عاد ملف التعذيب في السجون العراقية مجدداً إلى الواجهة بعد الكشف عن تسجيل حالة وفاة داخل أحد السجون الحكومية جنوبي البلاد، يوم السبت الماضي بسبب التعذيب، في حادث هو الثالث من نوعه في غضون ثلاثة أشهر. فقد توفي معتقل داخل مركز للشرطة في محافظة كربلاء، سبق أن اعتُقل بتهمة غير متعلقة بالإرهاب بل بسبب مشاكل اجتماعية، ما دفع إلى التساؤل عن عمليات تعذيب مبرمجة وانتهاكات حقوق الإنسان داخل السجون العراقية.
في هذا السياق، ذكر مسؤول في وزارة الداخلية العراقية، أن "نزيلاً (معتقلاً) توفي ليلة السبت الماضي متأثراً بضرب مبرّحٍ تعرّض له أدى إلى توقف كليتيه عن العمل وتكسير ثلاثة من عظام الصدر"، مبيناً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المعتقل من الذين لم تتم محاكمتهم حتى الآن ويمضي عامه الرابع في السجن".
في هذا الصدد، ذكر رئيس مركز بغداد لحقوق الإنسان، مهنّد العيساوي، أمس الثلاثاء، أن "جرائم التعذيب ما زالت مستمرة وسوء التعامل هو الصفة السائدة مع النزلاء في سجون وزارة الدفاع والداخلية والاستخبارات ومكافحة الإرهاب وقيادات العمليات بالمحافظات، عدا عن سجون وزارة العدل". وأضاف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التعذيب يشكّل ظاهرة وسياسة ممنهجة في السجون العراقية، لا ممارسات فردية إطلاقاً. لذلك نشكك وتشكك المنظمات الدولية بالأحكام الصادرة من القضاء ضد المعتقلين، لأن أغلبها بُني على أساس الاعترافات المنتزعة بالتعذيب والترهيب. وقد صدرت أحكام بالإعدام نُفّذت ضد معتقلين تعرّضوا للتعذيب، كما صدرت أحكام أخرى ضد معتقلين آخرين بناءً على اعترافاتهم تحت التعذيب. ومنذ 9 مارس/آذار 2003 (تاريخ الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق) وإلى اليوم لم يقدّم للقضاء العراقي أي من مرتكبي جرائم التعذيب في السجون العراقية، ولم تشكّل الحكومة أي لجنة حقيقية للتحقيق في جرائم التعذيب وسوء المعاملة في سجونها، ولم تُقدم على أية خطوة في سبيل إيقاف أو تقليل حجم ظاهرة التعذيب وخطورته".
وبيّن العيساوي أنه "رغم أن السلطات العراقية ملزمة باحترام اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، التي انضم لها العراق رسمياً بموجب القانون رقم (30) لسنة 2008، إلا إنها لم تلتزم بموادها، خصوصاً فيما يتعلق بالمادة الثانية من الاتفاقية، فلم تتخذ السلطات العراقية أية إجراءات تشريعية أو إدارية أو قضائية فعّالة". وتنوّعت أساليب التعذيب لدى الجهات الأمنية، خلال التحقيق مع المعتقلين، حتى ابتكرت أنواعا جديدة منها.
وروى أبو عدنان (69 عاماً)، وهو أحد أهالي بلدة أبو غريب، غربي بغداد، لـ"العربي الجديد"، صفحات من التعذيب الذي أجبره على الاعتراف بجرائم، تسببت بسجنه لأكثر من خمس سنوات، وقال: "اعتقلتنا القوات الأمنية في عام 2012، من منزلنا من دون أي مبرر"، مبيناً أنه "تمّ احتجازنا في سجن بمقر القوات الأمنية في أبو غريب، بتهمة مهاجمة القوات الأمنية".
وأضاف أن "ضباط التحقيق حاولوا إجباري على الاعتراف بهذه الجريمة، لكنهم لم يفلحوا أول الأمر"، منوّهاً إلى أنهم "هددوني بالتعذيب وإلّا الاعتراف، لكنّني لم أعترف لأنّني لم أرتكب الجريمة من الأساس". وتابع أنه "بعد أيام من التعذيب النفسي والركل والجوع وما إلى ذلك من صنوف تعذيب تُعدّ اعتيادية يتلقاها كل معتقل بشكل يومي، بدأت صفحة التعذيب الحقيقي معي"، لافتاً إلى أنهم "وضعوني في غرفة التعذيب، وبعد ركل وضرب بالسياط على كل مناطق جسمي لم يفلحوا، لكنهم قالوا لي سيأتيك أبو بدر، ليجعلك تعترف بكل جرائم العراق".
وأشار أبو عدنان إلى أنه "دخل عليّ أبو بدر، الذي لم أر وجهه، فقد كان ملثماً بزي عسكري، فكبّل يدي اليمنى برجلي اليسرى على الظهر، ويدي اليسرى برجلي اليمنى، وألقاني على الأرض الباردة في البرد". وتابع "بدأ المجرم أبو بدر، بنتف لحيتي، حتى اقتلع معها طبقة من اللحم، والدماء تجري على وجهي، وكاد أن يُغمى عليّ من شدة الألم"، مضيفاً أنه "لم يتكلّم الجلاد بكلام كثير معي، فقد انشغل بالتعذيب، وسألني مرتين فقط (ألا تعترف؟)، وأجبته (كيف أعترف بشيء لم أره ولم أسمع به؟)".
ولفت إلى أنّ "الجلاد ركلني مرات عدة، وبدأ بإحراق شعر رأسي وأنا أصرخ، حتى سُلخت فروة رأسي، ثم تركني وخرج من دون أي كلام، وأنا مُغمى عليّ. لا أستطيع أن أصف حالتي، حتى دخل عليّ المضمّد، وضمّد جروحي".
وأضاف أنه "بعد يومين فقط جاء الجلاد ذاته، ومعه حقيبته الخاصة، وقال (كيف حالك يا أبا عدنان؟ هل ستعترف أم تريد أن تذوق صنوفاً جديدة من التعذيب؟)"، متابعاً "أجبته بل أعترف، فخرج، ودخل عليّ ضباط التحقيق ودوّنوا اعترافاتي التي وقّعت عليها". وكشف أبو عدنان أنه "نُقلت إلى القاضي، وحُكمت خمس سنوات على تلك الجريمة التي لم أرتكبها ولم أعلم بها، وقد خرجت قبل شهرين بعد انقضاء مدة الحكم".
ومعاناة أبو عدنان تحت التعذيب، ليست الأولى ولا الأخيرة من نوعها، إذ أنّ الآلاف من المعتقلين ذاقوا ما ذاقه في سجون أخرى، ومنهم أبو جاسم (44 عاماً)، الذي تحدث عن اعترافاته وكيف انتزعت منه، فقال لـ"العربي الجديد"، إنه "في عام 2009 اعتُقلت من دون تهمة، وقد طلب مني ضباط التحقيق في سجن الكاظمية، التوقيع على اعترافات لم أقرأها، ورفضت".
وأضاف أنه "أدخلوني في سجن انفرادي بغرفة صغيرة جداً، لا أستطيع إلا الوقوف فيها، وخلعوا عني ملابسي، في شتاء قارس البرد، وبدأوا يرشقونني بالماء البارد. كما كانت الغرفة مبرّدة بمكيّف، حتى كاد أن يُغمى عليّ وهم يتابعونني من خلف الشباك"، مبيناً أنه "لم أستطع التحمّل، فكادت عظامي تتقطّع من شدة البرد، حتى طرقت الشباك عليهم، وطلبت ضابط التحقيق ووقّعت على الاعترافات التي لم أرها، والتي سجنت بسببها ست سنوات".
بدوره، اعتبر القيادي في التيار المدني العراقي، حسام العيسى، أن "التعذيب في السجون هو أحد البصمات الأميركية في العراق، التي بدأته منذ الاحتلال وحتى الآن. لكن هذا لا يعني أنه لم يكن موجوداً في عهد (الرئيس الراحل) صدام حسين، بل كان ممنهجاً، لكننا نتحدث عما نصفه العهد الديموقراطي والحرية وزوال الطاغية".
وأضاف أن "التعذيب بالسجون العراقية بات أمرا روتينيا وفرصة للكسب للسجّان، فمن لا يريد لابنه أن يتعذب عليه أن يدفع المال للسجّانين أو الضباط. وهذه وصمة عار على جميع من يتصدر القرار بالعراق اليوم".
والعراق هو من أكثر بلدان العالم ضعفاً في مجال حقوق الإنسان، إذ أنّ المؤسسات الحكومية الخاصة بمجال حقوق الإنسان لم تقم بواجبها.
وقال رئيس منظمة الفجر لحقوق الإنسان، وهي منظمة مجتمع مدني، بارق العزاوي، إنّ "المعتقلين ذاقوا الويل على يد الجلادين في السجون العراقية، ولدينا روايات خطيرة ومهولة من صنوف التعذيب الذي لاقوه على يد الجلادين"، مبيناً أنّ "تلك الأجهزة منعتنا كمنظمات مدنية من متابعة هذه الملفات، ولم نستطع دخول أي سجن أو إجراء لقاء مع أي سجين خلال فترة اعتقاله".
وأكد أنّ "لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، كانت وما زالت فاشلة بشكل كبير، فلم تستطع متابعة هذه الملفات، ولم تحقق شيئاً، لا في هذه الدورة البرلمانية ولا التي سبقتها"، محمّلاً إياها مع الحكومة "مسؤولية ما لاقاه المعتقلون من صنوف التعذيب والإذلال والقهر". وحمّل مراقبون السلطة القضائية، مسؤولية كل ذلك، فهي لا توفر للمعتقل أي حقوق، ولا يهمها كيف انتزعت الاعترافات منه، فهي تعمل على إصدار الأحكام الجائرة، من دون التحقيق في كيفية انتزاعها.