تحولت قضية التطرف وتنامي نفوذ الجماعات المسلحة في الجامعات الباكستانية لمادة نقاش، منذ سنوات عديدة، خاصةً بعدما ثبت تورط عدد من الجامعيين في الأعمال الإرهابية في باكستان وعلى مستوى العالم. لكن في الآونة الأخيرة، طرحت القضية للنقاش على أوسع نطاق، وتعالت الأصوات المطالبة للحكومة بوضع خطة للتصدي لمحاولات الجماعات المسلحة تجنيد الشباب المثقفين ومن داخل أرقى الجامعات، وذلك بعدما أعلنت السلطات الكشف عن جماعة مسلحة جديدة يشكلها طلبة الجامعات وتحمل اسم جماعة "أنصار الشريعة".
خرجت هذه الجماعة إلى العلن قبل أيام بعد تعرض القيادي في "الحركة القومية المتحدة"، خواجه إظهار الحسن، لمحاولة الاغتيال. والحركة تشكلت من الجالية المشهورة بالمهاجرين إلى مدينة كراتشي، وهم الذين جاؤوا إلى باكستان من الهند إثر انفصالها عام 1947. وأدت محاولة الاغتيال إلى مقتل شرطي وأحد المهاجمين في حين لم يصب خواجه بأي أذى. وكانت الشرطة الباكستانية أعلنت أن العملية منسقة للغاية، ومختلفة عن سابقتها في التخطيط والتنفيذ. وشكل مقتل أحد المهاجمين دليلاً قاد الشرطة إلى الكشف عن جماعة جديدة، مما أدى إلى إعادة فتح ملف التطرف في الجامعات الباكستانية.
وبعد أيام من تلك العملية، أعلنت شرطة مدينة كراتشي الكشف عن جماعة "أنصار الشريعة" التي تهدف إلى تنفيذ الشريعة الإسلامية، والتي تتكون من طلاب جامعات باكستانية، لا سيما جامعة "كراتشي".
"أنصار الشريعة" كيان مستقل
عندما تتشكل أية جماعة دينية في باكستان، تكون عادةً تحت مظلة حركة "طالبان" أو تنظيم "القاعدة" أو تنظيم "داعش" الذي بدأ يوسع رقعة نفوذه في المنطقة. لكن "أنصار الشريعة" مستقلة عن هذه التنظيمات، وهي جماعة جديدة شكلها شبان من الجامعات الباكستانية. وتتميز، على ما يبدو، بامتلاك قدرات على التخطيط، وباحتضانها لعناصر ذات خبرة، إذ معظمهم من الجامعات والمعاهد الباكستانية، كما تقول الشرطة. وهذا ما يميز "أنصار الشريعة"، كونها أول جماعة باكستانية تتشكل من دون أن تكون لها علاقة مع الخارج أو انتماء لجماعة مسلحة أخرى داخلياً. وأعضاء الجماعة ينتشرون في كافة أرجاء باكستان، وتم اعتقال عدد منهم في إقليم بلوشستان، على الرغم من أن نشاط الجماعة كان في إقليم السند، وتحديداً في مدينة كراتشي إلى الجنوب.
وفي هذا الصدد، وصفت صحيفة "إكسبرس" الباكستانية، جماعة "أنصار الشريعة" في إحدى مقالاتها، بأنها تنظيم باكستاني محض، شكله "شبان جامعيون متحمسون هدفهم إقامة شرع الله على وجه الأرض". وذكرت قناة "سماء" المحلية، أن هذه الجماعة هي فرع لـ"أنصار الشريعة" في ليبيا، وأن قائدها يدعى أبوذر برني، وشارك في العمل المسلح ضد نظام معمر القذافي، قبل أن يأتي إلى باكستان ويشكل هذا التنظيم بهدف تطبيق الشريعة. إلا أن معظم المراقبين، شأنهم شأن السلطات الباكستانية، يرون أن "أنصار الشريعة" في باكستان لا علاقة لها بالتنظيم الليبي، وليس هناك أدلة تثبت ذلك، وفق الاعتقاد السائد. وهذا يناقض ما أصرت عليه قناة "سماء"، حين نشرت على موقعها الإلكتروني في مقال بعنوان "أنصار الشريعة خطر لمستقبل باكستان"، وجاء فيه أن زعيم التنظيم أبوذر برني موجود حالياً في أفغانستان وهو يعمل على تدريب المسلحين في هذا البلد، لكن من دون ذكر أي تفصيل حول برني.
وأوردت السلطات الباكستانية تفاصيل أخرى استناداً إلى المعتقلين من قيادات التنظيم، مثل القيادي عبد الله هاشمي، الذي اعتقل أخيراً، وهو من طلاب جامعة "كراتشي". وقال خلال الاعترافات إن التنظيم أسس في نهاية عام 2015 بهدف تطبيق الشريعة، وأنهم حاولوا في البداية العمل تحت مظلة "القاعدة"، لكن التنظيم أوصاهم بالعمل بشكل مستقل، موضحاً أن جميع الشباب من طلاب جامعة "كراتشي"، وجامعة "داوود" وجامعة "الهندسة والتكنولوجيا"، بحسب ما ذكر هاشمي. وأشار إلى أنهم جميعاً تلقوا التدريبات في أحد المراكز بأفغانستان.
كما أكد هاشمي أن أحد المسلحين الذين لقوا حتفهم أثناء عملية اغتيال خواجه إظهار الحسن، ويدعى حسان وليد، كان طالبا في مرحلة الدكتوراه في جامعة "الهندسة والتكنولوجيا"، وكان محاضراً بجامعة "داوود". وكشف المعتقل الهاشمي وهو في مرحلة الماجستير في جامعة "كراتشي"، أن ما بين 15 إلى 20 طالباً بالجامعة يعملون في صفوف الجماعة. وذكر أن مهمتهم كانت في المرحلة الأولى اغتيال رجال الأمن والشرطة، وفي المرحلة الثانية استهداف مواقع الأمن بهجمات مسلحة، وفق ما نقلت السلطات الباكستانية عن اعترافات هاشمي خلال التحقيق معه.
كذلك، اعتقلت الشرطة أربعة نساء هن طالبات في جامعات مختلفة من مدينة كراتشي. ولم تكشف الشرطة عن هويتهن، لكنها ذكرت أنهن كن على تواصل مع مدرّس في إحدى جامعات إقليم بلوشستان، والذي اعتقل من منطقة بشين بالإقليم ذاته قبل أسبوع. وعلى عكس ذلك كله، شدد نائب رئيس جامعة "كراتشي"، أجمل خان، على عدم وجود أدلة تثبت أن هناك كياناً شكله طلبة الجامعة، رافضاً الاعتراف بوجود ظاهرة التطرف داخل الحرم الجامعي. ونفى علمه حيال الطلبة الذين تقول الشرطة إنهم عناصر وقياديون في تنظيم "أنصار الشريعة". لكنه يبدي استعداده للتعاون مع الأمن حيال القضية.
أسباب تنامي التطرف
ثمة أسباب كثيرة وراء تنامي نفوذ الجماعات المسلحة والتطرف في الجامعات الباكستانية، بالإضافة إلى الوضع العام في البلاد. وقد سادت حالة من التوتر في المناطق الشمالية الغربية والقبلية. وأبناء تلك القبائل ينضمون إلى تلك الجامعات، حاملين معهم أفكارهم والتي تتسم في كثير من الحالات بالتشدد الديني. ومن أبرز تلك الأسباب ما يلي:
عدم وجود استراتيجية شاملة: في ديسمبر/كانون الأول عام 2014، عندما تعرضت مدرسة لأبناء العسكريين في مدينة بشاور عاصمة إقليم خيبر بختونخوا شمال غرب باكستان، إلى هجوم "طالبان"، لجأت الحكومة الباكستانية إلى وضع خطة عمل نجم عنها عمليات عسكرية في مختلف أرجاء البلاد وقتل من خلالها مئات المسلحين. لكن تلك الخطة لم تكن شاملة ولم ترق إلى استراتيجية متكاملة كما كانت السلطات تعلن، ولم تتطرق إلى وضع الجامعات ومسألة تنامي التطرف فيها.
منع النشاط السياسي في الجامعات: لم تسمح الحكومة الباكستانية لأي نشاط سياسي داخل مقر الجامعات خشية المساس بعملية التعليم، كما أعلنت الحكومات الباكستانية المتعاقبة، وذلك على الرغم من إصدار قرار عام 2008، يقضي بالسماح للنشاط السياسي داخل الجامعات. ويرى الكثيرون أن النشاط السياسي في الجامعات قد يكون بديلاً لانتماء الطلاب إلى الجماعات المتطرفة. وبهذا الصدد، دعا نائب رئيس جامعة "كراتشي"، الحكومة إلى إعادة النظر في القضية، والسماح للنشاط السياسي في الجامعات من خلال تشكيل نقابات طلابية.
نشاط الأحزاب السياسية الدينية: فيما منعت السلطات النشاط السياسي داخل الجامعات في باكستان، سمحت في المقابل للأحزاب السياسية الدينية بأن تنشط فيها، مثل "الجماعة الإسلامية" وجمعية "علماء الإسلام". وتتبنى تلك الجماعات أفكاراً متطرفة في بعض الأحيان تحرض الطلاب على الانضمام إلى الجماعات المسلحة. وقد حدث ذلك كثيراً. وثبت أن عناصر في تلك الجماعات أصبحت قيادات مهمة في الجماعات المسلحة. على سبيل المثال، مؤسس "طالبان" باكستان، بيت الله محسود، وخلفه حكيم الله محسود، كانا ينتميان لجمعية "علماء الإسلام". والناطق السابق باسم "طالبان" الباكستانية، شاهد الله شاهد، كان من عناصر "الجماعة الإسلامية".
نشاط "طالبان" أفغانستان: ثمة عدد كبير من الشباب في جامعات باكستان، وهم من الجنسيتين الأفغانية والباكستانية يقاتلون في صفوف "طالبان" أفغانستان، و"شبكة حقاني" في فترات مختلفة، أو يدافعون علناً عن سياساتهما. وقد اعترف بذلك أحد أكبر السياسيين وعلماء الدين في باكستان، المولوي سميع الحق، أخيراً. وقال إن كثيراً من الشباب الباكستانيين يقاتلون في صفوف "شبكة حقاني" في أفغانستان. هؤلاء وإن كانوا يقاتلون خارج باكستان، أي في أفغانستان، لكنهم يشكلون سبباً في تنامي نفوذ المسلحين والتطرف في الجامعات. وبعض قيادات "طالبان" باكستان وجماعات متطرفة أخرى كانوا في البداية يقاتلون في صفوف "طالبان" أفغانستان، بينهم مؤسس "طالبان" باكستان، الذي قتل في غارة أميركية في وزيرستان عام 2009، وخلفه الذي قتل سنة 2013 في غارة أميركية مماثلة. بالتالي السماح لهؤلاء يشكل سبباً في تنامي نفوذ المسلحين في الجامعات الباكستانية.
سكان المناطق القبلية: بسبب عدم وجود الجامعات والمعاهد العلمية في المناطق القبلية وتدهور قطاع التعليم في شمال غرب البلاد، يتوجه أبناء هذه القبائل إلى الجامعات المختلفة في باكستان، حاملين معهم الأفكار المتطرفة وأفكار الجماعات المسلحة. وفي كثير من الأحيان، تعتمد الجماعات المسلحة عليهم لتجنيد الشباب المثقفين من داخل الجامعات. هؤلاء لا يشكلون عنصراً أساسياً للجماعات المسلحة الداخلية وجماعة "أنصار الشريعة" خير دليل على ذلك، بل هم يساهمون في العمليات المسلحة خارج باكستان. وكانت خريجة جامعة "بهاء الدين زكريا" بمدينة ملتان، تشفين ملك، قد نفذت عملية إطلاق النار في ولاية كاليفورنيا الأميركية مع زوجها سيد فاروق، في ديسمبر/كانون الأول، عام 2015 ما أدى إلى مقتل 14 شخصاً. وقد أشاد تنظيم "داعش" بالعملية.
في المحصلة، يبدو التطرف ونفوذ الجماعات المسلحة في تنام متواصل، وذلك يمثل خطراً على مستقبل أمن باكستان. وهذا ما أدركته السلطات بعد الكشف عن جماعة "أنصار الشريعة" التي يشكلها طلاب جامعيون في حين أن المقولة السائدة هي أن الجماعات المسلحة تخرج من المدارس الدينية وليس من الجامعات. وانطلاقاً من ذلك، يرى البعض أن هناك حاجة لوضع خطة شاملة تركز على المدارس والجامعات على حد سواء.