لايزال مسلسل طباعة النقود في الجزائر متواصلا، بالرغم من التصريحات المتتالية لمسؤولين بالحكومة المؤقتة بالتأكيد على وقف اللجوء إلى هذه الوسيلة نهائيا، إذ تسمح مسودة الموازنة العامة الجديدة بتوجه الجهاز التنفيذي لطباعة كتلة نقدية جديدة لمواجهة العجز في الموازنة. وأعاد هذا التوجه، وفقا لمراقبين، التساؤلات حول مدى صدق نية الحكومة في وقف "إعصار الطباعة" الذي سمح بضخ ما يعادل 60 مليار دولار من العملة المحلية خلال سنة في شريان اقتصاد البلاد، حسب بيانات رسمية.
آخر فصول مسلسل تصريحات وقف طباعة النقود، كان بطله وزير الداخلية، صلاح الدين دحمون، الذي نقل نهاية الأسبوع الماضي، على لسان رئيس الوزراء، نور الدين بدوي، أن "الحكومة طوت ملف طباعة النقود، وهناك عزم على التخلي عن التمويل غير التقليدي نهائيا"، تصريحات لم تقنع كثيرا من المتتبعين للشأن الاقتصادي، كونها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة حسبهم، خاصة وأن الحكومة تناقض تصريحاتها بترك باب طباعة النقود مفتوحا في التشريعات القانونية.
وإلى ذلك، يؤكد عضو لجنة الشؤون المالية في البرلمان الجزائري يحيى بنين، أن "وقف طباعة النقود لا يكون بالكلام والتصريحات، بل بالأفعال، وذلك عبر حذف المادة التي أُدخلت على قانون القروض نهاية سنة 2018، التي سمحت للمركزي بإقراض الخزينة العمومية عبر التمويل غير التقليدي، وما دامت هذه المادة موجودة فطباعة النقود ستبقى خيارا مطروحا وقانونيا".
وأضاف البرلماني الجزائري لـ "العربي الجديد" أن "مسودة موازنة 2020 حملت اقتراحا يتيح للحكومة طباعة نقود حتى ما يعادل 10 مليارات دولار لتمويل المشاريع الكبرى في حال لم يكن هناك تمويل تقليدي عبر التمويل المباشر أو الاستدانة الخارجية، وبالتالي واقعيا طباعة النقود لا تزال مطروحة خاصة في ظل شح الموارد المالية وامتداد الأزمة السياسية."
وكانت الحكومة قد تبنت نهاية 2017، برئاسة أحمد أويحيى، المسجون في قضايا فساد، مجموعة من التدابير المتعلقة باللجوء إلى ما يعرف بالتمويلات غير التقليدية، لسد عجز الموازنة العامة وتحريك عجلة الاقتصاد، في ظل الصعوبات المالية التي تواجهها الدولة.
وحسب الخطة التي وضعتها الحكومة آنذاك وصادق عليها البرلمان، يقوم البنك المركزي بطباعة ما يعادل 11 مليار دولار سنويا من الدينار الجزائري، على مدار 5 سنوات، يقرضها البنك للخزينة العمومية، على أن تُسدد الديون مستقبلا، عند انتعاش أسعار النفط.
لكن ما حدث هو تجاوز هذه الأرقام في السنة الأولى لنحو 60 مليار دولار، حسب بيانات رسمية، أي إذا استمر هذا المعدل سترتفع الطباعة خلال 5 سنوات إلى 300 مليار دولار، مقارنة بمستهدف 55 مليار دولار فقط خلال هذه الفترة.
ولاقت خطوة طباعة النقود معارضة شديدة من أحزاب سياسية وخبراء اقتصاد تخوفوا من الآثار السلبية، أبرزها ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية.
ويرى الخبير الاقتصادي فرحات علي، أن "أخطر شيء في عملية طباعة النقود لتمويل الخزينة العمومية وفق النسخة الجزائرية، هو تحكّم المدين في الدائن، أي أن الحكومة تطلب من البنك المركزي أن يطبع حسب ما تريده هي وليس وفق ما يراه المركزي مناسبا لحماية الاقتصاد، أي أن الحكومة تقترض عبر ترتيبات وضعتها هي وحدها".
وتابع نفس المتحدث لـ"العربي الجديد" أن "الحكومة تريد حلولا مؤقتة وليست دائمة، وإلا تقيدت بالسقف الذي وضعته عند اعتماد آلية التمويل غير التقليدي وهو ما يعادل 11 مليار دولار لكل سنة، وبالتالي اللجوء مستقبلا لهذا الحل غير مستبعد في ظل شح الموارد المالية".
ومنذ بداية الحراك الشعبي نهاية فبراير/شباط الماضي، كثر الحديث عن مصير 60 مليار دولار التي طبعت من العملة المحلية، في ظل انفجار قضايا فساد تورط فيها وزراء دافعوا عن هذا النمط من التمويل المالي، ما دفع بحكومة بدوي لكسر صمتها وتوضيح أين انفقت تلك الأموال؟
وإلى ذلك، يتوقع الخبير المالي، سهيل مداح، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "تواجه الحكومة حقيقة صادمة، في ظل شح الموارد النفطية، وتراجع التحصيل الضريبي، وتبخر الاحتياطي من العملة الصعبة".
وتابع سهيل أن "التمويل غير التقليدي الهدف منه خلق ثروة من الأموال المطبوعة وليس إنفاقها، دون معرفة نتائجها على الاقتصاد، وأتوقع عدم قفل الحكومة باب الطباعة، وهو ما يترجمه الإبقاء على قانون القرض والنقد دون تعديل".
وكانت احتياطات الجزائر من العملة الصعبة قد هوت إلى 72.6 مليار دولار مع نهاية إبريل/نيسان 2019، مقابل 79.88 مليارات دولار في نهاية سنة 2018، أي بانخفاض قدره 7.28 مليارات دولار في أربعة أشهر فقط.
وتوقعت الحكومة في موازنة 2019، انخفاضا في احتياطات الصرف إلى 62 مليار دولار، ثم إلى 47.8 مليار دولار في 2020 ليتهاوى إلى 33.8 مليار دولار في 2021.