07 نوفمبر 2024
التحرّش الجنسي والاغتصاب ومستقبل الحب
المنتج السينمائي الأميركي هارفي ونستن. هذا اسم يُحفظ. قد يدخل التاريخ من باب تحولات العلاقة بين الجنسين. وإنجازه الأشهر ليس عشرات الأفلام التي أنتجتها شركته العملاقة "ميراماكس"، وقد حصدت جوائز وأوسكارات. إنما وقوعه في فخ إدانته الصريحة بتحرشات منتظمة بالممثلات المرشّحات لأدوارٍ في أفلامه، وابتزازه لهن، بأنه إما تلبية التحرّش، ولو بالقوة، أو الحرمان من الدور.
منذ أيام قليلة، حصل مثل انفجار إعلامي. مقال من هنا، وآخر من هناك.. ثم طوفان من الشهادات لممثلات وقعن في شباكه، أو قاومن واستغنَين عن أدوار. ثم ودعوات مرفوعة أمام القضاء، سيلٌ من الهشتاغات (جمع هشتاغ) في مواقع التواصل، غاضبة، عنيفة، من نوع # بلّغي عن خنزيرك، للنساء، وأخرى اعترافات لرجال # نعم فعلتُها. وتصريحات متألمة لنجوم ونجمات من هوليود.. وتدفّق أقوال جديدة، متدحرجة، متعاظمة، تروي تجارب ممثلاتٍ إضافياتٍ تعرّضن للاصطياد نفسه. شيءٌ يشبه "المنعطف الثقافي"، حسب رونان فارو، ابن وودي ألن وميا فارو، وهو صاحب المبادرة الأولى في جمع ونشر شهادات لممثلات أميركيات وأوروبيات مرموقات، تعرّضن للابتزاز الجنسي على يد هارفي ونستن. ثم همسات أطلقها جورج كلوني وتارانتينو، وغيرهما من النجوم، بأنهم كانوا على بيّنة من تحرّشاته.
قالت ميريل ستريب إن هذا الرجل "كان داعماً رئيسياً للقضايا النسوية". بل كان داعماً للحزب الديموقراطي، وفي الحملات الانتخابية، ممولاً رئيسياً لهيلاري كلينتون. والأخيرة، كما نعلم، كانت تدعو النساء إلى تأييدها بصفتها حاملةً قضاياهن؛ وأشهر الدعوات لإحدى كبريات المتحمسات لها، مادلين أولبرايت، بأن "دخول الجحيم مكفول لمن لا تصوِّت لهيلاري".. وبعض المحلّلين الأميركيين يعتقد أنه لو فازت هيلاري لكان هارفي ونستن الآن ما زال
مستغرقاً بأمان في هواية اصطياد ممثلات راغبات بالقيام بمهنتهن. لأنه سيكون وقتها ربح مزيدا من السلطة. هيلاري كلينتون كانت، مثل نجوم هوليود على علم بهواية ونستن، لكنها لم تتكلم. أبقت الموضوع في سرّه الدافئ، لأسبابٍ مفهومة. وبهذا تكون شماتة دونالد ترامب في موضعها الصحيح. ولسان حاله يقول إن اتهامه هو باحتقار النساء وتشييئهن وتحويلهن إلى بضاعة جنسية.. كلها تنطبق على خصومه من الديموقراطيين. مثله يحتقرون النساء، بدليل سكوتهم عن المغتصب الأشهر في العالم الهوليودي، الداعم لغريمته، هيلاري كلينتون، والذي حفلت صروحه بالسخرية من فظاظته، من جهله، ومن احتقاره النساء.
ولكن مهلاً. هذه ليست أولى الإدانات لأميركيين متحرّشين مغتصبين. الدرجة الأدنى من الشرائح الاجتماعية، كانت أولى الفئات الموضوعة تحت مجهر التحرّش. قبل قضية ونستن، كانت الأيديولوجية النسوية، وقد أصبحت "صائبة سياسياً" (politically correct)، تحصد ضحاياها من بين المواطنين الأميركيين البسطاء. أية بسمة، أو نظرة، أو همسة، أو ابتسامة، أو لمسة، يكون حسابها عسيرا أمام المحاكم. خصوصاً إذا كانت الضحية صاحبة إمكانات، قادرة على دفع أجور المحامين؛ تضع الرجل الذي لا تطيقه وراء القضبان بفضل أموالها، مدعومة بتلك الأيديولوجية النسوية: مثل قضايا أخرى عادلة، يشتغل عليها الأقوياء، يصادرونها لصالحهم. إنه نظام متكامل: الأدنى في الدرجة لا يحق لهم التحرّش. وحدهم الأعلى شأناً مغفورون ومسكوتٌ عن تحرّشاتهم الملحاحة. وإذا لم تمتثل فريستهم، فالحرمان من الدور، أو الصرف من العمل، أو من الطموح، وإرغامها على مداراة النيْل من كرامة جسدها، وبصمت، حتى آخر أيامها (مثل السجين الذي يوقع أقوالاً انتُزعت منه تحت التعذيب). وعندما فقَدَ ونستن سلطته، أو جزءا منها، نتيجة عوامل معقدة، رُفع الحرم عنه، وانهالت الشهادات والقضايا المرفوعة ضده في المحاكم الأميركية، فانتقل العقاب من تحت إلى فوق؛ من الفئات الأدنى إلى الأعلى.
هارفي ونستن الآن منسحبٌ من الحياة العامة. زوجته تركته. تخلت عنه شركته، وطردته أكاديمية الأوسكار. وهو قرّر الخضوع لعلاج "الإدمان على الجنس". وهذا مرضٌ وهمي بشهادة أعلى هيئة صحية أميركية (DSM). مرضٌ يصيب كل صاحب سلطة، كلما ارتقى بها، ارتفع عدد ضحاياه من الجميلات المثيرات، فغُفرت ذنوبه، بدليل إصابته، "البديهية"، بمرض "الإدمان على الجنس". وتكاليف العيادات المتخصصة بأمراض كهذه باهظة، ولا يستطيع ارتيادها إلا الكبار من بين الرذلاء.
(ملحق لهذه القضية على صعيدنا: كاتبة فرنسية من أصول مغاربية، اسمها، هند عياري، كانت في شبابها سلفية التوجه، فتقرّبت من طارق رمضان، حفيد حسن البنا من جهة أمه، والوجه الذائع على الشاشات الأوروبية للإسلام الإخواني، والكاتب والأستاذ جامعي، المقيم في سويسرا. هند عياري تطلق واحدة من شظايا قضية ونستن، برفعها دعوى قضائية ضد رمضان، بتهمة الاغتصاب. وتصرّح على صفحتها، فيسبوك، إن الرواية التي كتبتها العام الماضي "اخترت أن أكون حرة"، عن عمليات اغتصاب منظمة تعرّضت لها، كان منفذها هو رمضان بالذات، داعية الأخلاق الإسلامية الحميدة.. بهذه المناسبة، متى نكشف عن المغتصبين من بين كبارنا، أكانوا سينمائيين أو شبيحة، أو شخصيات "مهمة"؟).
كيف بدأت المشكلة؟ بسوء تفاهم أساسي بين الجنسين، منذ اندلاع الثورة النسوية، والثورة
الجنسية، وانتشار النساء في المجال العام. وقد تلازم خلالهما أمران: حرب مواقع خاضها الرجال، حفاظا على امتيازاتهم الجنسية، غير القليلة. وما سهّل إشعال نيران هذه الحرب هو ذاك الانتشار للنساء تحديداً، وعدم فهم المتحرّشين معنى حريتهن الجنسية.. في هذا الخندق، تتراوح المناورات بين الاغتصاب، الأعنف، و"الأنعم"، مثل فرض شروط جمالية على النساء، بأن تكون لا تكون إلا مثيرة (sexy).. يقابل هذا الخندق تغير حثيث للذهنيات بخصوص النساء، وزيادة الاحترام لكرامة جسدههن.
ونستن نشأ في البيئة المتخنْدقة خلف متاريسها ضد النساء. يقول، مبرراً جرائمه: "أنا كبرتُ في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث كان السلوك في العمل مختلفا تماماً". افهم أنتَ أن "العقد بين الجنسين" كان مغايراً: يجيز لرب العمل، أو نظيره، أن يحصل على لذّته الجنسية من الموظفة أو العاملة تحت إدارته، من دون سؤال. لكن العقليات تغيرت خلال العقود الأربعة الأخيرة، وصار العنف الجنسي قائماً بذاته يستحق العقاب المنصوص عليه بالقانون. الكبار تفلتوا من العقاب، عندما كانت العقليات العامة تسمح لهم بذلك. الآن، صارت الموجة ربما أقوى من النفوذ والمال. وإذا كتب لها الدخول في التاريخ، فبصفتها منعطفاً لتطور العلاقة بين الجنسين.
من الآن فصاعدا، ترقبوا تحولاً في "هوليود". أفلام تشبه قضية ونستن، انتصار للعدالة.. إلخ. ثم تأثر مخرجينا ومنتجينا بهذا التوجه الجديد ومحاكاته. وما تضخّه هذه الأفلام من تصورات تجاه العلاقة بين الجنسين. وما يليها من أفلام، أو تصورات تنقضها، وتعيد النساء إلى عصر الحريم، حيث لم يكن للمرأة حق لذتها، مقابل حق الرجل السيادي على جسدها. إنه عصر القلاقل بين الجنسين، والخنادق المتواجهة. ومعارك استعادة حقوق الجسد الأنثوي. يقابلها دفاع مستميت للرجال عن امتيازاتهم الجنسية التاريخية. وفي وسطهما عبادة النظر لصورة المرأة المغرية (كيم كردشيان مثالاً).
"خطوة الى الأمام، خطوتان الى الوراء" (لينين). ثورة وثورة مضادة، ثم فوضى عارمة نتيجة التحام الأجساد في القتال.. والسؤال عن مستقبل الحب وميراثه. عن مستقبل تلك العاطفة المصيرية، حليفة الشعر والروح، صديقة الغزل والتودّد. لا يمكن أن تبقى كما كانت. يسمّمها الحذر والعراضات وموازين القوى، ما لا يسمح لها بخلق قواعد اللعبة الجديدة بين الجنسين؛ القواعد المحبّبة، أقصد. ربما هذا هو أصل الجفاء، أو أصل الفراغ العاطفي والجنسي بين من يُفترض أن يكونوا عشاقاً.
منذ أيام قليلة، حصل مثل انفجار إعلامي. مقال من هنا، وآخر من هناك.. ثم طوفان من الشهادات لممثلات وقعن في شباكه، أو قاومن واستغنَين عن أدوار. ثم ودعوات مرفوعة أمام القضاء، سيلٌ من الهشتاغات (جمع هشتاغ) في مواقع التواصل، غاضبة، عنيفة، من نوع # بلّغي عن خنزيرك، للنساء، وأخرى اعترافات لرجال # نعم فعلتُها. وتصريحات متألمة لنجوم ونجمات من هوليود.. وتدفّق أقوال جديدة، متدحرجة، متعاظمة، تروي تجارب ممثلاتٍ إضافياتٍ تعرّضن للاصطياد نفسه. شيءٌ يشبه "المنعطف الثقافي"، حسب رونان فارو، ابن وودي ألن وميا فارو، وهو صاحب المبادرة الأولى في جمع ونشر شهادات لممثلات أميركيات وأوروبيات مرموقات، تعرّضن للابتزاز الجنسي على يد هارفي ونستن. ثم همسات أطلقها جورج كلوني وتارانتينو، وغيرهما من النجوم، بأنهم كانوا على بيّنة من تحرّشاته.
قالت ميريل ستريب إن هذا الرجل "كان داعماً رئيسياً للقضايا النسوية". بل كان داعماً للحزب الديموقراطي، وفي الحملات الانتخابية، ممولاً رئيسياً لهيلاري كلينتون. والأخيرة، كما نعلم، كانت تدعو النساء إلى تأييدها بصفتها حاملةً قضاياهن؛ وأشهر الدعوات لإحدى كبريات المتحمسات لها، مادلين أولبرايت، بأن "دخول الجحيم مكفول لمن لا تصوِّت لهيلاري".. وبعض المحلّلين الأميركيين يعتقد أنه لو فازت هيلاري لكان هارفي ونستن الآن ما زال
ولكن مهلاً. هذه ليست أولى الإدانات لأميركيين متحرّشين مغتصبين. الدرجة الأدنى من الشرائح الاجتماعية، كانت أولى الفئات الموضوعة تحت مجهر التحرّش. قبل قضية ونستن، كانت الأيديولوجية النسوية، وقد أصبحت "صائبة سياسياً" (politically correct)، تحصد ضحاياها من بين المواطنين الأميركيين البسطاء. أية بسمة، أو نظرة، أو همسة، أو ابتسامة، أو لمسة، يكون حسابها عسيرا أمام المحاكم. خصوصاً إذا كانت الضحية صاحبة إمكانات، قادرة على دفع أجور المحامين؛ تضع الرجل الذي لا تطيقه وراء القضبان بفضل أموالها، مدعومة بتلك الأيديولوجية النسوية: مثل قضايا أخرى عادلة، يشتغل عليها الأقوياء، يصادرونها لصالحهم. إنه نظام متكامل: الأدنى في الدرجة لا يحق لهم التحرّش. وحدهم الأعلى شأناً مغفورون ومسكوتٌ عن تحرّشاتهم الملحاحة. وإذا لم تمتثل فريستهم، فالحرمان من الدور، أو الصرف من العمل، أو من الطموح، وإرغامها على مداراة النيْل من كرامة جسدها، وبصمت، حتى آخر أيامها (مثل السجين الذي يوقع أقوالاً انتُزعت منه تحت التعذيب). وعندما فقَدَ ونستن سلطته، أو جزءا منها، نتيجة عوامل معقدة، رُفع الحرم عنه، وانهالت الشهادات والقضايا المرفوعة ضده في المحاكم الأميركية، فانتقل العقاب من تحت إلى فوق؛ من الفئات الأدنى إلى الأعلى.
هارفي ونستن الآن منسحبٌ من الحياة العامة. زوجته تركته. تخلت عنه شركته، وطردته أكاديمية الأوسكار. وهو قرّر الخضوع لعلاج "الإدمان على الجنس". وهذا مرضٌ وهمي بشهادة أعلى هيئة صحية أميركية (DSM). مرضٌ يصيب كل صاحب سلطة، كلما ارتقى بها، ارتفع عدد ضحاياه من الجميلات المثيرات، فغُفرت ذنوبه، بدليل إصابته، "البديهية"، بمرض "الإدمان على الجنس". وتكاليف العيادات المتخصصة بأمراض كهذه باهظة، ولا يستطيع ارتيادها إلا الكبار من بين الرذلاء.
(ملحق لهذه القضية على صعيدنا: كاتبة فرنسية من أصول مغاربية، اسمها، هند عياري، كانت في شبابها سلفية التوجه، فتقرّبت من طارق رمضان، حفيد حسن البنا من جهة أمه، والوجه الذائع على الشاشات الأوروبية للإسلام الإخواني، والكاتب والأستاذ جامعي، المقيم في سويسرا. هند عياري تطلق واحدة من شظايا قضية ونستن، برفعها دعوى قضائية ضد رمضان، بتهمة الاغتصاب. وتصرّح على صفحتها، فيسبوك، إن الرواية التي كتبتها العام الماضي "اخترت أن أكون حرة"، عن عمليات اغتصاب منظمة تعرّضت لها، كان منفذها هو رمضان بالذات، داعية الأخلاق الإسلامية الحميدة.. بهذه المناسبة، متى نكشف عن المغتصبين من بين كبارنا، أكانوا سينمائيين أو شبيحة، أو شخصيات "مهمة"؟).
كيف بدأت المشكلة؟ بسوء تفاهم أساسي بين الجنسين، منذ اندلاع الثورة النسوية، والثورة
ونستن نشأ في البيئة المتخنْدقة خلف متاريسها ضد النساء. يقول، مبرراً جرائمه: "أنا كبرتُ في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حيث كان السلوك في العمل مختلفا تماماً". افهم أنتَ أن "العقد بين الجنسين" كان مغايراً: يجيز لرب العمل، أو نظيره، أن يحصل على لذّته الجنسية من الموظفة أو العاملة تحت إدارته، من دون سؤال. لكن العقليات تغيرت خلال العقود الأربعة الأخيرة، وصار العنف الجنسي قائماً بذاته يستحق العقاب المنصوص عليه بالقانون. الكبار تفلتوا من العقاب، عندما كانت العقليات العامة تسمح لهم بذلك. الآن، صارت الموجة ربما أقوى من النفوذ والمال. وإذا كتب لها الدخول في التاريخ، فبصفتها منعطفاً لتطور العلاقة بين الجنسين.
من الآن فصاعدا، ترقبوا تحولاً في "هوليود". أفلام تشبه قضية ونستن، انتصار للعدالة.. إلخ. ثم تأثر مخرجينا ومنتجينا بهذا التوجه الجديد ومحاكاته. وما تضخّه هذه الأفلام من تصورات تجاه العلاقة بين الجنسين. وما يليها من أفلام، أو تصورات تنقضها، وتعيد النساء إلى عصر الحريم، حيث لم يكن للمرأة حق لذتها، مقابل حق الرجل السيادي على جسدها. إنه عصر القلاقل بين الجنسين، والخنادق المتواجهة. ومعارك استعادة حقوق الجسد الأنثوي. يقابلها دفاع مستميت للرجال عن امتيازاتهم الجنسية التاريخية. وفي وسطهما عبادة النظر لصورة المرأة المغرية (كيم كردشيان مثالاً).
"خطوة الى الأمام، خطوتان الى الوراء" (لينين). ثورة وثورة مضادة، ثم فوضى عارمة نتيجة التحام الأجساد في القتال.. والسؤال عن مستقبل الحب وميراثه. عن مستقبل تلك العاطفة المصيرية، حليفة الشعر والروح، صديقة الغزل والتودّد. لا يمكن أن تبقى كما كانت. يسمّمها الحذر والعراضات وموازين القوى، ما لا يسمح لها بخلق قواعد اللعبة الجديدة بين الجنسين؛ القواعد المحبّبة، أقصد. ربما هذا هو أصل الجفاء، أو أصل الفراغ العاطفي والجنسي بين من يُفترض أن يكونوا عشاقاً.