لا يخفى على المهتمّين بالعلاقات بين إيطاليا والعالم العربي أنها كثيرة ومختلفة ولم تنقطع منذ قديم الزمان، ويمكن أن نجدها موثّقة في كثير من المصادر. وخاصة مع البلدان العربية المطلّة على البحر المتوسّط. ولكن الأمر يختلف بالنسبة لعلاقات إيطاليا بالجزائر، فرغم أن الأخيرة تُطلّ على المتوسّط وقريبة من إيطاليا، ومع أنه ثبت وجود إيطاليّين في الجزائر على مرّ العصور، فإن المصادر التي تتحدّث عن هذه العلاقات قليلة.
والمؤكّد في التقاليد الثقافية المحلّية أن هناك نساء إيطاليات هربن من بلدهن إلى الضفة الأخرى للمتوسّط في الفترة التي انتشر فيها اضطهاد محاكم التفتيش ضد كلّ من كانوا يخالفون رأي الكنيسة آنذاك. وبالطبع، استطاعت بعض الإيطاليات، اللواتي كانت الكنيسة تعتبرهن "ساحرات"، من اللجوء إلى مدينة الجزائر، وهناك اعتنقن الإسلام. وكانت الكنيسة تطلق اسم "ريلابسي" (relapsi) على المسيحيين الذين يدخلون الإسلام آنذاك، وتعني العبارة الأشخاص الذين وقعوا في الخطأ.
وعلى كل حال، فسحر الضفة الأخرى عموماً، والجزائر خصوصاً، لم يقتصر على تلك الحكايات الخاصة بالنساء اللواتي هربن إلى مدينة الجزائر، بل أثّر أيضاً على بعض الفنّانين الإيطاليّين؛ من بينهم على سبيل المثال جواكينو روسيني (1792 - 1868) الذي ألّف سنة 1813 أوبرا شهيرة أطلق عليها عنوان "الإيطالية في الجزائر". ويمكننا القول إن في هذا العمل تشابها كبيرا مع حياة إيزابيلا فرابوللي (Isabella Frapolli) التي كانت تسكن في ميلانو وعُرفت بجمالها الجذّاب، وكانت قد سافرت سنة 1805 مع صديقة لها إلى صقلية، من دون أن يعرف أحدهم هدف سفرهما. وأثناء ذلك، وقعت بين أيادي قراصنة من الجزائر.
وحين وصلت إلى "المدينة المحروسة"، أصبحت المرأة المفضّلة لداي الجزائر آنذاك مصطفى بن ابراهيم. ويبدو أنه بعد فترة قليلة استطاعت السيّدة الإيطالية أن تهرب ومعها كلّ المجوهرات التي أهداها لها الداي وتعود إلى مدينتها ميلانو، وتتحدّث عن تجربتها العجيبة إلى صديقاتها وأصدقائها في صالونات المدينة الأدبية.
ولكي نجد إشارات أخرى عن الجزائر، يجب أن ننتظر حتى سنة 1947، حين صدرت مجموعة شعرية بعنوان "يوميات الجزائر" للشاعر فيتوريو سيريني (1913 - 1983). والمؤكّد أن سيريني كان مسجوناً في الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية. وهناك، كتب بعض أبياته التي تُعتَبر من أجمل ما كُتب في الشعر الإيطالي المعاصر. ومع أنه يعبّر فيها عن الغربة وشوقه إلى وطنه، فهو يعبّر أيضاً عن حبّه للجزائر وألوانها وروائحها وأصواتها. ورغم أن هذا البلد موقع سجنه، فهو أيضاً مكان إلهام شعري بالنسبة إليه.
وليست مجرّد صدفة أن سيريني اختار الجزائر لمجموعته الشعرية، وهو الشاعر الذي أعطى روحاً جديدة للشعر الإيطالي، تماماً كما فعل الملحّن لويجي نونو (1924 - 1990) الذي قام بتجديد الموسيقى الكلاسيكية العالمية حين أسّس ما يُسمى بـ"الموسيقى الدوديكافونية"، وهو نوع موسيقى ظهر في القرن العشرين. وقد كان لويجي نونو موسيقاراً ملتزماً، وجدير بالذكر هنا أنه أهدى جزءاً من عمله الموسيقى "غناء الحياة والحب" سنة 1962 لجميلة بوباشا، المجاهدة الجزائرية التي عانت كثيراً من التعذيب في سجون الاستعمار الفرنسي، فجعل منها رمزاً لمناهضة الظلم السياسي.
بعد أعمال هؤلاء المؤلّفين، بقيت الثقافة الإيطالية صامتةً ولم تأت بكثيرٍ عن الجزائر التي يكاد صوتها في إيطاليا يقتصر على ما يُقدّمه المثقّفون والكتّاب الجزائريّون المقيمون في إيطاليا ويكتبون باللغة الإيطالية، وهذا موضوع آخر يمكن الحديث عنه في مقام آخر.
* ناقدة ومترجمة إيطالية