07 نوفمبر 2024
الثورة اللبنانية راجعة بعد كورونا
في السابع من مارس/آذار الماضي، عشية عيد المرأة، كانت تسألني صديقتي الصحافية إن كنتُ سأشارك في تظاهرة الغد التي تنظّمها في بيروت المجموعات النسائية والنسوية الثورية، بمناسبة عيد المرأة. أجبتها كلا، طبعاً. فكورونا كانت قد بدأت تحوم حولنا، والبقاء في البيت صار خير حماية لي ولغيري منه. لم تقتنع صديقتي بردّي. ولو اقتنعت لكانت زادتني ثقة. قالت إن الموضوع ليس بهذه الخطورة، ويجب علينا عدم تفويت الفرصة .. إلخ. ولكنها، في المساء، اتصلت بي وأخبرتني أن المجموعات النسائية اجتمعت منذ نصف ساعة، وقررت إلغاء التظاهرة، وهي كانت في بدايات استشعارها لخطر كورونا، وقدّرت أن المتجاوبين والمتجاوبات سيكونون قليلين. وقد يكون ذلك سببا في هزال التظاهرة، لو بقيت على دعوتها.
أعتقد أن هذه الواقعة هي آخر المبادرات الثورية. وبيّن إلغاء التظاهرة، بسبب كورونا، أن المجتمع اللبناني بادر قبل ما يسمّى "دولته" إلى حماية أبنائه من الوباء؛ فهو لا يثق بها، ولا يحتاج إليها في ملمّاته. ولكن، من يومها، اختفت الثورة عن المشهد العام. وحلّت على خشبته حكومة سعيدة، أن لا شيء، لا شيء حرفياً يقف دون "قراراتها"، أو بالأحرى عدم قراراتها، إلا بضغط خارجي .. حكومة الـ"سوف"، التي سوف تعمل وتدرس وتبادر وتشكل وتوقع وتقيّم .. صولات وجولات من الـ"سوف"، أسفرت حتى الآن تجميداً للحركة، إلا باتجاهين؛ فباستثناء الرضوخ لضغوط واشنطن لإطلاق سراح العميل عامر فاخوري، والتشاجر مع المصارف على من يكون الأحق بين الشريكين بدفع الثمن الأدنى من الانهيار الاقتصادي، والعراضات الإعلامية الكورونية المرهقة، وبعضها أهبل؛ وباستثناء إعادة "المغتربين" المحسوبين على هذا أو ذاك من "أقطاب" العهد، أو إعداد لائحة مساعدات للفقراء، مغشوشة وملغومة .. باستثناء هذه الإنجازات الجبارة، لم تتمكّن حكومة اللون الواحد من حسم أي خلافٍ حول الحصص بين أركانها: التعيينات المالية الخلافية، ألغيت عن جدول أعمال الحكومة، فتأجلت إلى تاريخ غير محدّد، بقرار بطولي من رئيس الحكومة. ومع أن هذا التأجيل ينسجم مع روحية حكومة الـ"سوف"، إلا أن الإعلام الممانع استقبله بترحيب منقطع النظير، اعتبر فيه رئيس الحكومة صاحب "انتفاصة"، يستحق "البرافو" (عافاك! أحسنتَ!). ذلك كله لأنه أكد على الـ"سوف"، وقرّر ألّا يقرّر، وصرّح بأنه إنما بعدم قراره هذا عبّر عن رفضه "للمحسوبيات والمحاصصات" في هذه التعيينات... فيما "نجح" بتمرير نصف قرارٍ بتعيينات قضائية، خلافاً للقانون، وأحال النصف الآخر من هذه التعيينات إلى التأجيل، إلى الـ"سوف".
في هذه الأثناء، المصارف تسرقنا وتذلّنا، والغلاء يكوينا، وارتفاع سعر الدولار يحيل عملتنا
الوطنية إلى حضيضٍ جديد مطلع كل يوم، والبطالة ترتفع بنسب خيالية، غير معروفة، ولا مطلوب أن تكون معروفة. والمياومون، أشقى خلق الله، الذين لا يأكلون إلا إذا خرجوا من البيت .. وكورونا الذي يطرق الأبواب بخفر، ويتساءل اللبنانيون ما هي تلك المعجزة التي تجعلنا متفوقين على إسرائيل في صدّه؟ هل يكون استباقنا الوباء قبل "دولتنا"؟ هل نكون نحن، أصحاب الفضل، بطبيعتنا المتكيّفة مع كل المصائب؟ وتدرّبنا اليومي على التعامل مع صعوبات البديهيات؟ أو صغر مدننا؟ أو تهالك النقل العام في شوارعها؟ أو شطارة تجّارنا الذين أوجدوا الكمّامات في الأسواق قبل الغرب كله؟ قبل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة؟ وهذه نقطة، هي الوحيدة السارّة الآن، مع الطقس الربيعي الدافئ المشعّ. ولكن في العمق، الجوع يطرُق أبواباً متزايدة، والمصارف لا تعرف كيف تسرق، والعهد لا يعرف كيف يسكت عنها، إلا بطرح بدائله الفاسدة .. ولا شيء في الأفق الثوري.
بلى، بلى: "مبادرات" غير حكومية، تعطي إنذاراً، أو تفهمنا شيئاً مما يحدث خلف كواليس الرسميات. الأولى إشارة المدير الإقليمي للبنك الدولي، ساروج كومار؛ وقد أصدر بياناً حول مشروع سدّ بسري، المعروف عنه أنه مجْدول بالفساد، والذي يريد صاحب العهد أن يحييه من جديد بعدما عارضته الثورة بفاعلية ونشاط. مما قاله المدير: استعداد البنك الدولي لتحويل أموال القروض المخصصة للسدّ نحو احتياجات السكان؛ وبرّر التحويل بـ"المعارضة التي شهدها المشروع". ما دفع به إلى الطلب من الحكومة "إطلاق حوار عام وشفّاف لمعالجة الاعتراضات التي أثارها حوله المواطنون ومؤسسات من المجتمع المدني".
السفيرة الأميركية، دوروثي شيا، دعت الحكومة اللبنانية إلى صياغة "برنامج للإصلاح الاقتصادي ومكافحة الفساد ووضع السياسات الفعالة لإخراج لبنان من هذه الأزمة". أما جمعية المصارف، إحدى شريكات السلطة في النهب، فقد ذهبت بعيداً في استنجادها باللبنانيين ضد خصومها في العهد: أصدرت بياناً مطولاً، يحمّل "الدولة" مسؤولية الفشل الحاصل، واستغاثت مرّتين بـ"المجتمع المدني". مرّة "لمواجهة مشروع تغيير هوية الاقتصاد اللبناني، وتحويله من اقتصاد حرّ إلى اقتصاد موجّه ينطوي على تأميم مقنّع". ومرة أخرى، لتضافر جهود "المودعين والمجتمع المدني لمنع هذا المشروع من التحقيق".
القارئ النبيه لكل هذه الأسهم، وليد جنبلاط، تيقّن من "طبيعة اللحظة"، فأعلن النفير، وأصدر موقفاً لاذعاً يصف سلوكيات الحكومة وأطرافها الخلفيين بـ"البعثية". وبدا، لحظة وجيزة، وكأنه والده الراحل كمال جنبلاط، عندما خرج عن السلطة التي كان واحداً من أركانها، عشية الحرب الأهلية، وشرع يقود الحركة الوطنية اللبنانية في مشروعها التغييري المفصّل. "لحظة وجيزة"، دام هذا الانطباع، شحذا ربما لقليل من الأمل، زال سريعاً.
المهم أنه، بعد أيام، ومحادثات نخمّنها، من دون أن نؤكدها، وإرسال مبعوثين من جنبلاط إلى أحد أطراف الحلف المطلوب، أي سمير جعجع .. حطّت في مطار بيروت طائرة خاصة، تقلّ سعد
الحريري من مقرّه الباريسي. وأخذت التسريبات عن "مراجع موثوقة" تنتشر في الإعلام، وخروج تلك الكلمة السحرية: "معارضة". سوف يكون الثلاثة، جنبلاط والحريري وجعجع، أركان "المعارضة"؛ مدعومين، وبدرجةٍ مدروسةٍ من العلانية، بواحد من أركان السلطة نفسها، المشارِكة في الحكومة. وبخطابٍ لا يختلف كثيراً عن خطاب العهد: مثله، ستكون هذه المعارضة ضد الفساد، ضد التعيينات، ضد تجاوزات القانون والدستور، ضد الاستئثار .. إلخ.
الإغراء الكبير هو أن تنضوي المجموعات الثورية تحت راية هذه "المعارضة". وأساس الإغراء هو المجال: فالمجال صعب الآن، والخروج، أي التظاهر، أي التعبير الثوري الأبقى، لن يحصل إلا كما حصل في طرابلس أخيرا: من دون تنظيم، وبعفوية، بتجاهلٍ للوباء، بما يضيف إلى الفوضى القديمة هرْجاً ومرْجاً جديدَين.. وإلى ما هنالك من حجج التقرّب الممكن مع هذه "المعارضة". ولكن ما يبدّد هذا الإغراء أن الأطراف القائدة له كانت من أهداف الثورة. وهذه الأطراف لم تنقلب على نفسها؛ لم تخرج من جيوبها أو طوائفها، لم تنسحب من "الدولة العميقة". كلامها لا يختلف عن كلام خصومها، إلا بمشفّرات قليلةٍ تتكهن منها بالمسافة التي تفصلنا عن التسوية القادمة معهم، تحت جناح حزب الله، المتحكِّم بالاثنين. ونحن، الشعب اللبناني، سنكون خارج هذه التسوية. خارج حساباتها، إلا بما تيسّر من فتات، من ملاليم، نظراً إلى الانهيار المالي.
أجمل ما حصل في لبنان خلال العقود الأخيرة هو تلك الثورة الزاهية. أحيت الأمل والحب والفرح. قد تجد في صفوفها، كما في كل الصفوف البشرية، أناساً يطمحون باسمها إلى الاعتلاء إلى فوق. أو أناساً زرعتهم السلطة المبغوضة، وقالت إنهم أتوا من أجلها.. والمهرجون كُثر، بذريعتها. ولكن هي، عليها أن تكون في كامل جهوزيتها، رؤية وتنظيماً، عندما تحين ساعات الخروج إلى الشارع، والغناء مجدّداً "هيلا هو...".
في هذه الأثناء، المصارف تسرقنا وتذلّنا، والغلاء يكوينا، وارتفاع سعر الدولار يحيل عملتنا
بلى، بلى: "مبادرات" غير حكومية، تعطي إنذاراً، أو تفهمنا شيئاً مما يحدث خلف كواليس الرسميات. الأولى إشارة المدير الإقليمي للبنك الدولي، ساروج كومار؛ وقد أصدر بياناً حول مشروع سدّ بسري، المعروف عنه أنه مجْدول بالفساد، والذي يريد صاحب العهد أن يحييه من جديد بعدما عارضته الثورة بفاعلية ونشاط. مما قاله المدير: استعداد البنك الدولي لتحويل أموال القروض المخصصة للسدّ نحو احتياجات السكان؛ وبرّر التحويل بـ"المعارضة التي شهدها المشروع". ما دفع به إلى الطلب من الحكومة "إطلاق حوار عام وشفّاف لمعالجة الاعتراضات التي أثارها حوله المواطنون ومؤسسات من المجتمع المدني".
السفيرة الأميركية، دوروثي شيا، دعت الحكومة اللبنانية إلى صياغة "برنامج للإصلاح الاقتصادي ومكافحة الفساد ووضع السياسات الفعالة لإخراج لبنان من هذه الأزمة". أما جمعية المصارف، إحدى شريكات السلطة في النهب، فقد ذهبت بعيداً في استنجادها باللبنانيين ضد خصومها في العهد: أصدرت بياناً مطولاً، يحمّل "الدولة" مسؤولية الفشل الحاصل، واستغاثت مرّتين بـ"المجتمع المدني". مرّة "لمواجهة مشروع تغيير هوية الاقتصاد اللبناني، وتحويله من اقتصاد حرّ إلى اقتصاد موجّه ينطوي على تأميم مقنّع". ومرة أخرى، لتضافر جهود "المودعين والمجتمع المدني لمنع هذا المشروع من التحقيق".
القارئ النبيه لكل هذه الأسهم، وليد جنبلاط، تيقّن من "طبيعة اللحظة"، فأعلن النفير، وأصدر موقفاً لاذعاً يصف سلوكيات الحكومة وأطرافها الخلفيين بـ"البعثية". وبدا، لحظة وجيزة، وكأنه والده الراحل كمال جنبلاط، عندما خرج عن السلطة التي كان واحداً من أركانها، عشية الحرب الأهلية، وشرع يقود الحركة الوطنية اللبنانية في مشروعها التغييري المفصّل. "لحظة وجيزة"، دام هذا الانطباع، شحذا ربما لقليل من الأمل، زال سريعاً.
المهم أنه، بعد أيام، ومحادثات نخمّنها، من دون أن نؤكدها، وإرسال مبعوثين من جنبلاط إلى أحد أطراف الحلف المطلوب، أي سمير جعجع .. حطّت في مطار بيروت طائرة خاصة، تقلّ سعد
الإغراء الكبير هو أن تنضوي المجموعات الثورية تحت راية هذه "المعارضة". وأساس الإغراء هو المجال: فالمجال صعب الآن، والخروج، أي التظاهر، أي التعبير الثوري الأبقى، لن يحصل إلا كما حصل في طرابلس أخيرا: من دون تنظيم، وبعفوية، بتجاهلٍ للوباء، بما يضيف إلى الفوضى القديمة هرْجاً ومرْجاً جديدَين.. وإلى ما هنالك من حجج التقرّب الممكن مع هذه "المعارضة". ولكن ما يبدّد هذا الإغراء أن الأطراف القائدة له كانت من أهداف الثورة. وهذه الأطراف لم تنقلب على نفسها؛ لم تخرج من جيوبها أو طوائفها، لم تنسحب من "الدولة العميقة". كلامها لا يختلف عن كلام خصومها، إلا بمشفّرات قليلةٍ تتكهن منها بالمسافة التي تفصلنا عن التسوية القادمة معهم، تحت جناح حزب الله، المتحكِّم بالاثنين. ونحن، الشعب اللبناني، سنكون خارج هذه التسوية. خارج حساباتها، إلا بما تيسّر من فتات، من ملاليم، نظراً إلى الانهيار المالي.
أجمل ما حصل في لبنان خلال العقود الأخيرة هو تلك الثورة الزاهية. أحيت الأمل والحب والفرح. قد تجد في صفوفها، كما في كل الصفوف البشرية، أناساً يطمحون باسمها إلى الاعتلاء إلى فوق. أو أناساً زرعتهم السلطة المبغوضة، وقالت إنهم أتوا من أجلها.. والمهرجون كُثر، بذريعتها. ولكن هي، عليها أن تكون في كامل جهوزيتها، رؤية وتنظيماً، عندما تحين ساعات الخروج إلى الشارع، والغناء مجدّداً "هيلا هو...".