07 نوفمبر 2024
التنوير وخلخلة النظرة الجامدة للتراث
(1)
اعتبر مارسيا إلياد، في كتابه "تاريخ الأديان" (1989)، أن مجال الروح والروحانيات ليس حكراً على ثقافةٍ بعينها أو عقيدة بعينها، وأنه مجالٌ مفتوح على ممكناتٍ في النظر لا حصر لها. وقد وضح في العمل أن الدهريات مُغْرِيةٌ وفاتنةٌ، وهي تتجلى اليوم في مظاهر عديدة، حيث أصبح بإمكاننا أن نقيم تبادلا خلاقاً بين الدنيوي والروحي، المتناهي واللامتناهي، الحاضر والغائب، الشك واليقين.. ولم يعد بمقدور الإنسان في ضوء ثورات المعرفة المعاصرة وكشوفها، الركون بسهولةٍ إلى نظام في التصوُّرات والمبادئ المغلقة، كما تبلورت في العقائد القديمة، دينية كانت أم فلسفية.
(2)
تستوعب التصوُّرات الحداثية معطياتٍ كثيرة يمكن إدراجها في باب الروحانيات، فنحن عندما نفكّر مثلاً في موضوع الجمال وفي المباحث والقيم الأخلاقية، يمكننا أن نعيد بناء الروحانية لتصبح مفهوماً دنيوياً مرتبطاً بأخلاق الحداثة، وأنظمتها في الحياة، وذلك بحكم أن الورع الديني، كما يعرف الجميع، ليس طهرانيا دائما، وهو لا يتضمن بالضرورة الزهد عن المادّيات إلا في الأذهان التي تختزل المفاهيم، وتربطها بتصوراتٍ قاطعة وثابتة.
(3)
لا نجازف إذا ما اعتبرنا أن الروحاني يعود في المشروع الحداثي ليرادف الدنيوي، وإذا كان
وَضْع المفردة في الأصل قد تَمَّ في مجال اللغة والتداول، وتَمَّ رَفْعُه في دائرة التصوُّرات بعد ذلك، ليقترب من عالم ما فوق العبارة، فإن المفردة تُسْتَعَادُ اليوم في الرؤية الحداثية، لاسترجاع ما أُنْشِئَت من أجله، ومُطَابَقَتِهِ مع مجراه المجتمعي. إن روحانية الحداثة تبنيها اليوم في عالمنا جسور المعرفة والحرية والجمال، وهي تتجه إلى ردّ الاعتبار للأمور السامية والأمور الحميمية في نظام الأشياء، حيث تتم العناية بنداءات الحياة ومفاتنها، إغراءاتها وَصَبَوَاتٍهَا.
(4)
ساهمت الحداثة في رفع الغُلالات السحرية عن العالم، الأمر الذي سمح بميلاد الرواية ونشأة العلم الحديث وفتوحاته، كما سمح بالتمييز الخلاَّق بين المقدَّس والسياسي، بهدف علمنة المجال العام. وضمن هذا الأفق، يمكن أن نرسم الملامح الكبرى لروحانية يشتغل فيها الإنسان على ذاته وجسده، وأنماط حركته وعيشه، حيث يحضر الجميل والفاتن في حُلَلٍ جديدة، ويحتلاَّن فضاءات أكبر في الحياة.
(5)
نتصوَّر أن التراث الإسلامي، مثله في ذلك مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حَمَّال أوجه لا حصر لها. وهو خزّان قابل اليوم، لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار. أما أن يُواصل التأويل المحافظ والجامد للظواهر التراثية، حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا وبصورة مدعومة بشبكات التواصل الاجتماعي، فإن النتائج التي قد تترتَّب عن الفيض التراثي المحافظ ستكرس خيارات متحجِّرة في النظر إلى موروثنا، وتبعدنا عن مزايا التعامل الخلاَّق والمبدع مع ماضينا.
(6)
لا علاقة لقيم الإسلام كما تبلورت في التاريخ، بما هو شائع اليوم من الأفكار المتداولَة عنها، في
وسائط اجتماعية كثيرة، وأقل ما يمكن أن توصف به أفكار دعاة الوسائط في أغلبها هو غربتها عن التاريخ وعن الإسلام في التاريخ، فالإسلام، في تاريخه النصي والحدثي، أكبر من الأحكام والفتاوى المحافظة، إنه في روحه العامة جهد في التاريخ مشدود إلى المطلق. لهذا السبب، نحن لا نتصوّر استمرار حيوية الإسلام، من دون تجديد.
(7)
ارتبط وصول الإسلاميين إلى السلطة بترويج مشروع دَمْج الحركات الإسلامية في حركية دَمَقْرَطَةِ المجتمعات العربية، كما ارتبط بمحاولات الفصل بينها وبين الأنوية والأخويات السلفية والجهادية والخيرية وأخويات الزوايا. إلا أن حسابات الذين رَتَّبوا هذه الخطوة أغفلت عمق الروابط الجامعة بين التيارات المذكورة وسُمكها، كما أغفلت السياقات العامة لأوضاع المجتمع والثقافة في عالمنا، وحاجة مجتمعاتنا، أولاً وقبل أي شيء، لأفق في التنوير والتقدُّم، يَقْطَعُ مع منطق في الفكر ورؤية للتاريخ لم تعد مناسبة لزماننا، ولروح التطلُّعات الإصلاحية التي نروم إنجازها في مجتمعاتنا.
(8)
لم تحصل الثورات العربية لتحقق صحوة دينية، كما يحلو لبعضهم أن يتصور في ضوء وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة. بل إن صور الاحتجاج التي كانت تعبر عن تطلعات المتظاهرين في الساحات والميادين العمومية، كانت تروم، أولاً وقبل كل شيء، التخلص من الأنظمة الاستبدادية، أنظمة الحزب الواحد التي تُحَوِّل الدول، بمختلف مواردها وأرصدتها المادية والرمزية، إلى ممتلكات خاصة، وأنظمة التعدّدية الحزبية المصنوعة بالمساحيق قصد التمويه. قامت الثورات لتخاصم هذه الأنظمة مجتمعة، ما سقط منها ومن لا يزال يواصل الممانعة، كما قامت لتواجه الاستبداد المسلح بالدين أو بالعقائد الشمولية.
(9)
لم تتمكَّن المجتمعات العربية من إنجاز المراجعات النقدية المطلوبة لتجديد إرثها التاريخي وتطويره، حيث ما فتئت تستعيد هذا الميراث بطرق ومناهج تقليدية، مُغْفِلةً مقتضيات التحوُّل الجارية في مجتمعاتها وفي العالم، ومغفلة الثورات المنهجية المرتبط بتطوُّر العلوم والمعارف الإنسانية. إن السطوة الذهنية التي يواصِل ممارستها تأويل معين للتراث الإسلامي في حاضرنا، تكاد تحوّلنا إلى كائنات تراثية.
(2)
تستوعب التصوُّرات الحداثية معطياتٍ كثيرة يمكن إدراجها في باب الروحانيات، فنحن عندما نفكّر مثلاً في موضوع الجمال وفي المباحث والقيم الأخلاقية، يمكننا أن نعيد بناء الروحانية لتصبح مفهوماً دنيوياً مرتبطاً بأخلاق الحداثة، وأنظمتها في الحياة، وذلك بحكم أن الورع الديني، كما يعرف الجميع، ليس طهرانيا دائما، وهو لا يتضمن بالضرورة الزهد عن المادّيات إلا في الأذهان التي تختزل المفاهيم، وتربطها بتصوراتٍ قاطعة وثابتة.
(3)
لا نجازف إذا ما اعتبرنا أن الروحاني يعود في المشروع الحداثي ليرادف الدنيوي، وإذا كان
(4)
ساهمت الحداثة في رفع الغُلالات السحرية عن العالم، الأمر الذي سمح بميلاد الرواية ونشأة العلم الحديث وفتوحاته، كما سمح بالتمييز الخلاَّق بين المقدَّس والسياسي، بهدف علمنة المجال العام. وضمن هذا الأفق، يمكن أن نرسم الملامح الكبرى لروحانية يشتغل فيها الإنسان على ذاته وجسده، وأنماط حركته وعيشه، حيث يحضر الجميل والفاتن في حُلَلٍ جديدة، ويحتلاَّن فضاءات أكبر في الحياة.
(5)
نتصوَّر أن التراث الإسلامي، مثله في ذلك مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حَمَّال أوجه لا حصر لها. وهو خزّان قابل اليوم، لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار. أما أن يُواصل التأويل المحافظ والجامد للظواهر التراثية، حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا وبصورة مدعومة بشبكات التواصل الاجتماعي، فإن النتائج التي قد تترتَّب عن الفيض التراثي المحافظ ستكرس خيارات متحجِّرة في النظر إلى موروثنا، وتبعدنا عن مزايا التعامل الخلاَّق والمبدع مع ماضينا.
(6)
لا علاقة لقيم الإسلام كما تبلورت في التاريخ، بما هو شائع اليوم من الأفكار المتداولَة عنها، في
(7)
ارتبط وصول الإسلاميين إلى السلطة بترويج مشروع دَمْج الحركات الإسلامية في حركية دَمَقْرَطَةِ المجتمعات العربية، كما ارتبط بمحاولات الفصل بينها وبين الأنوية والأخويات السلفية والجهادية والخيرية وأخويات الزوايا. إلا أن حسابات الذين رَتَّبوا هذه الخطوة أغفلت عمق الروابط الجامعة بين التيارات المذكورة وسُمكها، كما أغفلت السياقات العامة لأوضاع المجتمع والثقافة في عالمنا، وحاجة مجتمعاتنا، أولاً وقبل أي شيء، لأفق في التنوير والتقدُّم، يَقْطَعُ مع منطق في الفكر ورؤية للتاريخ لم تعد مناسبة لزماننا، ولروح التطلُّعات الإصلاحية التي نروم إنجازها في مجتمعاتنا.
(8)
لم تحصل الثورات العربية لتحقق صحوة دينية، كما يحلو لبعضهم أن يتصور في ضوء وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة. بل إن صور الاحتجاج التي كانت تعبر عن تطلعات المتظاهرين في الساحات والميادين العمومية، كانت تروم، أولاً وقبل كل شيء، التخلص من الأنظمة الاستبدادية، أنظمة الحزب الواحد التي تُحَوِّل الدول، بمختلف مواردها وأرصدتها المادية والرمزية، إلى ممتلكات خاصة، وأنظمة التعدّدية الحزبية المصنوعة بالمساحيق قصد التمويه. قامت الثورات لتخاصم هذه الأنظمة مجتمعة، ما سقط منها ومن لا يزال يواصل الممانعة، كما قامت لتواجه الاستبداد المسلح بالدين أو بالعقائد الشمولية.
(9)
لم تتمكَّن المجتمعات العربية من إنجاز المراجعات النقدية المطلوبة لتجديد إرثها التاريخي وتطويره، حيث ما فتئت تستعيد هذا الميراث بطرق ومناهج تقليدية، مُغْفِلةً مقتضيات التحوُّل الجارية في مجتمعاتها وفي العالم، ومغفلة الثورات المنهجية المرتبط بتطوُّر العلوم والمعارف الإنسانية. إن السطوة الذهنية التي يواصِل ممارستها تأويل معين للتراث الإسلامي في حاضرنا، تكاد تحوّلنا إلى كائنات تراثية.