02 نوفمبر 2024
الجيش... المسكوت عنه عربياً
يسمّونه الصندوق الأسود، وحامي الديار ومستودع الأسرار، وحارس الحِمى والدين… كذلك هو الجيش في اعتبار كثيرين من العرب، وليس الحديث عنه من اختصاص العامّة، ولا من مهام الخاصّة، بل هو سرّ مكينٌ من أسرار الدولة، لا يدركه إلاّ القلّة، ولا يحيط به إلاّ الصفوة من دوائر السلطان. لذلك، اندرج الجيش عقوداً من تاريخ العرب الحديث تحت طائلة المسكوت عنه، لما اتّسم به من صرامة وقداسة وغموض، حتى أصبح منتمياً إلى حيّز اللامفكّر فيه. ونتيجة لذلك، جاءت أغلب النصوص الكلاسيكية المعنية بالشأن العسكري في السياق العربي في شكل سردياتٍ، تبحث في نشأة الجيوش العربية وتطوّرها، أو تقدّم مقارباتٍ تمجيديةً للمنجز العسكري العربي، ولا تتجاوز ذلك إلى التعاطي التحليلي/ النقدي مع المؤسسة العسكرية، فكان مؤلّفو تلك النصوص محكومين بهاجس هيبة الدولة العسكرية القامعة، ونادراً ما حاولوا عبور هذا المدى في التفكير، ليبحثوا في مفهمة الجيش، وآليات اشتغاله وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية. وما من شكّ في أنّ الجيش من أسباب استمرار الدولة، وأنه من ركائز انتظام العمران وسريان السلم الاجتماعي في السياق العربي. لكن الثابت أنّ مأسسة الجيش وتحديد موقعه من المجتمع وطبيعة أدواره وصلاحياته أمور لم تحظ بالتمحيص النظري، والتحليل النقدي المعمّق في السياق الإبيستيمي العربي المعاصر.
تعد مبادرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عقد مؤتمر "الجيش والسياسة في مرحلة التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي" خطوة مهمّة على درب وضع المؤسسة العسكرية تحت مجهر التفكير، والخروج بها من حيّز المسكوت عنه إلى حيّز المنظور فيه، بأدوات علم الاجتماع وتقنيات تحليل الخطاب والأنتروبولوجيا الثقافية. ومع أنّ قراءاتٍ لم تتجاوز حيّز السرد التاريخي وتبرير السلوك العسكري في هذا البلد أو ذاك، فإنّ مقاربات أخرى اخترقت سُجُف الممنوع، وحاولت مساءلة مؤسسة الجيش من منظور نقدي موضوعي. وتلفت الانتباه، في هذا الخصوص، محاضرة عزمي بشارة الافتتاحية، وقد تجاوزت مرحلة البحث في مفهوم الجيش وسيرته، لتنبّه إلى مخاطر تلبيس العسكر بالسياسة والاقتصاد، وتحويل الدولة إلى كيان خادم للجيش وتابع له، وأبرزت أنّ إنتاج جمهورية ضبّاط في مصر وسورية والعراق أدّى إلى إنتاج أنظمة تسلّطية شمولية، تمّ معها اختزال المجتمع المتعدّد المتنوّع في شخص الفرد المستبدّ الحاكم بأمره، المتعالي على الناس، والمنفلت من سلطة كلّ حسيب أو رقيب. وأشار بشارة، هنا، إلى خطورة دور المثقف والنخب المدنية في تحقيق التوازن من عدمه بين قوى الشعب المدنية الحيّة والجهاز العسكري، مبيّنا أن قابلية بعض المثقفين الهيمنة العسكرية، وسعيهم المحموم إلى تبرير الدكتاتورية، زاد من تأزيم العلاقة بين الجيش والمدنيين، وهيّأ الأسباب لاستمرار الحكم الفرداني، وحال دون إمكان التحوّل الديمقراطي في عدد من الدول العربية.
وفي سياق متّصل ببيان سطوة الجيش على المجال العام، ومحاولته مصادرة الأمكنة الرّمزية
الحمّالة لذاكرة الثورة، والدالّة عليها، عرض علي عبد الرؤوف (مصر ) جهود العسكر لاحتواء ميدان التحرير ومحاصرته وتهميشه، باعتباره أيقونة الثورة المصرية، مبرزاً في مقاربةٍ سيميائية، زمانية، عمرانية، التحوّلات الطارئة على الصورة الذهنية والوجدانية والبصرية للميدان، وانتقاله بالتدريج من مكان مقدّس إبّان الثورة إلى مكان مدنّس بعد الانقلاب، كاشفاً دور العسكر في تشكيل صورة الميدان في الوعي الجمعي، بما ينشره من أخبار، وما يتّخذه من قراراتٍ تحاصر مساحة التعبير، وتشتت المكان، بل تشوّهه وتجعله ممنوعاً على الناس، على نحوٍ أخبر أنّ الجيش حاكم في الزمان والمكان والإنسان في مصر.
وفي سياق آخر، طرق محمّد سعدي (المغرب) طريقاً غير مطروقة، بتناوله مسألة حوكمة الجيش ومأسسته، مخبراً أن أغلب الأجهزة العسكرية العربية لا يعرف المواطنون حدود صلاحياتها ومدى امتدادها في الدولة، كما أنّ ميزانية الجيش، في أغلب دول المنطقة، لا تناقش بصفة علنية، ولا تُعرض على مجلس النوّاب، ولا تخضع نفقات المؤسسة وقراراتها وأدوارها للتدقيق والمراجعة من الهيئات البرلمانية، ما يجعلها في حِلّ من الرقابة، وفي منأىً عن الشفافية والنزاهة.
هذا غيض من فيض ما جاد به المؤتمر التفاكري للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقد شارك فيه أكثر من 60 باحثًا من المؤسسات الجامعية والبحثية من البلدان العربية ومن خارجها. وتكمن قيمة المنجز المعرفي المعروض في تعدّده وتنوّعه منهجيا ومضمونيا، ومراوحته بين التنظير والتطبيق، وفي أنه أخرج الجيش من معاقل الصمت والكتم والعتمة إلى دوائر الضوء والتداول العلني. فأسهم بذلك في توسيع مجال الحرّيات الأكاديمية في العالم العربي، جاعلا المؤسسة العسكرية مدار تدبّر، وموضوع مساءلة وتقويم ومناقشة، على نحو قلّل من مساحة التابو في الوعي العربي، وأذاب الجليد بين الجيش وصنّاع الأفكار في بلاد العرب.
تعد مبادرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عقد مؤتمر "الجيش والسياسة في مرحلة التحوّل الديمقراطي في الوطن العربي" خطوة مهمّة على درب وضع المؤسسة العسكرية تحت مجهر التفكير، والخروج بها من حيّز المسكوت عنه إلى حيّز المنظور فيه، بأدوات علم الاجتماع وتقنيات تحليل الخطاب والأنتروبولوجيا الثقافية. ومع أنّ قراءاتٍ لم تتجاوز حيّز السرد التاريخي وتبرير السلوك العسكري في هذا البلد أو ذاك، فإنّ مقاربات أخرى اخترقت سُجُف الممنوع، وحاولت مساءلة مؤسسة الجيش من منظور نقدي موضوعي. وتلفت الانتباه، في هذا الخصوص، محاضرة عزمي بشارة الافتتاحية، وقد تجاوزت مرحلة البحث في مفهوم الجيش وسيرته، لتنبّه إلى مخاطر تلبيس العسكر بالسياسة والاقتصاد، وتحويل الدولة إلى كيان خادم للجيش وتابع له، وأبرزت أنّ إنتاج جمهورية ضبّاط في مصر وسورية والعراق أدّى إلى إنتاج أنظمة تسلّطية شمولية، تمّ معها اختزال المجتمع المتعدّد المتنوّع في شخص الفرد المستبدّ الحاكم بأمره، المتعالي على الناس، والمنفلت من سلطة كلّ حسيب أو رقيب. وأشار بشارة، هنا، إلى خطورة دور المثقف والنخب المدنية في تحقيق التوازن من عدمه بين قوى الشعب المدنية الحيّة والجهاز العسكري، مبيّنا أن قابلية بعض المثقفين الهيمنة العسكرية، وسعيهم المحموم إلى تبرير الدكتاتورية، زاد من تأزيم العلاقة بين الجيش والمدنيين، وهيّأ الأسباب لاستمرار الحكم الفرداني، وحال دون إمكان التحوّل الديمقراطي في عدد من الدول العربية.
وفي سياق متّصل ببيان سطوة الجيش على المجال العام، ومحاولته مصادرة الأمكنة الرّمزية
وفي سياق آخر، طرق محمّد سعدي (المغرب) طريقاً غير مطروقة، بتناوله مسألة حوكمة الجيش ومأسسته، مخبراً أن أغلب الأجهزة العسكرية العربية لا يعرف المواطنون حدود صلاحياتها ومدى امتدادها في الدولة، كما أنّ ميزانية الجيش، في أغلب دول المنطقة، لا تناقش بصفة علنية، ولا تُعرض على مجلس النوّاب، ولا تخضع نفقات المؤسسة وقراراتها وأدوارها للتدقيق والمراجعة من الهيئات البرلمانية، ما يجعلها في حِلّ من الرقابة، وفي منأىً عن الشفافية والنزاهة.
هذا غيض من فيض ما جاد به المؤتمر التفاكري للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقد شارك فيه أكثر من 60 باحثًا من المؤسسات الجامعية والبحثية من البلدان العربية ومن خارجها. وتكمن قيمة المنجز المعرفي المعروض في تعدّده وتنوّعه منهجيا ومضمونيا، ومراوحته بين التنظير والتطبيق، وفي أنه أخرج الجيش من معاقل الصمت والكتم والعتمة إلى دوائر الضوء والتداول العلني. فأسهم بذلك في توسيع مجال الحرّيات الأكاديمية في العالم العربي، جاعلا المؤسسة العسكرية مدار تدبّر، وموضوع مساءلة وتقويم ومناقشة، على نحو قلّل من مساحة التابو في الوعي العربي، وأذاب الجليد بين الجيش وصنّاع الأفكار في بلاد العرب.