الجوانب العقلية في التصوف الإسلامي

05 اغسطس 2014
+ الخط -

إنَّهُم يَذهبون إلى التصوف طوعاً، هذه هي حقيقة من يبحث عن معرفة الحقيقة، أو من يتماثل لفعل الإنسانية، ويريد الجمع بين المعرفة والحقيقة بغير غموضٍ، أو شبه التباس. ومن أسرار التصوف أن من يعمدون الوصول إلى معارجه لا يتجرعون مرارة الإخفاق وتعثرات النفس التي تصاحب الفشل في الحياة الاجتماعية، بل هو اختيار قصديّ، لا يعرف للتصنيف سبيلاً، أو مثلما يعاني إنسان ما متاعب الحياة، ويتحمل عثراتها، فيلجأ مباشرة صوب الاحتماء بأستار الدين، توجهاً ظاهرياً فقط، أما الذين ذهبوا إلى التصوف، ليس بوصفه طوق نجاة من فتنة الدنيا وكدرها فحسب، فإنهم لم يغادروا الدنيا بمشاعرهم نحو نصوص السلف القدماء من أجل اجترارها، بل تيقنوا أنهم، بتصوفهم هذا، يؤكدون إرادة تَحقّقِ العقل وكماله.

بل اعتبر معظم أقطاب الصوفية، عن جهد وروية، أن الإرادة جوهر الإنسان نفسه، وبمقتضاها يستطيعون إثبات وجودهم وكنههم، وطرح بعضهم فكرة أن الإرادة هي سبيل الوصول إلى الله سبحانه وتعالى لأنه مطلوبهم.

وربما الاتهامات المتلاحقة التي نالت من التصوف بحجة أنه اتجاه روحي فحسب، ولا علاقة له بالعقل أو فعل الإرادة، هي التي دفعت المتأخرين من مؤرخي حركة التصوف الإسلامي نحو إبراز دور الوعي والإدراك لدى متصوفي الإسلام، وأن كنه التصوف لا يتمثل في مساجلات تُنظم شعراً، أو مجرد أقوال مرهونة بمواقف محددة، بل هو وعي شديد الحضور، وضرب من ضروب النشاط العقلي والذهني، وإن جازت التسمية، في بعض الأحايين، بأنه ما فوق الإدراك وما وراء المعرفة.

وإذا كان مؤرخو التصوف الإسلامي قد أسرفوا في جمع المواضعات الخاصة، والمرتبطة بالمفهوم، وركّزوا غالباً على التجربة الروحية للمتصوفين، معتمدين في ذلك على التعريف الأشهر للتصوف، الذي قال به الصوفي الكبير، بشر بن الحارث، "التصوف هو صفاء الأسرار ونقاء الآثار"، فإن كثيرين، أيضاً، أكدوا على أن تلك التجربة الروحية متلازمة على الدوام مع العقل، بل أجاز بعضهم اعتبار صمت المتصوفين خير دليل على إعمال العقل والتدبر في المجردات والمحسوسات.

وإذا تحدثنا عن الجوانب العقلية في التراث الصوفي الإسلامي، فإن الرمز يعد أحد هذه الجوانب الأكثر حضوراً في نصوص المتصوفين، بل يمثل الرمز أحد أبرز السمات المميزة للتصوف الإسلامي. ولطالما عبَّر الصوفيون عن أذواقهم وتجاربهم الروحية، بالتلميح دون التصريح، والإشارة دون ذكر العبارة، أو استخدام لغة مغايرة لما يستعمله العوام من مفردات كاشفة.

وأحياناً كثيرة، يلجأ الصوفي إلى استعمال اللغة الرمزية، الأكثر خصوصيةً، هرباً من الفهم الضيق وفقر التأويل، الذي يعاني منه بعض متلقيّ النص الصوفي.

وكانت مشكلة المتصوفة أن نصوصهم تتطلب قدراً عالياً من امتلاك اللغة، ودلالة مفرداتها لدى المريدين والمتلقيين، من ناحية، وامتلاكهم ذائقةً تمكنهم من الإحساس بالنص وصاحبه، من ناحية أخرى.

وربما أصاب مؤرخو التصوف الإسلامي حينما أشاروا إلى أن استخدام الصوفي اللغة الرمزية جاء مناسباً للتعبير عن المواجيد والأحوال والمقامات التي لا تناسبها لغة اعتيادية، كالانجذاب، والاصطلاء، والمحبة، والوجد، المطلق، والفناء، في الوقت الذي أفادوا فيه بأن استعمال الرمز قُصِدَت به الإشارة إلى حقائق روحية، وهذه اللغة الرمزية نالت من الصوفيين كثيراً، حتى ألصق ببعضهم تهم الزندقة والخروج عن الدين.

ويعتبر القرن السابع الهجري قرن المعرفة والعقل بالنسبة للتصوف الإسلامي، حيث بلغ حديث العقل في النص الصوفي شأناً كبيراً، وكما يشير جوزيبي سكاتولين في كتابه "التجليات الروحية في الإسلام"، إلى أن التصوف، في ذلك الوقت، اتخذ بعداً نظرياً أوضح وأعمق مما كان عليه من قبل، وربما يكون السبب في ذلك هو الشهود العقلي في سياق النصوص الصوفية، هو تأثر التصوف الإسلامي في تيارات فكرية كثيرة منتشرة في ذلك الزمان في العالم الإسلامي.

avata
avata
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)
بليغ حمدي إسماعيل (مصر)