالية في الفرد، وهو أيضًا عاملٌ إيجابيٌ في التنفيس عن مشاعر الاحتقان، مما يُكسب الإنسان راحةً نفسيةً، ويُسهم إيجابيًا في صحته النفسية.
كثيرا ما تتردد على أفواه الكُتَّاب والإعلاميين والناشطين مقولة "الاختلاف لا يُفسد للود قضية" ولكن للأسف ما إن تدلي برأيك الذي كنت متحفظًا به، حتى لا تقع في مصيدة المتربصين؛ إلا ويشن عليك البعض حملة إعلامية شنيعة بسبب كونك خالفت وجهة نظرهم، والتي يعتقدون بحسبانهم أنها الصحيحة وما دونها خطأ، فيسخطون ويتذمرون، ويُلوِحُون إليك بالعصى، ويخرجون عن تصرفاتهم الطبيعية الآدمية، لتنهال عليك الشتائم والتهديدات بلا مبرر سوى اختلافك مع رأيهم، متناسين الهدي الرباني "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ". (آل عمران 159). ويغيب عنهم مبدأ "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". (النحل 125).
فإيمانك بآراء الآخرين برهانٌ كافٍ على مدى ثقافتك وسعة صدرك، ولتعي أن أعقل الناس من جمع إلى عقله عقول الناس؛ لأن العقول كالمصابيح إذا اجتمعت ازداد النور، ووضح السبيل، إذ إن تمكنك من الاطلاع على الأفكار المتفاوتة والأبعاد الخاصة ينور لك المعرفة ويدعم رأيك، بخلاف الانفعال الذي يقود الى الإحباط والتشنج، وتسفيه وجرح مشاعر الآخرين، وخدش اعتباراتهم، ما يُورِثَ الفرقة والشتات والحقد والكراهية في أوساط المجتمع.
فضلًا عن أن الاختلاف بالرأي والمعتقد هو في الأصل يعكس ظواهر إنسانية إيجابية ومتحضرة؛ لأنها نتاج تجارب شخصية ومجتمعية كونت منظورًا ورؤى خاصة حول قضية أو مسألة ما، ويختلف هذا المنظور أو الرؤية من شخص لآخر، وعندما يتم احترام ذلك الاختلاف؛ فإن الصورة الكلية الإيجابية تكتمل بشكل ناصع ونافع للأشخاص والمجتمعات التي تؤمن باحترام الرأي الآخر، وتجنب الكراهية والتنمر والحقد والتعصب بذريعة حرية الرأي.