لا تتوقّف المواجهات، ذات الطابع العرقي والمذهبي، بين سكان أمازيغ يتبعون المذهب الإباضي، وآخرين عرب يتبعون المذهب المالكي، في ولاية غرداية، جنوب الجزائر، منذ عام 2008. تجدّدت المواجهات هذه المرّة بشكل عنيف في بلدة العطف، يوم الأحد الماضي، قبل أن تتوسّع سريعاً في اليوم الثاني إلى بلدة بريان وداخل أحياء مدينة غرداية، مركز المحافظة، مما أسفر عن مقتل شرطي خلال المواجهات وجرح ثلاثة آخرين، بموازاة نهب محال تجارية ومنازل وحرق بساتين نخيل، تملكها عائلات من الجانبين.
وشلّت الاشتباكات غرداية بشكل تام، إذ أغلقت بعض المدارس أبوابها، بعد امتناع عائلات عن إرسال أطفالها خوفاً من التطورات الأمنية، فيما أغلقت محال تجارية أبوابها، وتوقّفت حركة السير والنقل في أنحاء المدينة، التي غطاها الدخان نتيجة الحرائق والمواجهات.
وعلى الرغم من أنّه يقع على عاتق رجال الشرطة، حفظ الأمن واعادة الاستقرار إلى مركز الولاية وبلداتها، إلا أنّهم قرروا هذه المرّة التوقف عن العمل لساعات، منظمين مسيرة وسط غرداية، يوم الاثنين الماضي، قطعوا فيها الطريق العام احتجاجاً على مقتل أحد زملائهم وإصابة ثلاثة آخرين، خلال المواجهات العرقية في بلدتي العطف وبريان.
وفي موازاة توقف مسيرة الشرطة أمام مقر المحافظة، ثم أمام المديرية المحلية للأمن، لم يتردّد المشاركون فيها في ترديد هتافات تطالب بتوفير حماية قانونية تسمح لهم بأداء عملهم بالشكل المطلوب. ولم يحمل رجال الشرطة خلال المسيرة العصي أو الأسلحة، في مؤشّر على توقفهم عن العمل، مبدين غضبهم بشكل كبير تجاه قيادتهم العامة.
وتعد هذه الحادثة الأولى من نوعها في الجزائر، إذ لم يسبق لرجال الشرطة أن نظموا أي نشاط احتجاجي، خصوصاً أنّ القانون الجزائري يمنع رجال الشرطة والجيش وأفراد الهيئات النظامية من القيام بأي إضراب أو حركة احتجاجية. وقبل ستة أعوام، حاول ناشطون في جهاز الشرطة تأسيس نقابة مهنيّة، لكنّ الحكومة رفضت مطلبهم ومنعتهم من القيام بأي نشاط مطلبي ونقابي.
وفي خطوة لاحتواء غضب رجال الشرطة، سارع المدير العام للأمن الجزائري اللواء عبد الغني الهامل، إلى زيارة المدينة التي تبعد 800 كيلومتر، جنوب العاصمة الجزائرية، واستمع إلى مطالب أعوان الشرطة، وزار الجرحى منهم في المستشفى، منوّهاً بأنّ "الشرطي رجل تضحية، تواجهه أخطار خلال أداء مهامه النبيلة".
ويتواجد في المدينة تسعة آلاف رجل أمن، بشكل استثنائي، دفعت بهم السلطات منذ شهر ديسمبر/كانون الأول 2013، بهدف وقف المواجهات المذهبيّة والعرقيّة وإعادة الأمن إلى غرداية وبلداتها، لكنها فشلت في إحكام سيطرتها بما يحول دون تجدد المواجهات بشكل مستمر.
وتُعدّ المواجهات بين الأمازيغ والعرب من أكثر الأحداث عنفاً وخطراً في الجزائر منذ الاستقلال. وأسفرت الاشتباكات منذ شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن مقتل 12 شخصاً، اثنان منهم من رجال الشرطة، وإصابة أكثر من 500 شخص، إضافة إلى نزوح عشرات العائلات من منازلها، بعد تخريب العديد منها، إضافة إلى نهب عشرات المحال التجاريّة.
واللافت أن القتلى الـ12 هم جميعاً من السكان الأمازيغ، وهو ما دفع "الهيئة العرقية لأمازيغ غرداية" إلى توجيه رسالة الى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، اتهموا فيها صراحة أجهزة الأمن بالتواطؤ في الهجمات ضدّ أحياء الأمازيغ السكنية ومحالهم التجارية. وتتّهم الرسالة "مجموعات شبابية تحت حماية أطراف في مصالح الأمن الجزائرية، بالاعتداء على حرمة قبور الأمازيغ وهدم الآثار المصنّفة في التراث الإنساني"، ملمحة إلى تواطؤ "منتسبين إلى أجهزة الجمهورية الأمنية والإدارية" في هذه الاعتداءات. وحمّلت "السلطات العليا المسؤولية السياسية والقانونية حيال التجاوزات الخطيرة"، مطالبة "بتوقيف ونقل المسؤولين الأمنيين الفاشلين في أداء مهاهم، وسحب الأسلحة المتداولة في المدينة".
ويكرّر السكان الأمازيغ في غرداية، والذين يتميزون بلباسهم ومجالسهم العرفية ونمط حياتهم الاجتماعية، مطالبة السلطات بالتدخل لوقف هذه المواجهات، وتشكيل لجنة تحقيق محايدة تضمّ شخصيات وطنية مستقلة وتتكفل بتحديد المسؤولين عن هذه الأحداث، لإصدار التوصيات الضرورية لإعادة الأمن إلى المدينة، والإسراع في تعويض الضحايا، وإعادة العائلات النازحة إلى بيوتها وتعويضها.
وعلى الرغم من كلّ المخاطر المحدقة بمنطقة غرداية، ذات التباين الديمجرافي العرقي والمذهبي، وتحذيرات القوى السياسية، لكنّ الحكومة الجزائرية مازالت تستند إلى الحل الأمني، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار طبيعة النسيج الاجتماعي في المدينة وقوّة المؤسسات العرفيّة المؤثّرة بشكل كبير على السكان الأمازيغ. ويتخوّف متابعون من تطور الأحداث إلى فتنة، نظراً لأبعادها المذهبيّة والعرقيّة التي يسهل توظيفها سياسياً، داخلياً وخارجياً.
وكان الناشط الحقوقي كمال فخار الدين، قد وجّه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، اتّهم فيها السلطات الجزائرية بالانحياز إلى السكان العرب، والعمل على تدمير الموروث الثقافي للسكان الأمازيغ، مطالباً بحماية ما وصفه بـ"الأقليّة الإباضيّة" في غرداية. ولاقت الرسالة استغراب السكان، حتى الأمازيغ منهم، وشكّلت مصدر إزعاج للنسيج السياسي والمدني في الجزائر، في ظلّ مناخ دولي باتت فيه حجة "حماية الأقليات" عنواناً للتدخّل الأجنبي.