23 مايو 2017
التنمية والاستقلال الوطني
في العقود الثلاثة الماضية، سطا خطاب إنسانوي على النقاشات الشبابية التي تهتم بمواضيع الديمقراطية والتنمية داخل بلدانها، ولم يلاحظ كثيرون أن هذا الخطاب، الجميل ظاهرياً، كان يخفي، أو يتخفى خلف هويةٍ فضفاضة، أبعد ما تكون عن الإنسانية، أو التنمية البشرية، غرُضه توهين الهويات القومية، وإضعاف روح الصمود الوطني، في وجه أشكال الغزو المختلفة التي تتعرّض لها الأمم الضعيفة، على يد القوى الإمبريالية التي تسعى إلى تعميم النموذج الغربي الرأسمالي على المناطق التي لم تصل إليها الموجة الليبرالية بعد.
يستهدف هذا التضليل الممنهج، ضمن استهدافاته المتعدّدة، إيجاد تساهلٍ أو تعميةٍ عند الساسة والنخبة الثقافية والاقتصادية، المهتمة بمناقشة المواضيع الاستراتيجية، المتعلقة بموضوعات النهوض القومي، والتنمية الاقتصادية. وعن الدور الذي لعبه الاستعمار تاريخياً، وتلعبه الرأسمالية الحديثة حالياً في تقويض دعائم المشاريع القومية والوطنية، الساعية إلى بناء دول قوية، ومشاريع وطنية مستقلة، وإن هذا الذي نحن بصدد التشجيع على الوقوف في وجهه ليس محاولةً لإحياء لغةٍ خشبيةٍ، كما يحاول جحافل المنبهرين بالاستعمار الحديث ترويجه، أو المغرمون بالتغيير عبر دبابات المحتل، لكنها حقائق مدعمة بأدلة دامغة، يمكن لأي قارئ مبتدئ للتاريخ السياسي الحديث اكتشافها.
يمرّ الخطأ الذي يقع فيه هؤلاء في قناتين رئيستين. الأولى، أنه لا علاقة للقوى الإمبريالية بالأوضاع الاقتصادية في البلدان الفقيرة والنامية. وفي بعض الحالات، يسعى هؤلاء إلى تمرير أكاذيب من نوع أن الوضع الاقتصادي والتنموي، في زمن الاستعمار والتبعية، أفضل بكثيرٍ منه إبّان مراحل التحرّر الوطني، حيث يستغل هؤلاء القوة الإعلامية التي يتمتع بها الاستعمار، في بث الأكاذيب حول مشاريعه، باختزال التنمية على شكل مبانٍ فخمة، أو مناطق تجارية وسياحية معزولة يجري تنميتها لصالح مشاريع الاستعمار فقط، من دون فحصٍ حقيقي لمعنى التنمية، ومقارنة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في زمن الاستعمار، بالعهود التي تليه بعد التحرّر منه، فلا أحد، على سبيل المثال، يختبر حجم الفقر، ولا مستوى التعليم، ولا حجم الطبقة الوسطى أو المرونة الاجتماعية التي يتمتع بها النظام الاقتصادي خلال الاستعمار وبعده.
تماماً كما جرى في الهند خلال الاستعمار البريطاني، فالشوارع وسكك الحديد التي بناها المستعمر في المناطق التي توجد فيها إدارته متقدمة ومزدهرة، لا شك، لكنها كانت في سبيل خدمة مصالحه فقط، وهي غالباً لا تتعدى المساحة التي يوجد فيها المستعمر، أو نخبه التي صنعها كي تحافظ على وجوده وتحمي مصالحه.
الخطأ الآخر إن الرأسمالية الحديثة مجرد نظرية اقتصادية، لا علاقة لها بالأوضاع السياسية في البلدان التي تسعى إلى الدخول إليها، أو في محاصرة الديمقراطية الناشئة في الدول النامية التي تتيح المجال أمام رأس المال الحديث، للولوج إلى ساحتها، من دون رقابة صارمة من الدولة، وتحديد جحم هذا الدخول، وتقنين أثره السياسي والاقتصادي، على البلد المستضيف، فليس غرض كل مال أجنبي الاستثمار في الأسواق المحلية، فكثيراً ما لعبت الشركات الكبرى أدواراً خبيثة في تقويض دعائم الديمقراطية.
خاضت إيران، قبل الثورة الإسلامية، معركة شرسة في سبيل تأميم نفطها، قادها المعارض الوطني، الدكتور محمد مصدَّق، ضد شركات النفط السوفيتية والانجليزية. وبعد نجاح مصدَّق في تلك المهمة، انتخبته الجبهة الوطنية، ليصبح رئيساً للوزراء، وكانت الحكومة في عهده تصارع من أجل تعزيز الديمقراطية في وجه الشاه، المدعوم من القوى الغربية، لكن هذه التجربة لم تُترك لتستكمل دورتها التحررية من التبعية، فعمل جهاز الاستخبارات الأميركي مع الحكومة البريطانية، لتنظيم انقلابٍ عسكريٍّ على حكومة مصدق، بعد تأميم النفط بعامين فقط.
ليس ما حصل لمصر جمال عبد الناصر، ولا لعراق ما قبل الغزو الأميركي، إلا تكراراً لما تُمارسه الإمبريالية من مخططاتٍ تستهدف القوى الوطنية التي تحاول التحرّر من التبعية السياسية والاقتصادية للغرب، فالإمبريالية والرأسمالية الحديثة صنوان. تكرّر هذا الأمر في إندونيسيا، حينما عملت الولايات المتحدة الأميركية على إسقاط حكومة أحمد سوكارنو، في انقلاب عسكري قاده الجنرال سوهارتو، أفضى إلى تحطيم الحركة الديمقراطية الوطنية، وسجن جميع قيادات الحركة، وقد وصل عدد الذين قتلوا خلال تنفيذ الانقلاب قرابة مائة ألف اندونيسي.
يجد كثيرون من نقاد الرأسمالية الحديثة رابطاً متيناً بينها وبين الاستعمار، ولا يجدون مبالغةً في وصف لينين الإمبريالية بأنها أعلى مراتب الرأسمالية. كما أن الكاتبة الكندية، نعومي كلاين، في كتابها الملهم والمهم "عقيدة الصدمة"، تصل إلى قناعةٍ بأن الرأسمالية هي الأداة المحبذة للقضاء على خصوم الاستعمار، سواء عبر حروب الوكالة، كما حدث في تشيلي، أو من خلال الحرب المباشرة كما حدث للعراق. لكن المهم ألا يُسمح لأي قوى وطنية من الاستقلال والتحرّر عن هذا النموذج.
لا تخفي الرأسمالية المحدثة عطشها الدائم لمراكمة الثروات، ولو على حساب مضاعفة أعداد الفقراء. لذا، فإن تبشير الشعوب النامية بتنميةٍ شاملة، عن طريق اقتصاد السوق المفتوح لا تبشر بخير.
يستهدف هذا التضليل الممنهج، ضمن استهدافاته المتعدّدة، إيجاد تساهلٍ أو تعميةٍ عند الساسة والنخبة الثقافية والاقتصادية، المهتمة بمناقشة المواضيع الاستراتيجية، المتعلقة بموضوعات النهوض القومي، والتنمية الاقتصادية. وعن الدور الذي لعبه الاستعمار تاريخياً، وتلعبه الرأسمالية الحديثة حالياً في تقويض دعائم المشاريع القومية والوطنية، الساعية إلى بناء دول قوية، ومشاريع وطنية مستقلة، وإن هذا الذي نحن بصدد التشجيع على الوقوف في وجهه ليس محاولةً لإحياء لغةٍ خشبيةٍ، كما يحاول جحافل المنبهرين بالاستعمار الحديث ترويجه، أو المغرمون بالتغيير عبر دبابات المحتل، لكنها حقائق مدعمة بأدلة دامغة، يمكن لأي قارئ مبتدئ للتاريخ السياسي الحديث اكتشافها.
يمرّ الخطأ الذي يقع فيه هؤلاء في قناتين رئيستين. الأولى، أنه لا علاقة للقوى الإمبريالية بالأوضاع الاقتصادية في البلدان الفقيرة والنامية. وفي بعض الحالات، يسعى هؤلاء إلى تمرير أكاذيب من نوع أن الوضع الاقتصادي والتنموي، في زمن الاستعمار والتبعية، أفضل بكثيرٍ منه إبّان مراحل التحرّر الوطني، حيث يستغل هؤلاء القوة الإعلامية التي يتمتع بها الاستعمار، في بث الأكاذيب حول مشاريعه، باختزال التنمية على شكل مبانٍ فخمة، أو مناطق تجارية وسياحية معزولة يجري تنميتها لصالح مشاريع الاستعمار فقط، من دون فحصٍ حقيقي لمعنى التنمية، ومقارنة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في زمن الاستعمار، بالعهود التي تليه بعد التحرّر منه، فلا أحد، على سبيل المثال، يختبر حجم الفقر، ولا مستوى التعليم، ولا حجم الطبقة الوسطى أو المرونة الاجتماعية التي يتمتع بها النظام الاقتصادي خلال الاستعمار وبعده.
تماماً كما جرى في الهند خلال الاستعمار البريطاني، فالشوارع وسكك الحديد التي بناها المستعمر في المناطق التي توجد فيها إدارته متقدمة ومزدهرة، لا شك، لكنها كانت في سبيل خدمة مصالحه فقط، وهي غالباً لا تتعدى المساحة التي يوجد فيها المستعمر، أو نخبه التي صنعها كي تحافظ على وجوده وتحمي مصالحه.
الخطأ الآخر إن الرأسمالية الحديثة مجرد نظرية اقتصادية، لا علاقة لها بالأوضاع السياسية في البلدان التي تسعى إلى الدخول إليها، أو في محاصرة الديمقراطية الناشئة في الدول النامية التي تتيح المجال أمام رأس المال الحديث، للولوج إلى ساحتها، من دون رقابة صارمة من الدولة، وتحديد جحم هذا الدخول، وتقنين أثره السياسي والاقتصادي، على البلد المستضيف، فليس غرض كل مال أجنبي الاستثمار في الأسواق المحلية، فكثيراً ما لعبت الشركات الكبرى أدواراً خبيثة في تقويض دعائم الديمقراطية.
خاضت إيران، قبل الثورة الإسلامية، معركة شرسة في سبيل تأميم نفطها، قادها المعارض الوطني، الدكتور محمد مصدَّق، ضد شركات النفط السوفيتية والانجليزية. وبعد نجاح مصدَّق في تلك المهمة، انتخبته الجبهة الوطنية، ليصبح رئيساً للوزراء، وكانت الحكومة في عهده تصارع من أجل تعزيز الديمقراطية في وجه الشاه، المدعوم من القوى الغربية، لكن هذه التجربة لم تُترك لتستكمل دورتها التحررية من التبعية، فعمل جهاز الاستخبارات الأميركي مع الحكومة البريطانية، لتنظيم انقلابٍ عسكريٍّ على حكومة مصدق، بعد تأميم النفط بعامين فقط.
ليس ما حصل لمصر جمال عبد الناصر، ولا لعراق ما قبل الغزو الأميركي، إلا تكراراً لما تُمارسه الإمبريالية من مخططاتٍ تستهدف القوى الوطنية التي تحاول التحرّر من التبعية السياسية والاقتصادية للغرب، فالإمبريالية والرأسمالية الحديثة صنوان. تكرّر هذا الأمر في إندونيسيا، حينما عملت الولايات المتحدة الأميركية على إسقاط حكومة أحمد سوكارنو، في انقلاب عسكري قاده الجنرال سوهارتو، أفضى إلى تحطيم الحركة الديمقراطية الوطنية، وسجن جميع قيادات الحركة، وقد وصل عدد الذين قتلوا خلال تنفيذ الانقلاب قرابة مائة ألف اندونيسي.
يجد كثيرون من نقاد الرأسمالية الحديثة رابطاً متيناً بينها وبين الاستعمار، ولا يجدون مبالغةً في وصف لينين الإمبريالية بأنها أعلى مراتب الرأسمالية. كما أن الكاتبة الكندية، نعومي كلاين، في كتابها الملهم والمهم "عقيدة الصدمة"، تصل إلى قناعةٍ بأن الرأسمالية هي الأداة المحبذة للقضاء على خصوم الاستعمار، سواء عبر حروب الوكالة، كما حدث في تشيلي، أو من خلال الحرب المباشرة كما حدث للعراق. لكن المهم ألا يُسمح لأي قوى وطنية من الاستقلال والتحرّر عن هذا النموذج.
لا تخفي الرأسمالية المحدثة عطشها الدائم لمراكمة الثروات، ولو على حساب مضاعفة أعداد الفقراء. لذا، فإن تبشير الشعوب النامية بتنميةٍ شاملة، عن طريق اقتصاد السوق المفتوح لا تبشر بخير.