تتجمّع العديد من المؤشرات على قرب تبدد الهدوء النسبي الذي يعيشه الجنوب السوري، في ضوء التحركات والعمليات العسكرية التي بدأها النظام السوري أخيراً بهدف إعادة السيطرة على مجمل المناطق التي خرجت عن سيطرته في الجنوب مع اندلاع الثورة السورية، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك حول مصير اتفاق "خفض التصعيد" الذي كانت قد توصلت إليه روسيا مع الولايات المتحدة. ويتزامن ذلك مع معلومات عن قرب توقف الدعم الخارجي نهائياً عن فصائل الجنوب، في إطار السعي إلى تطويعها بالكامل لمصلحة النظام.
وأعلنت تلك الفصائل، في بيان، عن مقاطعتها مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه روسيا نهاية الشهر المقبل، واعتبرت المشاركين فيه أعداءً للشعب السوري وللثورة وشركاء للنظام وحلفائه. كذلك اعتبرت الفصائل أن أي شخص يشارك في مؤتمر سوتشي، سواء بصفته الشخصية أو من خلال موقعه في المؤسسات الثورية، "عدو لها وللشعب السوري، وعدو للثورة السورية، وشريك لنظام (بشار) الأسد وإيران وحزب الله والمليشيات المجرمة". وكان المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرينتييف، قد أكّد أنه لا مكان في مؤتمر سوتشي للمطالبين برحيل بشار الأسد. ويأتي هذا الموقف لفصائل الجبهة الجنوبية امتداداً لمواقف سابقة قضت بمقاطعتها الجولات الأخيرة من مفاوضات أستانة، مع إدراك معظمها بأن النظام وداعميه في طهران وموسكو، إنما يتخذون من المؤتمرات السياسية غطاءً لكسب الوقت قبل الوصول إلى أهدافهم الحقيقية المتمثلة بإعادة السيطرة على مجمل المناطق التي بحوزة المعارضة في الجنوب السوري، كما في بقية المناطق.
وقد انتقلت في الأيام الأخيرة أجواء التصعيد من الغوطة الغربية في ريف دمشق الجنوبي الغربي ومنطقة "مثلت الموت"، عند التقاء محافظات ريف دمشق والقنيطرة ودرعا، إلى مدينة درعا نفسها، إذ دارت اشتباكات بين فصائل المعارضة وقوات النظام في حي المنشية في درعا البلد، بالتزامن مع قصف متبادل، يعتبر الثاني منذ إعلان منطقة "خفض التصعيد" في تموز/يوليو الماضي. وطاول القصف أيضاً مخيم درعا وحي طريق السد، إضافة إلى أطراف بلدة داعل شمال درعا. وأصيب عدد من المدنيين، بينهم أطفال، مساء أول من أمس، من جراء قصف مدفعي لقوات النظام على بلدة جباتا الخشب بريف القنيطرة الشمالي، بالتزامن مع حشود عسكرية لقوات النظام في ريف القنيطرة وفي مدينة الصنمين بريف درعا الشمالي، من دون أن يتضح حتى الآن ما إذا كانت هذه الحشود تأتي في سياق الضغط على فصائل المعارضة التي تحاول مؤازرة الفصائل الأخرى في بلدة بيت جن غرب دمشق، أم في إطار عمل عسكري أوسع نطاقاً يستهدف مناطق سيطرة المعارضة في محافظتي القنيطرة ودرعا، على الرغم من اتفاق "خفض التصعيد" الذي يشمل درعا والقنيطرة وجزءاً من السويداء، علماً أن فصائل المعارضة ما زالت تسيطر على نحو نصف محافظة درعا.
ويرى قائد ميداني في أحد فصائل الجنوب أن معارك مزرعة بيت جن في ريف دمشق الجنوبي الغربي هي بداية لسلسلة مراحل، يسعى النظام للوصول من خلالها إلى السيطرة أولاً على تلك المنطقة، ثم يعقب ذلك فتح جبهات منطقة "مثلث الموت" وصولاً إلى التوغل في عمق مناطق المعارضة في ريف درعا الغربي، وفصل ريفي القنيطرة ودرعا عن بعضهما البعض. ويشير هذا القائد، خلال تصريحات صحافية، إلى الحشود والتعزيزات التي استقدمتها قوات النظام والمليشيات المساندة لها، في الفترة الأخيرة، والتي تعتبر أكبر مما تحتاجه المعارك في منطقة بيت جن التي لا يمكن فصلها عن المناطق الأخرى في القنيطرة ودرعا، معتبراً أن السيطرة على بيت جن ستضيق الخناق على فصائل المعارضة في عموم الجنوب السوري، وتفتح آفاقاً واسعة لقوات النظام والمليشيات في الجنوب السوري. واستغرب هذا القائد، الذي رفض الكشف عن هويته، تقاعس فصائل الجنوب عن نصرة الفصائل في بيت جن وريف دمشق الغربي، وهو ما ستدفع ثمنه باهظاً في الأيام المقبلة، حسب تعبيره.
وعلى الأرض، حققت قوات النظام والمليشيات مزيداً من التقدم على حساب فصائل المعارضة في معارك بيت جن. وقالت مصادر محلية إن قوات النظام سيطرت على تلال ونقاط بعد منطقة الهنكارات باتجاه مزرعة بيت جن، فيما ذكر "الإعلام الحربي المركزي"، التابع للنظام، أن "الجيش يتابع عملياته في ريف دمشق الجنوبي الغربي، ويسيطر على عدد من النقاط الحاكمة على محور الهنكارات، بعد مواجهات مع جبهة النصرة والفصائل المرتبطة بها". وتقع منطقة الهنكارات جنوب شرقي مزرعة بيت جن، وكانت قد سيطرت عليها قوات النظام يوم الجمعة الماضي، وتمكنت من الفصل نارياً بين بيت جن ومزرعتها من جهة، وبيت سابر وكفر حور من جهة أخرى، وهي تسعى للسيطرة على بلدة مغر المير الواقعة بين المنطقتين. وخسرت مساء السبت العشرات من عناصرها بين قتيل وجريح في آخر هجوم على المنطقة، من دون إحراز تقدم على هذا المحور.
وكانت "غرفة عمليات جبل الشيخ" قد دعت جميع فصائل الجبهة الجنوبية إلى الالتحاق بغرفة العمليات العسكرية المشتركة في المنطقة، لكن دون تجاوب منها حتى الآن. وخسارة هذه المنطقة تعني خسارة آخر معاقل المعارضة في الغوطة الغربية، وفتح الطريق أمام قوات النظام للتوغل في ريف درعا الشمالي، وفصله تالياً عن ريف القنيطرة الجنوبي. وتتبع قوات النظام السيناريو نفسه الذي اتبعته في منطقة وادي بردى وعين الفيجة في الريف الغربي لدمشق أيضاً من ناحية محاصرة المنطقة أولاً ثم تقطيع أوصالها، وصولاً إلى فرض اتفاق يقضي بخروج جميع المقاتلين والمدنيين خارجها، وإلى إدلب غالباً. ويسعى النظام لعقد تسوية في كل من بيت تيما وكفر حور وبيت سابر، وفي حال سيطر على مغر المير، سيعزز من إمكانية عقد التسوية، بعد فصل تلك البقعة التي تبلغ مساحتها أكثر من 20 كيلومتراً مربعاً. وتوقع محللون عسكريون أن تسير العمليات في بيت جن ببطء خلال الفترة المقبلة، نظراً إلى صعوبة الطقس وموسم الثلوج هناك، ما يعني أن قوات النظام قد تتعجل فتح معركة "مثلث الموت" قبل الانتهاء من معركة بيت جن.
وكانت وسائل إعلام إيرانية قد ذكرت، مطلع ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أن تعزيزات كبيرة وصلت إلى شمالي درعا والقنيطرة، في إطار التحضير لمعركة ريف درعا الشمالي، التي تشمل تحديداً قرية زمرين شرقي إنخل التي تعتبر خط تماس بين المعارضة وقوات النظام، إضافة إلى بلدتي الصمدانية والحمدانية في القنيطرة. وحذر مصدر عسكري في المعارضة السورية من أن سيطرة قوات النظام على بعض المناطق في ريف درعا الشمالي، خصوصاً تل الحارة، تعني انهيار منطقة الجيدور والعودة إلى السنوات الأولى للثورة، عندما كان بوسع قوات النظام قصف أي منطقة بالمدفعية. ولاحظ المصدر أن حشود قوات النظام لا تقتصر على المناطق المذكورة بل وصلت إلى مدن وبلدات الصنمين وإزرع وخربة غزالة ونامر وقرفة، التي تعتبر خط جبهة مع مدينة درعا. وأوضح أن قوات النظام قد تتمكن في المراحل الأولى من السيطرة على بعض القرى ضعيفة التحصين قبل الوصول إلى محيط مدينة الحارة، حيث ستبدأ هناك المعارك الحقيقية بين الجانبين، مشيراً إلى أن مقاتلي "هيئة تحرير الشام" هم من يسيطرون على تل الحارة، وقاموا بتحصينه بشكل جيد. وتكمن أهمية تل الحارة كونه أعلى التلال في جنوبي سورية، ويطل على المنطقة الجنوبية والغربية من ريف دمشق، والمنطقة الشمالية من ريف درعا والقنيطرة، وشهد معارك طاحنة خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 بين سورية وإسرائيل. وكانت فصائل المعارضة قد وصلت خلال ذروة تقدمها عام 2015 إلى مسافة أقل من عشرة كيلومترات من مدينة داريا، وكانت على وشك فك الحصار عنها. وفي إطار سعيها إلى مواجهة هذا التقدم المحتمل لقوات النظام، أعلنت أربعة فصائل عسكرية، هي "ألوية مجاهدي حوران"، و"ألوية جيدور حوران"، و"اللواء الأول مهام خاصة"، و"لواء أسامة بن زيد"، تشكيل "تحالف ثوار الجيدور". وأعلنت، في بيان، أن هدفها هو "رصّ الصفوف والاستعداد للمعركة المقبلة".
ويرى مراقبون أن لدى إيران خططاً في الجنوب السوري بالتعاون مع قوات النظام السوري بمعزل عن الخطط الروسية الخاصة بـ"خفض التصعيد"، وهي تسعى للوصول إلى الحدود الأردنية، خصوصاً منطقة الجمرك القديم، نظراً لصعوبة وصولها إلى معبر نصيب، حيث المنطقة مكشوفة بين مناطق سيطرة النظام والمعبر، وتعتبر ذات أهمية فائقة لفصائل المعارضة، لأن وصول النظام إلى الحدود الأردنية يعني قطع التواصل بشكل تام بين مناطق سيطرة المعارضة في ريفي درعا الشرقي والغربي، باعتبار أن قوات النظام تسيطر حالياً على الطريق الدولي بين دمشق ودرعا إلى منطقة درعا المحطة، وتفصل تالياً بين مناطق المعارضة على جانبي الطريق، والمنفذ الوحيد المتبقي للمعارضة هو الطريق العسكري بين حي المنشية والحدود الأردنية. وعامل الردع الرئيس أمام الجهود الإيرانية هو موقف إسرائيل، التي أعلنت أكثر من مرة أنها لن تسمح لإيران ومليشياتها بالوصول إلى الحدود، واستهدفتها بالقصف الجوي أكثر من مرة. ومما له دلالته في هذا السياق، ما كشفه بشار الزعبي، قائد "جيش اليرموك"، أكبر فصائل الجيش الحر في الجبهة الجنوبية، عن قرار غرفة "ألموك" في الأردن، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، بوقف الدعم العسكري لفصائل المعارضة المسلحة في الجنوب السوري والشمال اعتباراً من مطلع العام المقبل. وأوضح الزعبي، في تصريحات صحافية، أنه جرى إبلاغ جميع فصائل المعارضة المسلحة من قبل غرفتي "ألموك" في الأردن و"ألموم" في تركيا بإيقاف الدعم، من دون وجود خطط بديلة لتلك الفصائل، سوى "الاعتماد على النفس والعودة إلى بدايات الثورة للدفاع عن المناطق المحررة وإسقاط النظام"، وفق قوله.