كلّ شيءٍ يبدأ من اللغة، فحين يهبّ مئات الآلاف في وجه استبداد طويل، فلا بدّ أن يحاول هذا الحدث أن يتخذ مكانه في تصوّرنا. وأذهانُنا التي باغتَها الحدث لا بدّ أن تحاولَ صوغه بمجرّد توالي صوره المتلاحقة من ميدان مصريّ ملتهب، أو من حارة درعاوية عتيقة.. سنبدأ في رسم تصوّر بالكلمات –حتى قبل أن نتكلم- لما نراه يباغتُنا، وبمجرّد أن يبدأ الحدث في ترجمة نفسه إلى كلمات، تكون الثورة إما بدأت في مسار صعودها وانبلاجها، أو تكون بدأت تعاني الخنق والإزهاق.
كيف؟
هل هؤلاء "ثوّار" أم "نشطاء" أم "غاضبون" أم "خارجون على الحاكم؟" هل هؤلاء "ناس" أم "أمّة" أم "شعب" أم "طبقة"؟ هل هذه "ثورة" أم "غضبة" أم "هبّة" أم "فتنة" أم "مؤامرة"؟
من اللغة يبدأ التحيّز، واعيا كان أم غيرَ واعٍ، ومنها تبدأ إمكانات الفعل الثوريّ.. لا نتحدّث هنا عن خداع للذات أو استخدام قصديّ متفائل للغة، بل نقصد التنبّه المسبَق والضروريّ إلى أن اللغة لا تقول الحقيقة دائما، وأنّ الاستخدام القصديّ المتفائل لها، وإن كان فضيلة بالفعل، إلا أنه يجب أن يسبقَه تأكدٌ ضروريّ من أن اللغة ليست منحازة ضدّ الثورة، نحن لا نتحدّث هنا عن موقف معادٍ للثورة بوعي، فأعداء الثورة الذين يرون فيها تهديدا واضحا لمصالحهم هم بطبعهم اوضح من أن يَخفَوا، بل نحن هنا بصدد الحديث عن تحيّز لاواعٍ ضدّها يمكن أن يُحبطَ إمكاناتها على الأقلّ، أو يتحوّل إلى موقفٍ لاحقٍ معادٍ لها عن وعيٍ وقصد، لأنها لم تستطع أن تكتسبَ لنفسها مشروعية في اللغة، أي في التصوّر، أي في وعي الإنسان الحيّ بنفسه واقعه وسائر ما يجري حوله.
يمكننا أن نتبيّن على الأقلّ أربع حالات من هذا التواطؤ اللغوي ضدّ الثورة:
الأول: يقع فيه الإنسان العاديّ، أو "المواطن" بلغة الدولة الحديثة، بسبب خمول فردي وجمعيّ طويل، ومفردات تمّ تدريبُه عليها بتضافر الإعلام والتعليم وزواج السلطة والمال والدين الرسميّ، تدور حول "الاستقرار" و"الأمن" و"الستر" و"نبذ الفرقة" و"درء المفسدة" و"وأد الفتنة". فإذا كانت الطبقات المهيمنة في الغرب قد نجحت في الهيمنة على الطبقات المستضعفة من خلال بيعها وهما مفاده أن فرص التطوّر والتحسين والتقدم مفتوحة بدليل لاعبي الكرة وعارضات الأزياء والمغنّين الذين ينتقلون من الأحياء المهمّشة وأنفاق المترو بطرفة عين إلى الشاشات والأضواء والملايين، فإن النخب المهيمنة في بلادنا لا تحتاج حتى إلى بذل ذلك الجهد، ويكفيها أن تبيع المستضعفين وهما بالاستقرار والأمن لتأمن جانب كثير منهم، دون حاجة لوعده بالتطوير والتحسين والتنمية.
الثاني: هو "الباحث" أو "المثقف" الملتزم بمنهجية بحثية سكونيّة، غربيّة غالبا ولم تُفحَص كفاءتُها في سياقنا بشكلٍ كافٍ، يهمّها استيعاب الحدث ضمن رؤيتها التحليلية أكثر مما يهمّها الحدث نفسه. وهنا نجد أنفسَنا أمام مفارقة من أغرب ما يمكن، فالثورة لا تعود ميدانا للفعل بقدر ما هي ميدان لمراقبة سلامة النظريّة وكفاءتِها، وليس خفيّا أن الاتجاهات اليسارية مقصودة أكثر من غيرها بهذا النقد، وكأنّ التنظير للثورة يعطي الحقّ في تحديد ما يجب أن تكون عليه الثورة. ويحقّ لنا هنا أن نتساءل عمّا يجعل الثورة ثورة إذا سارت وفق نظرية معدَّة سلفا!
الثالث: هو الناشط المؤدلَج أو الحزبيّ الملتزم أيا كان التزامه، هذا الذي يقيس الثورة بمقدار ما تحقّق من رؤيتِه الخاصة للمجتمع المثالي الذي يحلم به، حتّى ولو كانت طريقتُه المعتمَدة للوصول إلى هذا المجتمع –للمفارقة- غير ثوريّة ولا تمتّ للثورة بصلة. بسبب هذه الطريقة التفكير، لا تعني الثورة الإسلاميّ إلا بقدر ما تحقّق التمكين والشريعة، ولا تعني الليبراليّ إلا بقدر ما تأتي به من انفتاح وتراخٍ لقبضة الدولة عن المجتمع حرياتٍ وسوقا، ولا تعني اليساريّ إلا بقدر ما تحقّقه من عدالة اجتماعية وتصدٍّ لقوى الاستعمار والإمبريالية. كلّ ما سبق أهدافٌ مشروعة بالتأكيد، ولكن لا معنى لها في سياقٍ ثوريّ إلا بقدر ما تكون وفية لقيم الثورة الكليّة، التي يقع على رأسها تحرير الإنسان وكسر الطغيان والاستبداد والاستكبار.
الرابع: هو التراثيّ، أو رجل الدين، أو صاحب المنهجية الشرعية، الذي يتحدّد تصوّره للعالم وتعاملُه معه وفق شبكة رمزية واسعة ومنضبطة من المصطلحات والأحكام والتفريعات والتقسيمات، لم تخضع لتدبّر كافٍ فيما يتعلّق بارتباطِها بقيمِها الكلّية من جهة، وبظروف نشأتها وتشكّلِها، ولا يتوانى عن إسقاط الأحكام بطريقة صوريّة سطحية دون مراعاة لاعتبار اختلاف اللغة والواقع، فلا "الدولة" هي "الدولة"، ولا "الحاكم" هو "الحاكم"، ولا "الجماعة" هي الجماعة"، فبأي منطِق يُنسى ذلك كلّه وتصبح "الثورة" مجرد "فتنة" في إسقاط بائس وغير أخلاقي، ويتجاهل أوّلية تجربة الإنسان ووعيه الأخلاقيّ الأصليّ وميله الفطريّ للتحرّر ورفض الظلم؟
من أجل ما سبق، نجد أنفسنا بحاجة لثورة حقيقيّة في اللغة. نحن في حاجة حقيقيّة إلى كثير من الكلام، سواء كان تحليلا سياسيّا للثورة أو تعليقا وصفيّا على أحداثِها أو محاولة جادّة لبلورة معجم خاصّ بها. ونحن في حاجة كذلك إلى لغة جديدة في التعبير الوجوديّ عنها وعن حجم تغلغلها فينا والتغيير الذي رسّخته في أحلامنا وآمالنا، ونحن في حاجة إلى مصطلح شرعيّ جديد يستوعب وعي إنسان اليوم بحرّيته واستخلافيّته وأهليّته الوجودية الأصليّة ليشكّل واقعه ويحكم نفسه.
نحن نعاني فقراً شديداً في الكلام، الكلام بأبسط معانيه وأكثرها مباشرة، وعلينا أن نوسّع ما استطعنا في اللغة، وأن نزاول الكلام الطبيعيّ واليوميّ، ولا نملّ من الحديث عن الثورة وشهدائها وأحداثها وعثراتها وإنجازاتها وإقدامنا الصوفيّ الدينيّ عليها ووعينا التامّ بأصالتِها الروحيّة ومشروعيّتِها الفطرية وعدالتها الأخلاقيّة. نحن في حاجة إلى طوفان من اللغة النبيلة، العاديّة والبحثية والحركيّة والدينية، تحاصر اللغة القديمة المعادية للثورة، وتحاصر سدنتَها وكهنتَها ومثقفيها وباحثيها.
* كاتب من فلسطين