21 نوفمبر 2024
الثـورات الكاشفـة
أتيح لي، في أكثر من مناسبة، أن أوضح أن الانفجارات المُدَوِّيَة التي ملأت فضاءات أغلب المجتمعات العربية، سنة 2011، كانت تعكس، في العمق، جملة مخاضات كانت تَمُور في قلب هذه المجتمعات. صحيح أن الانفجارات المذكورة، وقد مر عليها أزيد من أربع سنوات، أنتجت أوضاعاً سياسية واجتماعية وثقافية تدعو، اليوم، إلى قلقٍ كثير، حيث عادت لتتناسل في قلب المجتمعات التي حصلت فيها تناقضات قديمة، كما تبلورت بفعل ما حدث تناقضات جديدة، ضاعفت من تدهور الوضع السياسي العربي.
يلاحظ المتابع لتداعيات ما حصل في الأزمنة التي اعتاد الدارسون أن يطلقوا عليها أزمنة ما بعد الثورات نشوء ظواهر ترتب عنها جملة من المآزق والاختناقات المرتبطة، في العادة، بأطوار التحول والانتقال في التاريخ. ونفترض أن ما حصل، ويحصل، يدعو الفاعلين من المنخرطين في خِضَمِّ الانفجارات الحاصلة وتداعياتها، إلى إيجاد المخارج والحلول المساعدة على تقليص حُزَمِ الارتباكات التي تواصلت بشكل لا ينقطع إلا ليتجدَّد، ويتخذ مظاهر تتَّسع أكثر مما تضيق. نقول إن ما حصل يدعو إلى كثير من الانتباه واليقظة، وإلى ابتكار مبادرات تسمح بتجاوز المآزق وصور الخلل القائمة.
يمكن أن نشير، هنا، أيضاً إلى أبواب ما تزال موصدة أمام أفعال الانفجار، وإلى الانفجارات المضادة والتفاعلات الإقليمية، إن لم نقل التدخلات الإقليمية والدولية التي ولجت هذه المجتمعات، من أبواب أخرى، بهدف اغتنامِ فرصٍ، أو الانتقام من مواقف وأحداث سابقة.
يضاف إلى ما سبق أن المشهد السياسي العربي، سواء في بلدان الثورات أو البلدان التي شملتها، بدرجة أو بأخرى، رياح الحراك الاجتماعي وتداعياته، أو حتى في البلدان التي رتَّبت، قبل كل ما حصل في السنوات الأربع الماضية وفي أثنائه وبعده، جيوباً لمقاومة كل ما له علاقة بالانفجارات وتداعياتها. أقول يمكننا أن نسجل، بجوار ذلك كله، غَلَبَةَ رؤية متشائمة ورافضة للحراك والثورات وتوابعهما.
نتبين ذلك، وسط أصوات الدمار المتلاحقة في أكثر البلدان العربية، كما نتبينه في الطريقة التي تَمَّ بها بَعْثُ سيناريو الطوائف والتناحر المذهبي في بعض المجتمعات، وصناعته في أخرى، انطلاقاً من جملة من الوقائع والمعطيات التاريخية، بهدف منح التمذهب والقبلية والطائفية صفات الحقيقة الواقعية، حيث لم يعد هناك أحد يتحدث عن وطن مشترك، أو أمة واحدة، قَدْرَ ما لاحظنا تناسل خطابات المِلَلِ والنِّحَلِ مجدَّداً، لتصبح الوجه البارز في حروب داحس والغبراء.
تتردَّد في قلب التراجعات، المُعَايَنَة في مجتمعاتٍ عربيةٍ كثيرة، غمغمات تَلُوكُها مصادر متعددة، لتقول لكل الذين تحمسوا للثورات العربية، وحاولوا ربطها بسياقات منظومات الإصلاح والنهضة في فكرنا ومجتمعنا، ها أنتم اليوم تجنون الخيبات والدَّمَار، فقد أصبحت حالنا، بعد برق الثورات وبريقها، نتساءل عن الخلفيات التآمرية التي أدخلت مجتمعاتنا إلى حالة من التردِّي والصراع، جعلتنا أكثر بعداً عن مشروع التحديث والإصلاح السياسي الديمقراطي. إلا أننا نرى أن أصحاب الغمغمات والمواقف التي تعبر عنها، أو تشير إليها، يُغفلون، أو يتغافلون، أمراً نعتقد أنه أجْدَرَ بالاهتمام، يتعلق بأن الثورات كشفت المُسْتَتِر والمستور في جوانب عديدة من مجتمعنا وثقافتنا ومشهدنا السياسي، أُلْحِقَت بِسِجِلِّ انكساراتنا وهزائمنا المتواصلة.
وقبل أن نوضح جوانب من الدور الكاشف للثورات، نشير إلى أن فعل الثورة التي حصلت، هنا وهناك وما تلاها ويتلوها من وقائع وأحداث، أظهر، بشكل جَلِيّ، عجز الثورات المضادّة والغمغمات التي تواكبها وعدم قدرتها على إيقاف حركيتها، حتى عندما لَحِقَهَا الضُّمُور، أو توقفت مؤقتاً، ليفعل التاريخ بنتائجها ما نفترض أنه بصدد التَّكَوُّن والتَّبَلْوُر، آجلاً أو عاجلاً.
أما ما كشفت عنه الثورات العربية، فيمكن ترتيبه في المجال السياسي في صورة عجزيْن بارزين. يتعلق الأول بالعجز عن تدبير الحوار بين أطراف الخلاف في مشهدنا السياسي. وهنا، نتساءل: كيف يحصل أن تقوم ثورة، يدبرها فاعلون وسط مجتمع يتطلع إليها، وتعبئ الثورة المجتمع حتى تنجح، وينخرط المشهد السياسي بِرمَّتِه فيها، ويجد الفاعلون السياسيون صعوبة، بل صعوبات جمَّة، في ترتيب جدول أعمال الحوار. يمكن أن نشير، هنا، مثلاً، إلى ما وقع في تونس قبل سنة، وما يقع في ليبيا، الآن، وما وقع ويقع في اليمن وسورية؟
لا يتعلق الأمر بالعجز في تدبير الحوار فقط، بل يبرز العجز الأعظم في عدم قدرة الفاعلين السياسيين على تدبير التوافق في ما بينهم، ووضع برنامج يتضمن إجراءات تسمح بتجاوز المآزق؟ ولا نريد أن نُغْفِل الإشارة، هنا، إلى الصعوبات العديدة التي واجهتها، وتواجهها، قوى الانتفاض والمعارضة السورية.
ويعدّ تفاقم الأزمات والانكسارات الحاصلة اليوم في أكثر من ساحة عربية، بدوره، عاملاً كاشفاً لجوانب من معطيات المشهد السياسي العربي. ونحن في ضوء ما يجري اليوم، نشعر بالدور البارز الذي حققته الانفجارات في فضح مضمرات كثير من خيبات مشهدنا السياسي، ففي ضوء مظاهر الخراب القائم في المدن والأرياف العربية، وفي ظلِّ العودات المجنونة إلى الطوائف وأشجار النَّسَب، نواصل تطلعنا إلى الأفضل الذي نؤمن به جميعاً. يتعلق الأمر بتحصين مكاسب التحديث والدَّمَقْرَطَة في مجتمعاتنا وتطويرها، ومواصلة العمل السياسي والتاريخي القادرين على عبور انسدادات الراهن العربي وتجاوزها.
يلاحظ المتابع لتداعيات ما حصل في الأزمنة التي اعتاد الدارسون أن يطلقوا عليها أزمنة ما بعد الثورات نشوء ظواهر ترتب عنها جملة من المآزق والاختناقات المرتبطة، في العادة، بأطوار التحول والانتقال في التاريخ. ونفترض أن ما حصل، ويحصل، يدعو الفاعلين من المنخرطين في خِضَمِّ الانفجارات الحاصلة وتداعياتها، إلى إيجاد المخارج والحلول المساعدة على تقليص حُزَمِ الارتباكات التي تواصلت بشكل لا ينقطع إلا ليتجدَّد، ويتخذ مظاهر تتَّسع أكثر مما تضيق. نقول إن ما حصل يدعو إلى كثير من الانتباه واليقظة، وإلى ابتكار مبادرات تسمح بتجاوز المآزق وصور الخلل القائمة.
يمكن أن نشير، هنا، أيضاً إلى أبواب ما تزال موصدة أمام أفعال الانفجار، وإلى الانفجارات المضادة والتفاعلات الإقليمية، إن لم نقل التدخلات الإقليمية والدولية التي ولجت هذه المجتمعات، من أبواب أخرى، بهدف اغتنامِ فرصٍ، أو الانتقام من مواقف وأحداث سابقة.
يضاف إلى ما سبق أن المشهد السياسي العربي، سواء في بلدان الثورات أو البلدان التي شملتها، بدرجة أو بأخرى، رياح الحراك الاجتماعي وتداعياته، أو حتى في البلدان التي رتَّبت، قبل كل ما حصل في السنوات الأربع الماضية وفي أثنائه وبعده، جيوباً لمقاومة كل ما له علاقة بالانفجارات وتداعياتها. أقول يمكننا أن نسجل، بجوار ذلك كله، غَلَبَةَ رؤية متشائمة ورافضة للحراك والثورات وتوابعهما.
نتبين ذلك، وسط أصوات الدمار المتلاحقة في أكثر البلدان العربية، كما نتبينه في الطريقة التي تَمَّ بها بَعْثُ سيناريو الطوائف والتناحر المذهبي في بعض المجتمعات، وصناعته في أخرى، انطلاقاً من جملة من الوقائع والمعطيات التاريخية، بهدف منح التمذهب والقبلية والطائفية صفات الحقيقة الواقعية، حيث لم يعد هناك أحد يتحدث عن وطن مشترك، أو أمة واحدة، قَدْرَ ما لاحظنا تناسل خطابات المِلَلِ والنِّحَلِ مجدَّداً، لتصبح الوجه البارز في حروب داحس والغبراء.
تتردَّد في قلب التراجعات، المُعَايَنَة في مجتمعاتٍ عربيةٍ كثيرة، غمغمات تَلُوكُها مصادر متعددة، لتقول لكل الذين تحمسوا للثورات العربية، وحاولوا ربطها بسياقات منظومات الإصلاح والنهضة في فكرنا ومجتمعنا، ها أنتم اليوم تجنون الخيبات والدَّمَار، فقد أصبحت حالنا، بعد برق الثورات وبريقها، نتساءل عن الخلفيات التآمرية التي أدخلت مجتمعاتنا إلى حالة من التردِّي والصراع، جعلتنا أكثر بعداً عن مشروع التحديث والإصلاح السياسي الديمقراطي. إلا أننا نرى أن أصحاب الغمغمات والمواقف التي تعبر عنها، أو تشير إليها، يُغفلون، أو يتغافلون، أمراً نعتقد أنه أجْدَرَ بالاهتمام، يتعلق بأن الثورات كشفت المُسْتَتِر والمستور في جوانب عديدة من مجتمعنا وثقافتنا ومشهدنا السياسي، أُلْحِقَت بِسِجِلِّ انكساراتنا وهزائمنا المتواصلة.
وقبل أن نوضح جوانب من الدور الكاشف للثورات، نشير إلى أن فعل الثورة التي حصلت، هنا وهناك وما تلاها ويتلوها من وقائع وأحداث، أظهر، بشكل جَلِيّ، عجز الثورات المضادّة والغمغمات التي تواكبها وعدم قدرتها على إيقاف حركيتها، حتى عندما لَحِقَهَا الضُّمُور، أو توقفت مؤقتاً، ليفعل التاريخ بنتائجها ما نفترض أنه بصدد التَّكَوُّن والتَّبَلْوُر، آجلاً أو عاجلاً.
أما ما كشفت عنه الثورات العربية، فيمكن ترتيبه في المجال السياسي في صورة عجزيْن بارزين. يتعلق الأول بالعجز عن تدبير الحوار بين أطراف الخلاف في مشهدنا السياسي. وهنا، نتساءل: كيف يحصل أن تقوم ثورة، يدبرها فاعلون وسط مجتمع يتطلع إليها، وتعبئ الثورة المجتمع حتى تنجح، وينخرط المشهد السياسي بِرمَّتِه فيها، ويجد الفاعلون السياسيون صعوبة، بل صعوبات جمَّة، في ترتيب جدول أعمال الحوار. يمكن أن نشير، هنا، مثلاً، إلى ما وقع في تونس قبل سنة، وما يقع في ليبيا، الآن، وما وقع ويقع في اليمن وسورية؟
لا يتعلق الأمر بالعجز في تدبير الحوار فقط، بل يبرز العجز الأعظم في عدم قدرة الفاعلين السياسيين على تدبير التوافق في ما بينهم، ووضع برنامج يتضمن إجراءات تسمح بتجاوز المآزق؟ ولا نريد أن نُغْفِل الإشارة، هنا، إلى الصعوبات العديدة التي واجهتها، وتواجهها، قوى الانتفاض والمعارضة السورية.
ويعدّ تفاقم الأزمات والانكسارات الحاصلة اليوم في أكثر من ساحة عربية، بدوره، عاملاً كاشفاً لجوانب من معطيات المشهد السياسي العربي. ونحن في ضوء ما يجري اليوم، نشعر بالدور البارز الذي حققته الانفجارات في فضح مضمرات كثير من خيبات مشهدنا السياسي، ففي ضوء مظاهر الخراب القائم في المدن والأرياف العربية، وفي ظلِّ العودات المجنونة إلى الطوائف وأشجار النَّسَب، نواصل تطلعنا إلى الأفضل الذي نؤمن به جميعاً. يتعلق الأمر بتحصين مكاسب التحديث والدَّمَقْرَطَة في مجتمعاتنا وتطويرها، ومواصلة العمل السياسي والتاريخي القادرين على عبور انسدادات الراهن العربي وتجاوزها.