09 نوفمبر 2024
الجزائر ومفاتيح دور استراتيجي في ليبيا والإقليم
تتطوّر الأمور، يوما بعد يوم، في ليبيا ولم تصل، بعد، إلى الحسم، مع توفّر كل أسباب احتمال توالي (وتوسّع) فضاء الفوضى العارمة، والتي يمكن أن تمتدّ تداعياتها إلى المنطقة برمّتها. إلى أيّ مدى يمكن للجزائر أن تتأثر بهذا الوضع المتردّي، من ناحية، وبأي أدواتٍ يمكنها أن تؤثر، من ناحية أخرى، على المعضلة، لتخرج المنطقة بأقل الأضرار من انسدادٍ يمتد في الزمن، ليشكل صداعا لكل الأنظمة في الجوار وفي الإقليم؟ يطرح فاعلون كثيرون في المنطقة السّؤالين لأهمية الدور الجزائري، ولعلّهم يدركون أنّ الفعل الجواري الجزائري خفُت بسبب الحراك والانسداد السياسي الذي تعيشه منذ حوالي نصف السنة.
من الأهمّية الإشارة، هنا، إلى أن ثمّة فاعلين، من خارج المنطقة، يرغبون في التأثير على الوضع، وإبعاد دولتي المنطقة الكبرى (الجزائر والمغرب)، وهي فواعل صغرى وأخرى إقليمية أو كبرى، وجميع تلك الفواعل تريد أن يبقى الوضع على ما هو عليه. ويريد بعضهم استفحال الوضع، بل وتمدّده إلى دول المنطقة، بالنّظر إلى تردّدهم في التّعامل مع الرّبيع العربي في نسختيه الأولى والثّانية، إضافة إلى استثمار بعض منهم (قوى إقليمية وأخرى كبرى لها مكانة في سوق السلاح الدولي)، في الوضع، لتحسين مكانتهم في تجارة الأسلحة (وطبعا تجربتها ولو بارتكاب جرائم ضد الإنسانية)، وكلّها سلوكات/ مصالح استراتيجية تستوجب استراتيجيات/ مشاريع من الدّول المغاربية لتغيير هذا الفعل، ليصبح فاعلا لا تفاعلا، وتأثيرا لا تأثّرا.
وقد جاء ذكر تلك الفواعل لأن أيّ فعل استراتيجي لا يمكن أن يكون ستاتيكيا جامدا، بل
متفاعلا باستمرار، ولا يعترف الفعل نفسه بمن يرفض التحدّيات، ولا يعرف الرهانات، بل ولا يمتلك مشروعا للتحوّل من الانفعال إلى الفعل، ولعلّ هذا ما أصاب الجزائر، في السنوات الأخيرة، وبخاصّة على خلفية تراجع الدور الدبلوماسي والتأثير السياسي بسبب الانكفاء على الذات، وهو الأمر الذي دام طوال العشرية السوداء، في تسعينيات القرن الماضي، ثم عشريتي الرئيس المستقيل، بوتفليقة، وخصوصا في عهدتيه الثالثة والرابعة، بسبب المرض.
على الرّغم من ذلك كلّه، بدت بوادر الرّجوع إلى الفعل الاستراتيجي مع عملية تيقنتورين (المجمّع الغازي الذي هاجمه الإرهابيون في 2013 في الجنوب الجزائري)، وهي العملية المفصلية التي أبرزت، إلى السطح، مجمل ما تملكه البلاد من مقدّرات، حقيقية ومحتملة، للحفاظ على أمنها وردّ الهجمات التي بدأت في الاستفحال، في تلك الفترة، على خلفية سقوط نظام القذافي، وتدهور الوضع في شمال مالي، البلد المحاذي للجنوب الجزائري الكبير.
ولكن كانت لهذا الفعل حدود، إذ تمّت معالجة بعض المعضلات في المنطقة (ليبيا ومالي) من دون الاكتراث بالموقف الجزائري (التدخل الفرنسي في مالي، وتوقيع اتفاقية الصخيرات لإنهاء المعضلة الليبية)، وهو ما استدعى الاستراتيجية الساعية إلى الاحترافية، ثم مناورات عديدة أجراها الجيش الجزائري، وعينُه على تلك المعضلات، ورسائل يبعث بها إلى القوى الإقليمية والفواعل المتدخّلة في شؤون الإقليم بأن ثمّة جيشا قويا، وله من رصيد محاربة الإرهاب والمقدّرات ما يكفل له أداء أدوار في الإقليم، وإنْ بخلفية الكابح الدستوري المانع من انتشار قوّات الجيش الجزائري خارج الحدود الجزائرية.
يأتي ذكر تلك المحدودية في المقدّرات الأمنية/ العسكرية الجزائرية مع محاولة بعض الفواعل تحيّن الانسداد الحالي في الجزائر، للانطلاق في مشروع مهاجمة طرابلس، العاصمة الليبية، بقصد فرض حل للمعضلة الليبية على غير ما يخدم المصالح الجزائرية، سواء من حيث الفاعل الذي تريد تلك الفواعل فرضه حاكما لليبيا، أو من حيث تطويق الجزائر بقصد توجيه التغيير السياسي المراد في البلاد، حتى لا يكون مغايرا لما أرادت تلك الفواعل وتريد فرضه في محاولات عربية عديدة للتحول السياسي.
وعلى ذكر ذلك التطويق الأطلسي، الفرنسي والإقليمي للجزائر، يمكن الإشارة، هنا، إلى التعاون الوثيق بين تونس والحلف الأطلسي في مجال محاربة الإرهاب على الحدود الشرقية للجزائر، كما يمكن الحديث عن الأسلحة التي ما فتئت تتدفق على الفاعل الذي تريد دولٌ فرضه في ليبيا بما لا يخدم مصالح الجزائر، وهي أمور حيوية، استدعت برمجة مناورات بحرية في المتوسط، في الأيام المقبلة، إلى جانب مناورات أُجريت، في الأشهر الماضية وبصفة مكثفة، لإبراز جاهزية الجيش الجزائري لأيّة تطوّرات على حدودها مع ليبيا، أو في أقصى الجنوب، مع مالي والنيجر (التي تستقبل قاعدة أميركية لطائرات بدون طيار كانت الجزائر رفضت استقبالها في تامنراست، المدينة الجنوبية في الجزائر).
من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال الدور الاستخباراتي الذي تقوم به الجزائر في الصحراء
الكبرى، وهو الدور الذي تسعى القوى الإقليمية الأخرى إلى تحييده، أو الاستفادة منه، بالنظر إلى شبكة المعلومات والمعارف التي تحوزها الاستعلامات الجزائرية على المنطقة برمتها، وهي المعلومات التي تكفل لها خط السبق في شؤون الإقليم، وخصوصا في ما هو أهم القضايا، في زمننا هذا، وهو الإرهاب والجماعات الإرهابية التي يقودها، بالنسبة لبعض منها، أفراد من الجزائر إضافة إلى معرفة الجزائر الواسعة بالشبكات المتخصصة في تهريب البشر والأسلحة، وخصوصا منها التي تدفقت من مخازن القذافي من دون نسيان تتبع خط سير (طرق أنفاق) الأموال الناتجة من دفع الفدى لتحرير الرهائن الأوروبيين من أيدي شبكات الإرهاب، والتي تستخدم، أساسا، في التجنيد والتسلّح (بلغت، وفق مصادر فرنسية، قرابة مائتي مليون يورو).
قد يكون من الأهمية بمكان، في الختام، التركيز على تعدّد المبادرات الأوروبية والأميركية للإبقاء على التّأثير والإدراك الأمنيين/ العسكريين للمنطقة، والتي، للتذكير، لا تحوز، في كثير منها، على موافقة الجزائر أو، على أقل تقدير، تتحفظ على نقاط منها، وخصوصا التأطير الأمني/ العسكري للمنطقة، من دون الأخذ بالاعتبار اهتمامات دول المنطقة الاستراتيجية وإدراكاتها، وخصوصا الجزائر.
ولكن، وهنا أهمّية الفعل الاستراتيجي، ما كان لتلك المبادرات أن تبقى مؤثرة، لو أنّ الفعل الاستراتيجي جاء في إطار مشروع للانبعاث المغاربي، للإبقاء والحفاظ على حصرية الشأن الإقليمي (غرب المتوسط والمنطقة الساحلية - الصحراوية) للمغاربيين دون غيرهم، وهو الأمر الذي كان في وسعه تغيير الإدراك الغربي (الأميركي - الأوروبي، إضافة إلى الاهتمامات الصينية والروسية)، من جهة، والفعل التّدميري لبعض الفواعل الأخرى، من جهة أخرى، أو ردعه عن القيام بأي نشاط أو التقدّم بأية مبادرة خارج الإدراك والفعل الاستراتيجيين للدول المغاربية، بصفة حصرية.
تلك، بالنتيجة، الأدوات (المناورات، شبكة المعلومات، المشاركة في المبادرات، السعي إلى
تغيير الإدراكات عن المنطقة وشؤونها الأمنية/ العسكرية) والمقاربات (جيش احترافي وعين على شؤون المنطقة) التي تستخدمها الجزائر لإبعاد التأثير الذي يمكن للوضع المتردّي في ليبيا أن يتمدّد إليها، ولإظهار الفعل الاستراتيجي الجديد. ولعل ذلك يغيّر من إدراك الفواعل المذكورة للإقليم وللدور الجزائري، خصوصا، لتعمل على تغيير استراتيجياتها لحل المعضلة الليبية التي لا يمكن أن تتحقق إلا وفق ما تريده دول المنطقة، وفي مقدمتها الجزائر.
لا يمكن أن يتأتى الدور الاستراتيجي المقبل إلا في ظل ذلك الإدراك بوجوب بعث المؤسسة المغاربية، الاتحاد المغاربي، للعمل بصفة تعاضدية، إضافة إلى إدراك أهمية دور القاطرة الذي يمكن للجزائر أن تشغله، وتعمل على إقناع الفواعل المهتمة والمعنية بالإقليم والمنطقة بأن شأن الأمن حيوي وحصري لدول المنطقة، وأن أية حلول للمعضلة الليبية أو نشر أية أسلحة، وبعث أية مبادرة أو إنشاء أية قاعدة، يجب أن يمرّ من خلال التّوافق مع دول المنطقة. ومن دون ذلك، أي غياب التعاضد والعلم المشترك للحفاظ على أمن المنطقة، قد يمدّد تردّي المعضلة الليبية ليشكل خطرا داهما، يمكّنه من تحريك أوتار الأزمات والانسدادات، ويحولها إلى صراعات وتوترات كبرى.
وقد جاء ذكر تلك الفواعل لأن أيّ فعل استراتيجي لا يمكن أن يكون ستاتيكيا جامدا، بل
على الرّغم من ذلك كلّه، بدت بوادر الرّجوع إلى الفعل الاستراتيجي مع عملية تيقنتورين (المجمّع الغازي الذي هاجمه الإرهابيون في 2013 في الجنوب الجزائري)، وهي العملية المفصلية التي أبرزت، إلى السطح، مجمل ما تملكه البلاد من مقدّرات، حقيقية ومحتملة، للحفاظ على أمنها وردّ الهجمات التي بدأت في الاستفحال، في تلك الفترة، على خلفية سقوط نظام القذافي، وتدهور الوضع في شمال مالي، البلد المحاذي للجنوب الجزائري الكبير.
ولكن كانت لهذا الفعل حدود، إذ تمّت معالجة بعض المعضلات في المنطقة (ليبيا ومالي) من دون الاكتراث بالموقف الجزائري (التدخل الفرنسي في مالي، وتوقيع اتفاقية الصخيرات لإنهاء المعضلة الليبية)، وهو ما استدعى الاستراتيجية الساعية إلى الاحترافية، ثم مناورات عديدة أجراها الجيش الجزائري، وعينُه على تلك المعضلات، ورسائل يبعث بها إلى القوى الإقليمية والفواعل المتدخّلة في شؤون الإقليم بأن ثمّة جيشا قويا، وله من رصيد محاربة الإرهاب والمقدّرات ما يكفل له أداء أدوار في الإقليم، وإنْ بخلفية الكابح الدستوري المانع من انتشار قوّات الجيش الجزائري خارج الحدود الجزائرية.
يأتي ذكر تلك المحدودية في المقدّرات الأمنية/ العسكرية الجزائرية مع محاولة بعض الفواعل تحيّن الانسداد الحالي في الجزائر، للانطلاق في مشروع مهاجمة طرابلس، العاصمة الليبية، بقصد فرض حل للمعضلة الليبية على غير ما يخدم المصالح الجزائرية، سواء من حيث الفاعل الذي تريد تلك الفواعل فرضه حاكما لليبيا، أو من حيث تطويق الجزائر بقصد توجيه التغيير السياسي المراد في البلاد، حتى لا يكون مغايرا لما أرادت تلك الفواعل وتريد فرضه في محاولات عربية عديدة للتحول السياسي.
وعلى ذكر ذلك التطويق الأطلسي، الفرنسي والإقليمي للجزائر، يمكن الإشارة، هنا، إلى التعاون الوثيق بين تونس والحلف الأطلسي في مجال محاربة الإرهاب على الحدود الشرقية للجزائر، كما يمكن الحديث عن الأسلحة التي ما فتئت تتدفق على الفاعل الذي تريد دولٌ فرضه في ليبيا بما لا يخدم مصالح الجزائر، وهي أمور حيوية، استدعت برمجة مناورات بحرية في المتوسط، في الأيام المقبلة، إلى جانب مناورات أُجريت، في الأشهر الماضية وبصفة مكثفة، لإبراز جاهزية الجيش الجزائري لأيّة تطوّرات على حدودها مع ليبيا، أو في أقصى الجنوب، مع مالي والنيجر (التي تستقبل قاعدة أميركية لطائرات بدون طيار كانت الجزائر رفضت استقبالها في تامنراست، المدينة الجنوبية في الجزائر).
من ناحية أخرى، لا يمكن إغفال الدور الاستخباراتي الذي تقوم به الجزائر في الصحراء
قد يكون من الأهمية بمكان، في الختام، التركيز على تعدّد المبادرات الأوروبية والأميركية للإبقاء على التّأثير والإدراك الأمنيين/ العسكريين للمنطقة، والتي، للتذكير، لا تحوز، في كثير منها، على موافقة الجزائر أو، على أقل تقدير، تتحفظ على نقاط منها، وخصوصا التأطير الأمني/ العسكري للمنطقة، من دون الأخذ بالاعتبار اهتمامات دول المنطقة الاستراتيجية وإدراكاتها، وخصوصا الجزائر.
ولكن، وهنا أهمّية الفعل الاستراتيجي، ما كان لتلك المبادرات أن تبقى مؤثرة، لو أنّ الفعل الاستراتيجي جاء في إطار مشروع للانبعاث المغاربي، للإبقاء والحفاظ على حصرية الشأن الإقليمي (غرب المتوسط والمنطقة الساحلية - الصحراوية) للمغاربيين دون غيرهم، وهو الأمر الذي كان في وسعه تغيير الإدراك الغربي (الأميركي - الأوروبي، إضافة إلى الاهتمامات الصينية والروسية)، من جهة، والفعل التّدميري لبعض الفواعل الأخرى، من جهة أخرى، أو ردعه عن القيام بأي نشاط أو التقدّم بأية مبادرة خارج الإدراك والفعل الاستراتيجيين للدول المغاربية، بصفة حصرية.
تلك، بالنتيجة، الأدوات (المناورات، شبكة المعلومات، المشاركة في المبادرات، السعي إلى
لا يمكن أن يتأتى الدور الاستراتيجي المقبل إلا في ظل ذلك الإدراك بوجوب بعث المؤسسة المغاربية، الاتحاد المغاربي، للعمل بصفة تعاضدية، إضافة إلى إدراك أهمية دور القاطرة الذي يمكن للجزائر أن تشغله، وتعمل على إقناع الفواعل المهتمة والمعنية بالإقليم والمنطقة بأن شأن الأمن حيوي وحصري لدول المنطقة، وأن أية حلول للمعضلة الليبية أو نشر أية أسلحة، وبعث أية مبادرة أو إنشاء أية قاعدة، يجب أن يمرّ من خلال التّوافق مع دول المنطقة. ومن دون ذلك، أي غياب التعاضد والعلم المشترك للحفاظ على أمن المنطقة، قد يمدّد تردّي المعضلة الليبية ليشكل خطرا داهما، يمكّنه من تحريك أوتار الأزمات والانسدادات، ويحولها إلى صراعات وتوترات كبرى.