الجزائر وامتحان الأزمة الليبية
بنت الجزائر، منذ البداية، موقفها من الأزمة الليبية على مبدأ أساسي، تقوم عليه عقيدتها الدبلوماسية والعسكرية، والمتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فلم تساند لا الثوار ولا نظام معمر القذافي، مطالبة بحل سلمي ومحذرة من الانعكاسات الأمنية للأزمة. أثبتت تطورات الأحداث صواب رؤيتها، ومصداقية مخاوفها التي أصبحت حقيقة: تهريب الأسلحة من وإلى ليبيا، وانتقالها إلى الساحل، وإلى تنظيم القاعدة بمختلف فروعه، توسع رقعة الإرهاب في المنطقة، تخبط ليبيا في حرب أهلية طويلة الأمد، جحافل من اللاجئين الليبيين والأفارقة (المقيمين في ليبيا)، التعاون بين الإرهاب المحلي والإرهاب (العابر للأوطان)، المستورد كما تدل على ذلك العملية الإرهابية ضد المركب الغازي في تيغنتورين في أقصى الجنوب الشرقي على الحدود مع ليبيا في يناير/كانون ثاني 2013.
ليس للجزائر مسؤولية في حالة الاحتراب العامة في ليبيا واستمرار الحرب الأهلية. لكن، بحكم الجوار المباشر، هي معنية بالأساس بهذه الأزمة، ولها مسؤولية إقليمية في إيجاد تسوية سلمية لها. وقد اتضح باكراً، بعد نهاية التدخل الدولي، في إطار تطبيع جزائري - ليبي، أن استقرار ليبيا أولوية جزائرية، فأمن ليبيا من أمنها، لاستحالة فك الترابط بين الأمن القومي لدول الإقليم نفسه. ويذكرنا المشهد الليبي بالمشهد العراقي، فالدول العربية التي عارضت الغزو الأميركي للعراق اعترفت بحكومته الانتقالية، وساعدتها سياسياً ومالياً، ولازالت تفعل. كما أن القوى الغربية المتدخلة سعت، هي الأخرى، لرأب الصدع بين العراق والدول التي عارضت الغزو، كما فعلت تلك التي تدخلت في ليبيا.
وتدرك هذه القوى دور دول الجوار، لذا، سعت إلى إشراك الجزائر في مرحلة ما بعد التدخل، لتأمين حدود ليبيا، والمساعدة في إحلال الاستقرار فيها. وتأكد هذا مجدداً مع التحركات الدولية باتجاهها، للاعتماد عليها في تسوية الأزمة الليبية، لكن تلويح بعضها بالتدخل العسكري جعل الجزائر تشدد مجدداً على رفضها له، وعلى ضرورة إيجاد تسوية سلميةٍ، تضع حداً نهائياً للصراع.
يبدو أن الجزائر أكثر تحركاً الآن، منتهجة حياداً إيجابياً، أي دعوة الفصائل الليبية إلى التفاوض دون أن تمالئ هذا أو ذاك. فرص نجاح جهودها أكثر مما كانت عليه في السابق، لأن هناك أرضية مشتركة بينها وبين ليبيا، والمتمثلة في التسوية السلبية ورفض التدخل الأجنبي، وتقدير ليبيا موقفها المتوازن، لأنها حافظت على اتصالات مع مختلف الفرقاء ووجود استعداد ليبي لوساطة جزائرية، فضلاً عن أن معظم القوى الدولية تعارض التدخل. لكن، من الصعب أن تكلل مساعيها لجمع الأطراف المتنازعة لحل الأزمة سلمياً بالنجاح، لأربعة أسباب على الأقل.
أولاً، غموض في السلوك الجزائري حيال مصر. فالجزائر تنسق معها، بخصوص الأزمة الليبية في إطار ثنائي، وعلى مستوى مؤتمرات دول الجوار، لكن مصر تتدخل عسكرياً في ليبيا بدعم خليجي لمساندة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ضد قوات "فجر ليبيا" المحسوبة على الإسلاميين، كما أبرمت اتفاقاً سرياً، نشر في "العربي الجديد"، مع الحكومة الموالية له. وعليه، فمصر تجهض الجهود الجزائرية في الخفاء، وتساندها في العلن. ولم يتضح موقف الجزائر رسمياً من هذه الازدواجية المصرية، خصوصاً أن نجاح أي مسعى دبلوماسي مرهون بالإبقاء على المسافة نفسها من مختلف أطراف الصراع الليبي. لكن، هناك رسائل جزائرية مضمرة موجه لمصر ولغيرها، كما يتضح ذلك من تصريح وزير الخارجية الجزائري، رمضان لعمامرة، منتصف سبتمبر/أيلول الجاري: "على الدول المجاورة لليبيا التعامل مع هذه الأزمة، على نحو يجعلها طرفاً فاعلاً، وأن تلتزم بعدم التدخل في شؤونها، وأن تمتنع عن صب الزيت على النار، وأن يحتكم الجميع إلى الشرعية الدولية".
ثانياً، خوض قوى عربية حرباً ضد الإسلاميين في ليبيا امتداداً لصراعها مع إسلامييها في الداخل، وإسلاميي غيرها في الخارج. إذ يبدو أن الصراع الليبي يسير على نمط المشهد اللبناني، حين تحولت الحرب الأهلية اللبنانية إلى حروب الآخرين، وكان لبنان مسرحاً لها. والأخطر في هذا التداخل الإقليمي والحروب بالنيابة أنها تطيل أمد الأزمة بإيجاد بيئة مواتية لتجدد الصراع.
ثالثاً، سعي دول عربية إلى إعطاء طابع إقليمي لصراعها مع الإسلاميين بشرعنة التدخل من جديد في ليبيا، لدعم حلفائها هناك، وهنا مكمن الخطر. فبالنظر إلى التجارب السابقة (غزو العراق في 2003، التدخل في ليبيا في 2011...)، فإن العامل الإقليمي حاسم في قرار التدخل الأجنبي، لأنه من دون غطاء ودعمه وشرعنته إقليمياً، لن يتسنى التدخل في ليبيا مجدداً.
رابعاً، سعي قوى غربية، وبالتحديد فرنسا، إلى التدخل عسكرياً في ليبيا. ويبدو أن فرنسا تعمل على إقناع الجزائر، هذه المرة، بضرورة التدخل العسكري، بينما تسعى الجزائر إلى إقناعها، وغيرها، بالعدول عنه، وبتفضيل التسوية السلمية للصراع، لأن التدخل لن يحسم الأمر.
المشكلة مع التدخل الذي تروج له بعض القوى أنه صُمم لتصحيح تداعيات تدخل سابق، ما يعني أن الأمر قد يقتضي تدخلاً ثالثاً، لتصحيح تبعات الثاني، وهكذا دواليك، فضلاً عن أن التدخل ليس بالضرورة حباً في ليبيا، وإنما كرهاً في الإسلاميين، كما يتبين ذلك من التدخل المصري والإماراتي.
وعليه، فإن الجزائر أمام امتحان سياسي لإقامة الحوار بين الفرقاء وإنجاحه لإخراج ليبيا من أتون الحرب الأهلية، وتجنيبها تدخلاً عسكرياً سيزيد الوضع تعقيداً محلياً وإقليمياً. فعليها إقناع الأطراف المتنازعة بالتفاوض السلمي، والعدول عن خيار الحسم العسكري (الصعب المنال) من جهة، وإقناع الأطراف الإقليمية والدولية بتفضيل الحل السلمي. وإن فشلت في مسعاها المزدوج، فإن الأمن الإقليمي برمته سيكون على المحك (إيجاد أو تضخيم بؤرة توتر قد تجذب دواعش فرعية عابرة للأوطان، فضلاً عن انهيار الدولة الليبية تماماً). فلمن ستكون الغلبة: لحجة القوة (التدخل العسكري) أم لقوة الحجة (الحل السلمي)؟