22 نوفمبر 2024
التعليم في سورية... من الإيديولوجيا إلى التشظي الاجتماعي
يعدّ التعليم، بكل مراحله بما فيه الجامعي، من الأدوات الإيديولوجية، يُصاغ، بواسطتها، شكلٌ من الوعي، يؤبد السيطرة السياسية للطبقة المسيطرة. وقد كان التعليم في سورية يخدم هذه القضية، وهو في العموم يخدم الهدف نفسه في بقية البلدان. هدفَ التعليم السوري إلى تشكيل وعيٍ مفصولٍ عن مشكلات الحياة، وإيجاد حلولٍ عمليةٍ بما يطوّرها. وفي هذه النقطة، كثيراً ما تذكّر السوريون المصير المأساوي لكل عالمٍ، أو باحثٍ، استطاع إبداع آلةٍ جديدة؛ حيث الإهمال أو الطرد من البلاد أو السجن. ويوضح هذا المثال قيمة العلم؛ فالعلم ليس توطئةً للإبداع أو للتنوير والنهوض، بل هو للحفظ والتكرار. وبخصوص المواد التاريخية أو القومية أو الدين، بل وحتى مادة اللغة العربية نفسها، كان هدف التوجيه فيها دائماً ترسيخ السلطة، والاعتراف بفضلها على الشعب، وهذا يتضمن تحذيراً مبطناً يقول: نحن من صنعنا لكم الحياة، والسلطة لنا، فإياكم والتفكير بعقلية مخالفة.
لم يكن من مهام التعليم التصدّي للمشكلات الواقعية، وهذا يسري على رسائل الماجسيتر والدكتوراه في العلوم الإنسانية، عدا عن أن المناهج الجامعية نفسها كانت مناهج حفظ وبصم. يضاف إلى ذلك أن الجانب العملي فيها كان سرقاتٍ ونسخاً من كتب أصلية أو مراجع! خارج الهياكل الإسمنتية البشعة للمدارس والجامعات، تمت هندسة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتي مادتها الأساسية الأسرة والطائفية والقبيلة والمنطقة، أي تتشكّل وفقاً لهذه المواد. ومن هنا، سادت في سورية، ولا سيما في العقدين السابقين، وبشكل كبير، أسئلة واقعية: من أين أنت، من أي طائفة، من أية قرية، وهكذا؛ صاغ بعضهم المسألة، أن الهوية السورية تشظت كلياً، وأصبحت وفقاً للمواد المذكورة.
مناهضة الإبداع
طرحت عملية تجديد السلطة في سورية نفسها، عام 2000، سؤال الهوية بشدةٍ أكبر؛ فلماذا ظلت الرئاسة في الأسرة الحاكمة نفسها، ولماذا لم تنتقل إلى أحد النواب الخالدين؟ هل لأنهم ليسوا من الطائفة نفسها؟ هكذا طُرح الأمر، وهو بذلك يعبّر عن شكل الوعي الذي فرضته سيطرة النظام الشمولية، بدءاً من السبعينيات. ترافقت مع التجديد عملية لبرلة واسعة للاقتصاد، ونتج عنها إفقارٌ شديدٌ، وبداية تدمير للزارعة وللصناعة الخفيفة إدخال التعليم الخاص في كل مراحل التعليم، وتصاعد الأمر بشكلٍ كبير، بسبب الانفتاح على تركيا، وارتفاع أسعار الوقود
والبذور والأسمدة؛ كانت فسحة الحرية المقيّدة بعد العام 2000 ضروريةً للنظام، ليتعرّف على الناشطين في سورية، وفي الوقت نفسه، رغبة منه في تشكيل معارضة مقيّدة ومشروطة، ووفقاً للسياسات الليبرالية الجديدة وللسلطة المتجددة؛ فشل النظام في السير في خطوته تلك، ولم تستطع المعارضة تغيير نفسها، واستغلال الفسحة المقيدة تلك؛ فأجهز النظام على المنتديات السياسية والأفكار الجديدة، والتي كانت تبتغي إحداث تغييرٍ سياسيٍّ، يؤدي إلى إنهاء الشمولية، والانتقال إلى الديمقراطية. لم تحفر المعارضة عميقاً في الأرض السورية، لم تُقرأ التراكماتُ التي بناها النظام لبنةً لبنةً ومنذ الستينيات، وزاد في الأمر غياب أي إمكانيةٍ لحل المشكلات، وكرّس النظام ظاهرة الوعي الأهلي، الديني والطائفي والشوفيني، والعشائري.
في ظل هذه الأوضاع، كان التعليم، بمختلف مراحله، مؤسسةً للتوظيف وللتحفيظ والبصم، ولم يكن فيه أي ملمحٍ يؤدي إلى الإبداع؛ فتشكل وعي مناهض للإبداع والتحرّر والتنوير والتفاعل مع الحضارات الأخرى؛ عكس ذلك تكرس وعي يقول بضرورة العولمة، واستخدام شبكة الإنترنت ووسائل التواصل، لكنه بسياق محدّد، هو تشكيل علاقات طائفية أو قبلية أو دينية أو شوفينية قومية. وطبعاً، هناك الاستخدامات السلبية الأسوأ للنت، والذي يشكل وعياً جنسياً أو فنيّاً مشوهاً؛ فالمنظور الذكوري الجنسي للمرأة أصبح طاغياً، فالمرأة للجنس وللبيت وللجمال، وكل ما عداه محض ترهات. وتؤكد وضعية التعليم بذلك أن النظام مُفضّلٌ على الشعب، فهو يعلّم أطفال سورية فك الحرف.
كان الوعي المُكرّس هذا يتضمن قولين، ظاهر، وهو ما يرضي النظام الأمني وأجهزته السياسية والإيديولوجية، ووعي آخر فيه الديني والمعارض، ومملوء بالشكوى من الأوضاع الاقتصادية الكارثية ونقص الحاجات؛ يخترق مفاهيم تتناول العلاقة بين الطوائف، والأكثرية والأقليات، والمدينة والريف، والقوميات الكبيرة والصغيرة؛ لكنها أفكار مشتتة متشظية، ليس فيها رؤية متماسكة للوضع، فهو وعي ليس سياسياً، وإن كانت السلطة بما تتسبب به من مشكلاتٍ متعدّدة المستويات للشعب، هي محور النقاش المنغلق في المنازل، أو ضمن الشلل الموثوقة وهكذا.
مفاهيم الماضي
يتمثل الإشكال الذي واجه السوريين بعد العام 2011، وبسبب شكل التعليم السابق، في غياب الوعي التاريخي والسياسي والاقتصادي، والانصياع لمفاهيم فكرية متأتية من الماضي، أي مفاهيم الأكثرية والأقليات، والقدر، والدين. وقد عوملت السلطة وكأنها سلطةٌ لطائفةٍ واحدة؛ الثورة نفسها، وعلى الرغم من وجود هذا الشكل من الوعي، والذي يوضح زيف كل مناهجها التعليمية وكذبها على الوطنية والقومية والمقاومة والوطن العربي، نقول إن الثورة، وليست المعارضة، كانت واعية لهذا الإشكال؛ وكانت شعاراتها السائدة تؤكد أن الشعب السوري واحد، وتطرح مطالب التخلص من القيادات الأمنية، ومن المحافظين، وعدم زج الجيش في المعركة، وتطرح المشكلة الاقتصادية في شعاراتٍ ترفض رامي مخلوف تحديداً، وهو هنا رمز للنهب وللإفقار العام. ولم يكن هذا الوعي قادراً على تشكيل رؤية كاملة لكيفية خوض الصراع، والتقدّم بمطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، وجذب كتل اجتماعية أكبر إلى الثورة؛ عكس ذلك النظام والمعارضة، فهما عاملا السلطة كممثلة لطائفةٍ والثورة كممثلة لطائفةٍ بعينها. وكان الإعلام المرافق للثورة مُسيطَراً عليه من قيادات إخوانية، أو قياداتٍ متحالفة معها، وبالتالي، كرّسوا الفهم الطائفي عن الثورة، وقد خدموا النظام أيّما خدمة. وبذلك، زرعت بذور الشقاق الكبير في طوائف المجتمع، وتراجعت الروح الوطنية للثورة. وقد مورست على حاضنات الثورة التي لم تنصع لهذه الرؤية أعمال الدمار والقتل وهجّر أولادها، وأوجدوا لها منظماتٍ سلفية وجهادية لتقتل روح الثورة فيها. هذا ما تمّ بشكل كبير في السنة الثالثة للثورة.
لم تشكّل المواد التعليمية وعياً حداثياً جامعاً لأغلبية السوريين، على مدار أكثر من نصف قرن. وفي سنوات الثورة، أصبح التعليم أكثر رداءةً، وفتح الجهاديون مدارس لتعليم مناهجهم التي تعزّز الروح الجهادية، والفهم المبتسر للدين، وتكفير الناس، بدءاً بأفراد الطائفة التي يدّعون الدفاع عنها، عدا عن تهميش دور المرأة بشكل كامل في المجتمع، واقتصارها على تلبية رغباتهم الجنسية والإنجاب. وفي مدن كثيرة، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو الفصائل المسلحة، لا توجد أية رقابة، والترفع فيها آلياً وبقوة السلاح، لكن الأخطر وجود ملايين الأطفال من دون أي تعليم؛ أي جهل مطبق ورافض كل حداثة.
في سنوات الحرب
ظهر الإشكال الأكبر مع تكريس عدة دويلات، كالنظام وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)
وتنظيم الدولة الإسلامية، و"جيش الإسلام" و"جيش الفتح" بقيادة جبهة النصرة. وهناك ملايين الأطفال يتعلمون في الأردن ولبنان وتركيا وغيرها. وثمة مشكلة المناهج الدراسية، ولا سيما في تركيا، بين منهاج ليبي وأردني وتركي وسوري، وأخيراً السوداني، وبالتالي، تتشكل بنية ذهنية مختلفة لدى السوريين، فلا هوية واحدة لها، ومختلفة، بحكم التكوين التعليمي المتمايز، والذي يعكس سياسات نظم مختلفة، وأحياناً متصارعة. الأخطر أن المواد الدينية تُدرّس وفقاً لمنهجية طائفية وأصولية.
ويشير التشظي في المناهج، والتابعة لدول متعددة، إلى أن مستقبل العلاقة بين السوريين شديد التعقيد والتضارب، وربما سيعزّز التبعية للدول الخارجية؛ فالطلاب السوريون الذين كانوا يدرسون، في العقود السابقة، في السعودية، مثلاً، كانت هناك إشكاليات كبيرة تواجههم في إقامة صلات اجتماعية وثقافية، حينما يعودون إلى سورية؛ فالمنهاج كان أصولياً، بينما في سورية كان أقرب إلى التعدد المجتمعي، أي منسجماً مع البنية القديمة للسوريين.
ولم تشكل سنوات الحرب التي كانت الخيار الوحيد للنظام تجاه الثورة، وعياً حداثياً، ويكمل ذلك الوعي المُشكّل بالمفاهيم الطائفية والعشائرية والدينية والقيم الأنانية والاستهلاكية، واللبرلة بمعناها المبتذل، وتندر الهيئات الرقابية على أية مؤسسةٍ في سورية. وهذا يسمح بقيم الفساد والشللية والطائفية والاحتماء بالنظام أو بالفصائل المسلحة. إذاً، هنا، مشكلة كبيرة، يتم تجاهلها، وكل المشاريع التي تصدّت لمشكلات التعليم فشلت في تشكيل وعي حداثي.
قضية أخرى وخطيرة ستواجه السوريين، هي المشكلات النفسية، فأغلبية الأطفال في سورية لم يعالجوا من الصدمات التي واجهوها، سواء قتل أسرهم، أو انتقالهم إلى دول أخرى أو مدن سورية أخرى، أو العدد الكبير من التحرّش الذي تعرّضوا له، وهناك قضايا كثيرة.
وفي نهاية الحرب، ولنقل مع بداية تشكّل المرحلة الانتقالية، ستكون لدى السوريين مشكلة "كنس" المناهج التعليمية المتعدّدة، وتشكيل مناهج جديدة توفّق بين السوريين، وتساهم في صياغة وعيٍ وطني حداثي. وتتطلب القضية رؤيةً استراتيجيةً لوضع سورية ككل أولاً، ومن النواحي كافة، وأيضاً بما يعزّز تعليماً حداثياً ووطنياً، وغير تابع، وضمن إطار النهوض بسورية، وحاجات ذلك تحديداً. عكس ذلك، سيعزّز تجاهل البدايات الوطنية الميل الطائفي أو القومي والعشائري والذكوري والقبلي والمناطقي.
مهمات ملحة
والفكرة، هنا، تنطلق من أن الثورة، ومصلحة السوريين، تقتضي قطيعةً مع أية مشاريع فئوية، أو ما قبل وطنية. هنا يُعمم رأي مُخادع، ويرتدي ملابس جميلة جداً، مفاده بأن الدولة القادمة يجب ألا تتجاهل البنى الأهلية القديمة، وذلك سينصفها، وسيقرّب السوريين من بعضهم. المشكلة، هنا، أن هذه الفكرة هي تسييس لتلك البنى، وتحويلها إلى قضية خلافٍ وصدامٍ مجتمعي، معلن أو خفي، وستكون فائدته لصالح أمراء الحرب، أو زعماء سياسيين فئويين. وبالتالي، لا يمكن التصالح مع الماضي عبر الاعتراف بالبنى الأهلية، وكأن الأمر سيساهم في تشكيل هويةٍ سوريةٍ نتيجة الاعتراف بتلك البنى، وهو قول يتضمن فكرةً خاطئة، أن الدولة كانت لصالح طائفة، وبقية الطوائف والفئات مقموعة. ومن أجل تجاوز هذه القضية، لا بد من الاعتراف بكل ذلك التنوع الفسيفسائي؛ العلاقة مع البنى القديمة تكون بإبعاد كل تسييسٍ لها، وتركها ضمن الحيّز المجتمعي الشعبي، والموروث الخاص بالجماعات؛ أكثر من ذلك سيكون تحطيماً للهوية الجديدة، أي للحقوق المتساوية للأفراد على قاعدة المواطنة وحقوق الإنسان، وعلاقات العمل والتشارك المجتمعي الهادف لصياغة الشعب، بمعناه الحداثي، أي كأفراد متساوين.
ويواجه التعليم الذي لم يقم بهذه المهمة عقوداً متتالية خطراً جديداً، تعمّمه نخبٌ ليبراليةٌ
وإسلاميةٌ، لا تعي جيداً العلاقة مع الماضي، وتنتقد الغرب بشكل خاطئ، وكأن علمانيته كانت مشوّهة، ومشكلتها بالتحديد القطيعة مع الدين والبنى القديمة. وبالتالي، لا بد من إعادة الصلة معه، ليكون التطور في طريقه السليم. نقول إن التعليم يواجه خطر تعميم التشظي والتذرّر للمجتمع، بحجج الموضوعية والانسجام وعدم مواجهة الدين، ورفض التقليل من قيمته واحترامه. وهذه الحجج تفيد، كما أوردت السطور السابقة، في نسف البنى الأساسية للإنسان بالعصر الحديث، والمساواة بين البشر والتعامل معهم ككائنات حرة، ولها الحقوق والواجبات نفسها؛ سورية وفي مجال التعليم، الآن، وحالما تبدأ المرحلة الانتقالية، تحتاج إلى:
أولاً، توحيد المناهج التعليمية، وأن تكون نفسها في كل المناطق والمدن والدول التي فيها سوريون، وإيقاف التعامل بأي منهاجٍ تعليمي آخر، وبما يساعد على النهوض بحاجات البلد الأساسية، أي الصناعة والزراعة وإعمار البنية التحتية.
ثانياً، أن تكون المواد الأدبية أيضاً موحدة، ويحذف منها كل ما يُمجّد قيادات النظام الحالي، أو يعلي من شأن نصوص دينية ويخفّض من شأن أخرى، وأن تؤلف مادة تخص تاريخ الأديان، وتعامل فيها مذاهب الجماعات الدينية على قدم المساواة.
ثالثاً، تأليف مادة تتعلق بالوضع الراهن، تُصاغ بموضوعية، وبعيداً عن أية تحيزات طائفية أو قومية، ويكون القصد منها تشكيل وعي تاريخي مطابق للأحداث، وحل المشكلات وتدريب الطلاب على المساهمة في الشأن العام، وكذلك إبعاد كل أشكال اللبس والتطييف؛ وهذا لا يعني تجاهل كل الأحداث الطائفية، ومناقشتها بموضوعية.
رابعاً، يتولى صياغة المناهج خبراء تربويون، بعيدون عن العمل السياسي، بحيث تكون متوافقةً مع حاجات كل السوريين؛ فليست مناهج النظام وحدها من تؤبد قياداته، وكذلك بقية المجموعات التي انشغلت بالتعليم، ومنها من انشغل بذلك، من أجل تكريس نفسه شخصية سياسية.
خامساً، اللغة العربية هي الأساسية في المحافظات كافة، والتعليم في لغات قومية سورية أخرى ممكن، شريطة ألا يتعارض مع الفكرة السابقة؛ فالعربية اللغة الرسمية للدولة، وبواسطتها يتدبّر المواطنون شؤونهم العامة.
سادساً، يجب إبقاء التعليم مجانياً، وأن ترفض كل الدعوات نحو خصخصته، كما فعل النظام بشكل موسع مع السياسات الليبرالية التي تبنّاها، وافتتح قطاع التعليم الخاص بكل مراحله، وكان ذلك كارثةً على التعليم، حيث انتقلت أكثر الكوادر مهنيةً وخبرةً إليها. وفي هذا، يجب أن تكون أجور التعليم من أفضل الأجور، وليس كما كان سائداً، وكأن التعليم للتكسّب وللعيش، وليس للتنوير والنهوض بالمجتمع.
يشكّل موضوع كيفية تشكيل الوعي، عبر التعليم وسواه، مسألةً جوهرية في تفسير تاريخ السنوات الخمس السابقة، والسنوات اللاحقة كذلك؛ الانشغال بتعليم حديث ووطني أمر ضروري لكل السوريين، ويتلاقى مع أهداف ثورتهم. وفي هذا، يفترض أن تتحمّل منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة "يونيسف" مسؤولية أساسية، وكذلك المنظمات العالمية والإقليمية المعنية بالتعليم، ويمكنهم النهوض ببلدهم، وتأمين حاجاته، والتصالح مع الماضي والعالم.
لم يكن من مهام التعليم التصدّي للمشكلات الواقعية، وهذا يسري على رسائل الماجسيتر والدكتوراه في العلوم الإنسانية، عدا عن أن المناهج الجامعية نفسها كانت مناهج حفظ وبصم. يضاف إلى ذلك أن الجانب العملي فيها كان سرقاتٍ ونسخاً من كتب أصلية أو مراجع! خارج الهياكل الإسمنتية البشعة للمدارس والجامعات، تمت هندسة العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتي مادتها الأساسية الأسرة والطائفية والقبيلة والمنطقة، أي تتشكّل وفقاً لهذه المواد. ومن هنا، سادت في سورية، ولا سيما في العقدين السابقين، وبشكل كبير، أسئلة واقعية: من أين أنت، من أي طائفة، من أية قرية، وهكذا؛ صاغ بعضهم المسألة، أن الهوية السورية تشظت كلياً، وأصبحت وفقاً للمواد المذكورة.
مناهضة الإبداع
طرحت عملية تجديد السلطة في سورية نفسها، عام 2000، سؤال الهوية بشدةٍ أكبر؛ فلماذا ظلت الرئاسة في الأسرة الحاكمة نفسها، ولماذا لم تنتقل إلى أحد النواب الخالدين؟ هل لأنهم ليسوا من الطائفة نفسها؟ هكذا طُرح الأمر، وهو بذلك يعبّر عن شكل الوعي الذي فرضته سيطرة النظام الشمولية، بدءاً من السبعينيات. ترافقت مع التجديد عملية لبرلة واسعة للاقتصاد، ونتج عنها إفقارٌ شديدٌ، وبداية تدمير للزارعة وللصناعة الخفيفة إدخال التعليم الخاص في كل مراحل التعليم، وتصاعد الأمر بشكلٍ كبير، بسبب الانفتاح على تركيا، وارتفاع أسعار الوقود
في ظل هذه الأوضاع، كان التعليم، بمختلف مراحله، مؤسسةً للتوظيف وللتحفيظ والبصم، ولم يكن فيه أي ملمحٍ يؤدي إلى الإبداع؛ فتشكل وعي مناهض للإبداع والتحرّر والتنوير والتفاعل مع الحضارات الأخرى؛ عكس ذلك تكرس وعي يقول بضرورة العولمة، واستخدام شبكة الإنترنت ووسائل التواصل، لكنه بسياق محدّد، هو تشكيل علاقات طائفية أو قبلية أو دينية أو شوفينية قومية. وطبعاً، هناك الاستخدامات السلبية الأسوأ للنت، والذي يشكل وعياً جنسياً أو فنيّاً مشوهاً؛ فالمنظور الذكوري الجنسي للمرأة أصبح طاغياً، فالمرأة للجنس وللبيت وللجمال، وكل ما عداه محض ترهات. وتؤكد وضعية التعليم بذلك أن النظام مُفضّلٌ على الشعب، فهو يعلّم أطفال سورية فك الحرف.
كان الوعي المُكرّس هذا يتضمن قولين، ظاهر، وهو ما يرضي النظام الأمني وأجهزته السياسية والإيديولوجية، ووعي آخر فيه الديني والمعارض، ومملوء بالشكوى من الأوضاع الاقتصادية الكارثية ونقص الحاجات؛ يخترق مفاهيم تتناول العلاقة بين الطوائف، والأكثرية والأقليات، والمدينة والريف، والقوميات الكبيرة والصغيرة؛ لكنها أفكار مشتتة متشظية، ليس فيها رؤية متماسكة للوضع، فهو وعي ليس سياسياً، وإن كانت السلطة بما تتسبب به من مشكلاتٍ متعدّدة المستويات للشعب، هي محور النقاش المنغلق في المنازل، أو ضمن الشلل الموثوقة وهكذا.
مفاهيم الماضي
يتمثل الإشكال الذي واجه السوريين بعد العام 2011، وبسبب شكل التعليم السابق، في غياب الوعي التاريخي والسياسي والاقتصادي، والانصياع لمفاهيم فكرية متأتية من الماضي، أي مفاهيم الأكثرية والأقليات، والقدر، والدين. وقد عوملت السلطة وكأنها سلطةٌ لطائفةٍ واحدة؛ الثورة نفسها، وعلى الرغم من وجود هذا الشكل من الوعي، والذي يوضح زيف كل مناهجها التعليمية وكذبها على الوطنية والقومية والمقاومة والوطن العربي، نقول إن الثورة، وليست المعارضة، كانت واعية لهذا الإشكال؛ وكانت شعاراتها السائدة تؤكد أن الشعب السوري واحد، وتطرح مطالب التخلص من القيادات الأمنية، ومن المحافظين، وعدم زج الجيش في المعركة، وتطرح المشكلة الاقتصادية في شعاراتٍ ترفض رامي مخلوف تحديداً، وهو هنا رمز للنهب وللإفقار العام. ولم يكن هذا الوعي قادراً على تشكيل رؤية كاملة لكيفية خوض الصراع، والتقدّم بمطالب سياسية واقتصادية واجتماعية، وجذب كتل اجتماعية أكبر إلى الثورة؛ عكس ذلك النظام والمعارضة، فهما عاملا السلطة كممثلة لطائفةٍ والثورة كممثلة لطائفةٍ بعينها. وكان الإعلام المرافق للثورة مُسيطَراً عليه من قيادات إخوانية، أو قياداتٍ متحالفة معها، وبالتالي، كرّسوا الفهم الطائفي عن الثورة، وقد خدموا النظام أيّما خدمة. وبذلك، زرعت بذور الشقاق الكبير في طوائف المجتمع، وتراجعت الروح الوطنية للثورة. وقد مورست على حاضنات الثورة التي لم تنصع لهذه الرؤية أعمال الدمار والقتل وهجّر أولادها، وأوجدوا لها منظماتٍ سلفية وجهادية لتقتل روح الثورة فيها. هذا ما تمّ بشكل كبير في السنة الثالثة للثورة.
لم تشكّل المواد التعليمية وعياً حداثياً جامعاً لأغلبية السوريين، على مدار أكثر من نصف قرن. وفي سنوات الثورة، أصبح التعليم أكثر رداءةً، وفتح الجهاديون مدارس لتعليم مناهجهم التي تعزّز الروح الجهادية، والفهم المبتسر للدين، وتكفير الناس، بدءاً بأفراد الطائفة التي يدّعون الدفاع عنها، عدا عن تهميش دور المرأة بشكل كامل في المجتمع، واقتصارها على تلبية رغباتهم الجنسية والإنجاب. وفي مدن كثيرة، سواء في المناطق التي يسيطر عليها النظام أو الفصائل المسلحة، لا توجد أية رقابة، والترفع فيها آلياً وبقوة السلاح، لكن الأخطر وجود ملايين الأطفال من دون أي تعليم؛ أي جهل مطبق ورافض كل حداثة.
في سنوات الحرب
ظهر الإشكال الأكبر مع تكريس عدة دويلات، كالنظام وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)
ويشير التشظي في المناهج، والتابعة لدول متعددة، إلى أن مستقبل العلاقة بين السوريين شديد التعقيد والتضارب، وربما سيعزّز التبعية للدول الخارجية؛ فالطلاب السوريون الذين كانوا يدرسون، في العقود السابقة، في السعودية، مثلاً، كانت هناك إشكاليات كبيرة تواجههم في إقامة صلات اجتماعية وثقافية، حينما يعودون إلى سورية؛ فالمنهاج كان أصولياً، بينما في سورية كان أقرب إلى التعدد المجتمعي، أي منسجماً مع البنية القديمة للسوريين.
ولم تشكل سنوات الحرب التي كانت الخيار الوحيد للنظام تجاه الثورة، وعياً حداثياً، ويكمل ذلك الوعي المُشكّل بالمفاهيم الطائفية والعشائرية والدينية والقيم الأنانية والاستهلاكية، واللبرلة بمعناها المبتذل، وتندر الهيئات الرقابية على أية مؤسسةٍ في سورية. وهذا يسمح بقيم الفساد والشللية والطائفية والاحتماء بالنظام أو بالفصائل المسلحة. إذاً، هنا، مشكلة كبيرة، يتم تجاهلها، وكل المشاريع التي تصدّت لمشكلات التعليم فشلت في تشكيل وعي حداثي.
قضية أخرى وخطيرة ستواجه السوريين، هي المشكلات النفسية، فأغلبية الأطفال في سورية لم يعالجوا من الصدمات التي واجهوها، سواء قتل أسرهم، أو انتقالهم إلى دول أخرى أو مدن سورية أخرى، أو العدد الكبير من التحرّش الذي تعرّضوا له، وهناك قضايا كثيرة.
وفي نهاية الحرب، ولنقل مع بداية تشكّل المرحلة الانتقالية، ستكون لدى السوريين مشكلة "كنس" المناهج التعليمية المتعدّدة، وتشكيل مناهج جديدة توفّق بين السوريين، وتساهم في صياغة وعيٍ وطني حداثي. وتتطلب القضية رؤيةً استراتيجيةً لوضع سورية ككل أولاً، ومن النواحي كافة، وأيضاً بما يعزّز تعليماً حداثياً ووطنياً، وغير تابع، وضمن إطار النهوض بسورية، وحاجات ذلك تحديداً. عكس ذلك، سيعزّز تجاهل البدايات الوطنية الميل الطائفي أو القومي والعشائري والذكوري والقبلي والمناطقي.
مهمات ملحة
والفكرة، هنا، تنطلق من أن الثورة، ومصلحة السوريين، تقتضي قطيعةً مع أية مشاريع فئوية، أو ما قبل وطنية. هنا يُعمم رأي مُخادع، ويرتدي ملابس جميلة جداً، مفاده بأن الدولة القادمة يجب ألا تتجاهل البنى الأهلية القديمة، وذلك سينصفها، وسيقرّب السوريين من بعضهم. المشكلة، هنا، أن هذه الفكرة هي تسييس لتلك البنى، وتحويلها إلى قضية خلافٍ وصدامٍ مجتمعي، معلن أو خفي، وستكون فائدته لصالح أمراء الحرب، أو زعماء سياسيين فئويين. وبالتالي، لا يمكن التصالح مع الماضي عبر الاعتراف بالبنى الأهلية، وكأن الأمر سيساهم في تشكيل هويةٍ سوريةٍ نتيجة الاعتراف بتلك البنى، وهو قول يتضمن فكرةً خاطئة، أن الدولة كانت لصالح طائفة، وبقية الطوائف والفئات مقموعة. ومن أجل تجاوز هذه القضية، لا بد من الاعتراف بكل ذلك التنوع الفسيفسائي؛ العلاقة مع البنى القديمة تكون بإبعاد كل تسييسٍ لها، وتركها ضمن الحيّز المجتمعي الشعبي، والموروث الخاص بالجماعات؛ أكثر من ذلك سيكون تحطيماً للهوية الجديدة، أي للحقوق المتساوية للأفراد على قاعدة المواطنة وحقوق الإنسان، وعلاقات العمل والتشارك المجتمعي الهادف لصياغة الشعب، بمعناه الحداثي، أي كأفراد متساوين.
ويواجه التعليم الذي لم يقم بهذه المهمة عقوداً متتالية خطراً جديداً، تعمّمه نخبٌ ليبراليةٌ
أولاً، توحيد المناهج التعليمية، وأن تكون نفسها في كل المناطق والمدن والدول التي فيها سوريون، وإيقاف التعامل بأي منهاجٍ تعليمي آخر، وبما يساعد على النهوض بحاجات البلد الأساسية، أي الصناعة والزراعة وإعمار البنية التحتية.
ثانياً، أن تكون المواد الأدبية أيضاً موحدة، ويحذف منها كل ما يُمجّد قيادات النظام الحالي، أو يعلي من شأن نصوص دينية ويخفّض من شأن أخرى، وأن تؤلف مادة تخص تاريخ الأديان، وتعامل فيها مذاهب الجماعات الدينية على قدم المساواة.
ثالثاً، تأليف مادة تتعلق بالوضع الراهن، تُصاغ بموضوعية، وبعيداً عن أية تحيزات طائفية أو قومية، ويكون القصد منها تشكيل وعي تاريخي مطابق للأحداث، وحل المشكلات وتدريب الطلاب على المساهمة في الشأن العام، وكذلك إبعاد كل أشكال اللبس والتطييف؛ وهذا لا يعني تجاهل كل الأحداث الطائفية، ومناقشتها بموضوعية.
رابعاً، يتولى صياغة المناهج خبراء تربويون، بعيدون عن العمل السياسي، بحيث تكون متوافقةً مع حاجات كل السوريين؛ فليست مناهج النظام وحدها من تؤبد قياداته، وكذلك بقية المجموعات التي انشغلت بالتعليم، ومنها من انشغل بذلك، من أجل تكريس نفسه شخصية سياسية.
خامساً، اللغة العربية هي الأساسية في المحافظات كافة، والتعليم في لغات قومية سورية أخرى ممكن، شريطة ألا يتعارض مع الفكرة السابقة؛ فالعربية اللغة الرسمية للدولة، وبواسطتها يتدبّر المواطنون شؤونهم العامة.
سادساً، يجب إبقاء التعليم مجانياً، وأن ترفض كل الدعوات نحو خصخصته، كما فعل النظام بشكل موسع مع السياسات الليبرالية التي تبنّاها، وافتتح قطاع التعليم الخاص بكل مراحله، وكان ذلك كارثةً على التعليم، حيث انتقلت أكثر الكوادر مهنيةً وخبرةً إليها. وفي هذا، يجب أن تكون أجور التعليم من أفضل الأجور، وليس كما كان سائداً، وكأن التعليم للتكسّب وللعيش، وليس للتنوير والنهوض بالمجتمع.
يشكّل موضوع كيفية تشكيل الوعي، عبر التعليم وسواه، مسألةً جوهرية في تفسير تاريخ السنوات الخمس السابقة، والسنوات اللاحقة كذلك؛ الانشغال بتعليم حديث ووطني أمر ضروري لكل السوريين، ويتلاقى مع أهداف ثورتهم. وفي هذا، يفترض أن تتحمّل منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة "يونيسف" مسؤولية أساسية، وكذلك المنظمات العالمية والإقليمية المعنية بالتعليم، ويمكنهم النهوض ببلدهم، وتأمين حاجاته، والتصالح مع الماضي والعالم.