12 فبراير 2021
الثورات العربية وسؤال "إمكان" الحرية
أعادت احتجاجات الجزائر والسودان التي اندلعت في الربيع المنصرم، وغاب في أثنائها رئيسا البلدين، الحاجة لإعادة النظر في معاني بعض الشعارات التي نادى بها المتظاهرون. ومعلوم أن شعار "الحرية" ظل أبرزَ شعار ونداء أطلقه المتظاهرون في شوارع مدن الربيع العربي في طوره الأول، تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، وفي طوره الثاني، الجزائر والسودان.
والحرية التي أرادها المحتجون هي التحرّر من قمع السلطة الحاكمة، ومن امتهانها الكرامة وانتهاكها الجسد، ثمّ التحرّر من استبداد الحاكم الواحد بالحكم مدة تصل إلى عشرين وثلاثين عاماً. وبين هذين المطلبين الأساسيين للتحرّر، وقعت الثورات العربية.
ظهر الرفض والاحتجاج ضد "الانتهاك" في الثورة التونسية التي اشتعل فتيلها حين أشعل محمد البوعزيزي النيران في نفسه غضبا، حين أهين بصفعة على وجهه بعد أن صادرت البلدية عربته وميزانه. وظهر الرفض ضد الانتهاك كذلك في الثورة المصرية التي كان غضبها موجهًا ابتداءً لانتهاكات الشرطة أجساد المواطنين وحيواتهم. ثمّ علا طموح الثورة والاحتجاج للمطالبة بالحرية، ليس من الانتهاك الجسدي فقط، بل من الخضوع للحاكم واستبداده بالحكم سنينَ غير معلومة وغير محدّدة.
وسلامة الجسد من الانتهاك وسلامة النفس من المهانة من الاحتياجات الأساسية عند جميع بني البشر، وهذا يعني أنّ الكرامة والاحترام على المستويين، السياسي والجماعي، هما من الشروط
الإنسانية للعيش المشترك، فلكلّ إنسانٍ الحق في أن يكون له نفس مكرّمة وجسد محترم. وبدون هذين الشرطين وكفالتهما جميع النّاس باختلاف مستوياتهم وطبقاتهم، لا يمكن أن يتحقق الاستقرار في الاجتماع البشري، فمن انتهكت كرامة نفسه، أو انتهك احترام جسده، خصوصاً إذا كان هذا الامتهان والانتهاك معمّمًا على طبقة أو فئة أو جماعة، فإن الصبر والاستسلام هما الحل المؤقت إزاء القمع والعنف الهادف، حتى تأتي لحظة تاريخية مواتية لإعلان الغضب، وقول "لا" مهما كانت التكلفة، فالتكلفة لن تكون أكثر ما خسره المتظاهرون بالفعل: لن يكون أكثر من قتل الأجساد التي في حياتها خطر تعرضها للانتهاك. ثمّ تاق المتظاهرون والمحتجون على السلطة والمطالبون بالحرية إلى خلع الحاكم الذي وضعت في رقبته المسؤولية عن الانتهاك والامتهان والقمع والخوف والفساد.
في مصر: هتف المتظاهرون: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وبعضهم أضاف "كرامة إنسانية". و"العيش" هو كناية أو رمز لضرورات المعيشة الكريمة، والعدالة الاجتماعية هي نيل كلّ فئة حقوقها ونصيبها من الموارد، والمساواة في الفرص، فيأخذ كلّ ذي حق حقّه، فيستطيع الجميع نيل الحق المحدّد والمعروف لكل واحدٍ، وكل فئة. كما أنّ العدالة كانت مرتبطةً في مطالب المتظاهرين بمطلب القصاص. والكرامة الإنسانية هي حماية الجسد من الانتهاك وحماية النفس من الامتهان، وضمان الحق الأساسي للجسد والنفس في التكريم والصون والحفظ.
ولكن بقي سؤال الحرية ربما أكثر الأسئلة والمطالب غير المحددة، وغير الموضحة. كان المتظاهرون والمحتجون إلى العاطفة أقرب وعن العقل أبعد، فحين كانت الشوارع تهدر كل جمعة طوال عام ونصف العام على سبيل المثال، لم يهدأ المتظاهرون مدة ولو قصيرة، ليتكلموا في معاني هذه الشعارات الكبيرة. كان التعامل مع هذه المطالبات باعتبارها "أمرًا" واجبًا يلزم تنفيذه من الحاكم الذي يريدون تغييره. ولكن المتظاهرين لم يعبأوا كثيرًا في التفكير في "معاني" هذه الشعارات من جهة، وفي إمكان هذه المطالب، أي إمكان تحققها من جهة أخرى.
هل بالإمكان نيلُ الحرية، وفي الوقت نفسه، تحقيقُ الاكتفاء المعيشي الكريم لضرورات الحياة؟ المشكلة في المطلبين أن بينهما تناقضًا حقيقيًا، فلتحقيق "العيش الكريم" تبدو الحاجة أكثر
إلحاحًا تجاه تشغيل جهاز الدولة البيروقراطي وإدارته بكفاءة واقتدار، وتبدو الحاجة أكثرَ إلحاحًا كذلك، لتوفير مناخ ملائم للاستقرار لبناء اقتصاد قوي، لأجل توفير فرص العيش الكريم بعدالة لجميع المواطنين. ولتحقيق الأمرين، أي لإمكان بناء اقتصاد قويّ، ولتحقيق الكفاءة في إدارة الجهاز البيروقراطي لضمان توزيع العيش الكريم على المواطنين بعدالة، يلزم تحقيق شرط الاستقرار والهدوء النسبي.
وفي المقابل، بدا "التظاهر" و"الاحتجاج" التمظهر الأساسي للحرية في الثورات العربية، وغالبا ما يحدثان اعتراضًا على قرار سياسي ما، ومطالبةً بتغييره وفقًا لما ينادي به المتظاهرون، تبعًا لإرادتهم هم، والتي ليس من الضروري أن تكون إرادة جمعية كما يدّعون.
فكانت تظاهرات عديدة في أيام الجمعة مثلاً في مصر عام 2011 لاستكمال أهداف الثورة، وكان المطلب الأساسي للمتظاهرين أن يحدث شيء ما، وعلى المسؤولين تنفيذه. هنا يبدو تحقيق ما يتصوّر أنه "إرادة جمعية" هو صورة الحرية وتمظهرها. ولهذا كان شعار الثورة المصرية "الشعب يريد.."، ويستطيع الشعب إضافة أي شيء بعد "يريد"، أولها كان إسقاط النظام، ثم باتت المطالبة بأي شيء بعد كلمة "يريد". وغدت هي الكلمة الساحرة التي توهم الشباب المتظاهرون أنها تؤثر بالفعل، وأن المطالبة والإصرار على المطالبة هو ما يؤثر ويحقق المطلب. وهذا توهم، ليس من السهل فقط استنتاجه، بل أثبت مسار الأحداث في تونس
وليبيا وسورية واليمن عكس ذلك. بل أثبت أن صيحات المتظاهرين ونداءاتهم ليست إلا إخراجًا للغضب من جهة، وحاجةً إلى التجمع والاجتماع من جهة أخرى.
السؤال أو التساؤل هنا: كيف يمكن الجمع بين هذين المطلبين في الوقت نفسه، بين مطلب "العيش"، وهو المطلب الذي يتطلب تحقيق الاستقرار، لتحقيق الكفاءة في الإدارة والاقتصاد، وهو ما يقتضي ألاّ يكون التظاهر حدثًا دوريًا يحدث بسهولة، ومطلب الحرية التي تعني "إرادة جمع من المتظاهرين" تطالب فورًا وحالاً بالإسقاط، وبالمحاسبة وبالقصاص، وغيرها من مطالب تلزم لتحقيقها بنية واقعية مختلفة عن الموجود، تؤمن حدوث هذه المطالب الفوري.
التناقض هنا واضح، ويطعن مبدئياً في "إمكان" الحرية من الأصل، فما سيربح هو "العيش"، حتى وإن كان غير عادل، كما هو واقع بالفعل. لأن الضرورة والجبرية المتمثلة في حاجات الناس لضرورات الحياة من غذاء ودواء وسكن وانتقال، تحتاج الاستقرار الذي يتناقض مع المطالبة الفورية بالرحيل والإسقاط، وتحقق أي شيء تتعلق به إرادة جمع من المتظاهرين الذي هو شكل ممارستهم الحرية.
ظهر الرفض والاحتجاج ضد "الانتهاك" في الثورة التونسية التي اشتعل فتيلها حين أشعل محمد البوعزيزي النيران في نفسه غضبا، حين أهين بصفعة على وجهه بعد أن صادرت البلدية عربته وميزانه. وظهر الرفض ضد الانتهاك كذلك في الثورة المصرية التي كان غضبها موجهًا ابتداءً لانتهاكات الشرطة أجساد المواطنين وحيواتهم. ثمّ علا طموح الثورة والاحتجاج للمطالبة بالحرية، ليس من الانتهاك الجسدي فقط، بل من الخضوع للحاكم واستبداده بالحكم سنينَ غير معلومة وغير محدّدة.
وسلامة الجسد من الانتهاك وسلامة النفس من المهانة من الاحتياجات الأساسية عند جميع بني البشر، وهذا يعني أنّ الكرامة والاحترام على المستويين، السياسي والجماعي، هما من الشروط
في مصر: هتف المتظاهرون: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وبعضهم أضاف "كرامة إنسانية". و"العيش" هو كناية أو رمز لضرورات المعيشة الكريمة، والعدالة الاجتماعية هي نيل كلّ فئة حقوقها ونصيبها من الموارد، والمساواة في الفرص، فيأخذ كلّ ذي حق حقّه، فيستطيع الجميع نيل الحق المحدّد والمعروف لكل واحدٍ، وكل فئة. كما أنّ العدالة كانت مرتبطةً في مطالب المتظاهرين بمطلب القصاص. والكرامة الإنسانية هي حماية الجسد من الانتهاك وحماية النفس من الامتهان، وضمان الحق الأساسي للجسد والنفس في التكريم والصون والحفظ.
ولكن بقي سؤال الحرية ربما أكثر الأسئلة والمطالب غير المحددة، وغير الموضحة. كان المتظاهرون والمحتجون إلى العاطفة أقرب وعن العقل أبعد، فحين كانت الشوارع تهدر كل جمعة طوال عام ونصف العام على سبيل المثال، لم يهدأ المتظاهرون مدة ولو قصيرة، ليتكلموا في معاني هذه الشعارات الكبيرة. كان التعامل مع هذه المطالبات باعتبارها "أمرًا" واجبًا يلزم تنفيذه من الحاكم الذي يريدون تغييره. ولكن المتظاهرين لم يعبأوا كثيرًا في التفكير في "معاني" هذه الشعارات من جهة، وفي إمكان هذه المطالب، أي إمكان تحققها من جهة أخرى.
هل بالإمكان نيلُ الحرية، وفي الوقت نفسه، تحقيقُ الاكتفاء المعيشي الكريم لضرورات الحياة؟ المشكلة في المطلبين أن بينهما تناقضًا حقيقيًا، فلتحقيق "العيش الكريم" تبدو الحاجة أكثر
وفي المقابل، بدا "التظاهر" و"الاحتجاج" التمظهر الأساسي للحرية في الثورات العربية، وغالبا ما يحدثان اعتراضًا على قرار سياسي ما، ومطالبةً بتغييره وفقًا لما ينادي به المتظاهرون، تبعًا لإرادتهم هم، والتي ليس من الضروري أن تكون إرادة جمعية كما يدّعون.
فكانت تظاهرات عديدة في أيام الجمعة مثلاً في مصر عام 2011 لاستكمال أهداف الثورة، وكان المطلب الأساسي للمتظاهرين أن يحدث شيء ما، وعلى المسؤولين تنفيذه. هنا يبدو تحقيق ما يتصوّر أنه "إرادة جمعية" هو صورة الحرية وتمظهرها. ولهذا كان شعار الثورة المصرية "الشعب يريد.."، ويستطيع الشعب إضافة أي شيء بعد "يريد"، أولها كان إسقاط النظام، ثم باتت المطالبة بأي شيء بعد كلمة "يريد". وغدت هي الكلمة الساحرة التي توهم الشباب المتظاهرون أنها تؤثر بالفعل، وأن المطالبة والإصرار على المطالبة هو ما يؤثر ويحقق المطلب. وهذا توهم، ليس من السهل فقط استنتاجه، بل أثبت مسار الأحداث في تونس
السؤال أو التساؤل هنا: كيف يمكن الجمع بين هذين المطلبين في الوقت نفسه، بين مطلب "العيش"، وهو المطلب الذي يتطلب تحقيق الاستقرار، لتحقيق الكفاءة في الإدارة والاقتصاد، وهو ما يقتضي ألاّ يكون التظاهر حدثًا دوريًا يحدث بسهولة، ومطلب الحرية التي تعني "إرادة جمع من المتظاهرين" تطالب فورًا وحالاً بالإسقاط، وبالمحاسبة وبالقصاص، وغيرها من مطالب تلزم لتحقيقها بنية واقعية مختلفة عن الموجود، تؤمن حدوث هذه المطالب الفوري.
التناقض هنا واضح، ويطعن مبدئياً في "إمكان" الحرية من الأصل، فما سيربح هو "العيش"، حتى وإن كان غير عادل، كما هو واقع بالفعل. لأن الضرورة والجبرية المتمثلة في حاجات الناس لضرورات الحياة من غذاء ودواء وسكن وانتقال، تحتاج الاستقرار الذي يتناقض مع المطالبة الفورية بالرحيل والإسقاط، وتحقق أي شيء تتعلق به إرادة جمع من المتظاهرين الذي هو شكل ممارستهم الحرية.
خديجة جعفر
مقالات أخرى
05 فبراير 2021
27 يناير 2021
20 نوفمبر 2020