24 سبتمبر 2020
الجيوش لا تهزم الشعوب
الجيوش قد تهزم الجيوش، وتحقق انتصارات عسكرية كاسحة، تدمر تشكيلات برية، تسقط طائرات حربية، تغرق مدمرات وفرقاطات بحرية، وتسقط حكاماً وتحتل أراضي ومدناً ودولاً، وأوطاناً بأكملها. وتستعمر وتستوطن. وقد تقيم كيانات ودولاً على أراضٍ تمتلكها شعوب أخرى. الجيوش قد تقهر شعوبها، وتحكمها بالقوة الغاشمة. كل ذلك ممكن، وحدث مراتٍ على امتداد التاريخ البشري، بصور وأشكال ونماذج متعددة، والأمثلة كثيرة، قديمة وحديثة، وأيضاً معاصرة.
لكن المثير في الأمر، أنه وعلى الرغم من التسليم بقدرة الجيوش على الغزو والاحتلال وقهر الشعوب، بل والتهجير والحصار، وغير ذلك من طرق التنكيل، فإن الشعوب تبقى حية، بل وتقاوم، أيضاً، بوسائل وأساليب وأشكال متعددة. وفي النهاية، تنتصر، وإن طال الزمن. وأيضاً، النماذج والأمثلة كثيرة، قديمة وحديثة ومعاصرة. ويمكننا استعراض ثلاثة نماذج متباينة بشكل واضح، من استخدام الجيوش لقهر الشعوب، لعلها توضح الفكرة:
الأول، ما يُعرف بالاستعمار القديم، أو التقليدي، ولعل أوضح نماذجه الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، والاحتلال البريطاني لمصر، وكلا النموذجين انتهى بجلاء جيوش الاحتلال بعد مقاومة طويلة ومستمرة، انتهت بانتصار الشعوب على الجيوش. ولعل هذا النموذج، من استخدام الجيوش في قهر الشعوب واحتلال أوطانها قد انتهى.
الثاني، الواضح أيضاً هو ما يعرف بالاستعمار الاستيطاني الذي لا يقتصر على الاحتلال وفرض السيطرة، لكنه يمتد إلى العمل على محو الهوية الوطنية للبلد، واستبدالها بهوية المستعمر الوافد في حماية جيش الاحتلال. ولعل أوضح أمثلة ذلك الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، والذي انتهى بعد نضال طويل من الشعب الجزائري، قدّم فيه تضحيات تجاوزت المليون شهيد، وانتهى الأمر بانتصار الشعب، واستعادة هويته العربية والإسلامية. والنموذج الآخر جنوب أفريقيا التي كان الاحتلال الأوروبي الاستيطاني لها قد حولها إلى دولةٍ، يسودها الرجل الأبيض في قلب أفريقيا، ويقيم فيها أبشع نظام فصل عنصري، والذي انتهى بانتصار شعب جنوب أفريقيا، واستعادة وطنه وهويته.
الثالث، انتصار الشعوب على القهر، والطغيان، والاستبداد الذي قد يأتي من الداخل، تقوده طغمة عسكرية غاشمة، أو جماعة أيديولوجية فاشية، مهما كانت القوة التي تستند إليها، سواء كانت جيوشاً نظامية، أو ميليشيات عسكرية. والأمثلة أيضا قريبة أمام أعيننا، ثورات الشعوب في أميركا اللاتينية ضد الطغم العسكرية، أو انهيار الاتحاد السوفييتي، بكل ما كان يمثله من نظام شمولي قمعي، أو الثورات الملونة في دول أوروبا الشرقية، والتي كانت تحكمها بقايا الأحزاب الشيوعية السابقة.
الجيوش إذاً، ومهما كانت، لا تهزم الشعوب، وإن طال الزمن. هل يدرك العدو الإسرائيلي هذه
الحقيقة؟ على الرغم مما يمتلك من مراكز دراسات بحثية، وما يدعى من علم ووعي وإدراك للبعد التاريخي، وعلى الرغم من تجربة المشروع الصهيوني الاستيطاني، على امتداد أكثر من 120 عاماً، على الأرض العربية الفلسطينية، عندما رست أول سفينة تحمل بضع مئات من يهود أوروبا الشرقية، في عام 1882، على سواحل حيفا، يمثلون أول موجة من موجات الهجرة اليهودية، ودار الزمن دورته، وتوالت موجات الهجرة، وأقيمت المستوطنات، وأنشئت المليشيات المسلحة التي تحولت إلى جيش، يحمي المستوطنات التي تحولت إلى دولة، سُميت إسرائيل، ودخل جيشها في جولات من الحروب مع جيوش عربية، وهزمها، وترسخ وجود الدولة العبرية، ووسعت من رقعة الأرض التي تحتلها، على حساب الشعب الفلسطيني الذي تصور أن الجيوش العربية هي من ستحرر أرضه وتدعم مقاومته، حتى كانت لحظة الحقيقة التاريخية الأولى، في الخامس من يونيو/حزيران 1967، عندما انكسرت كل الجيوش العربية، واحتل جيش العدو كل الأراضي الفلسطينية، ولم يعد هناك مواطن ولاجئ فلسطيني، فالكل تحت الاحتلال.
ثم جاءت لحظة الحقيقة الثانية، عندما تم توقيع أول معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي وأكبر الدول العربية في المواجهة، وهي مصر، والتي استردت بمقتضاها كل أرضها المحتلة في سيناء. وهكذا خرجت من الصراع العسكري، وكانت سورية قد وقعت اتفاقية فصل القوات، وقبلت استمرار احتلال الجولان، وأعلنت نظرية مبتكرة، أطلقت عليها الممانعة؟ وتصور العدو الإسرائيلي أن الأمور دانت له تحت مظلة جيشه الذي لا يُقهر. ولكن، فات الجميع أنهم أصبحوا أمام لحظة حقيقية مهمة، هي أن ذلك الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أصبح في مواجهة الشعب الفلسطيني، ربما لأول مرة، وأصبح عليه أن يدرك الحقيقة التاريخية أن الجيوش لا تهزم الشعوب.
كانت المواجهة الأولى في ديسمبر/كانون الأول 1987، عندما انطلقت الانتفاضة الأولى، وكان سلاحها الحجارة، ولم تهدأ إلا في عام 1991، ثم توقفت تماماً بعد توقيع اتفاقية أوسلو في 1993، والتي كانت مناورة من العدو الإسرائيلي لاحتواء تلك الانتفاضة. ثم كانت المواجهة الثانية للشعب الفلسطيني في عام 2000، والتي عُرفت بانتفاضة الأقصى، واتسمت بالعنف، وضربت المجتمع الإسرائيلي في داخله، واستمرت حتى عام 2005، عندما تم توقيع اتفاق تهدئة في شرم الشيخ بين محمود عباس وأرييل شارون، ولم تتوقف مقاومة الشعب الفلسطيني، على الرغم من كل الإجراءات من جيش العدو في الضفة الغربية، وضد قطاع غزة الذي تعرض لحصار وعدوان شامل في 2008، ثم 2012، وفي صيف 2014، في عدوان استمر 51 يوماً. وتصورت إسرائيل أنها وجهت ضربات قاضية للشعب الفلسطيني ومقاومته، واتجهت إلى مشاريعها الاستيطانية في الضفة وتهويد القدس، وفرض خطة تقسيمها المسجد الأقصى، وتصورت أنها بعد أن دجنت سلطة رام الله، لن يتصدى لها أحد. ومرة أخرى، ينسى نتنياهو حقيقة أن هناك شعبا حيا، وسيبقى حياً، مهما طال الزمن، هو الشعب الفلسطيني، فانطلقت انتفاضة جديدة، أشعلها فتية ولدوا بعد توقيع اتفاقية أوسلو، لا يملكون من أدوات المقاومة سوى سكين، أو مدية صغيرة، يطاردون بها العدو المحتل والمستوطن، على الرغم من أنه شاكي السلاح، ويحيط بهم جنود جيش العدو.
قد تستمر هذه الانتفاضة، قد تتطور، وقد تهدأ، وربما تتوقف. كل هذا مُحتمل. ولكن، تبقى الحقيقة التاريخية، والتي على العدو أن يدركها جيداً، وهي أن الجيوش لا تهزم الشعوب، والشعب الفلسطيني سيبقى، وسيقاوم، وحتماً سينتصر.
وعلينا أيضا، في عالمنا العربي، أن ندرك، قبل فوات الأوان، أن الشعوب التي تعرضت، وتتعرض، للقهر، نتيجة الصدمة التي داهمتها، بفعل الطغم العسكرية وجيوشها، أو الجماعات الأيديولوجية ومليشياتها العسكرية، حتما ستفيق وستنتصر، لأن الشعوب لا تموت، ولا تهزمها الجيوش، وإن طال الزمن.
لكن المثير في الأمر، أنه وعلى الرغم من التسليم بقدرة الجيوش على الغزو والاحتلال وقهر الشعوب، بل والتهجير والحصار، وغير ذلك من طرق التنكيل، فإن الشعوب تبقى حية، بل وتقاوم، أيضاً، بوسائل وأساليب وأشكال متعددة. وفي النهاية، تنتصر، وإن طال الزمن. وأيضاً، النماذج والأمثلة كثيرة، قديمة وحديثة ومعاصرة. ويمكننا استعراض ثلاثة نماذج متباينة بشكل واضح، من استخدام الجيوش لقهر الشعوب، لعلها توضح الفكرة:
الأول، ما يُعرف بالاستعمار القديم، أو التقليدي، ولعل أوضح نماذجه الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، والاحتلال البريطاني لمصر، وكلا النموذجين انتهى بجلاء جيوش الاحتلال بعد مقاومة طويلة ومستمرة، انتهت بانتصار الشعوب على الجيوش. ولعل هذا النموذج، من استخدام الجيوش في قهر الشعوب واحتلال أوطانها قد انتهى.
الثاني، الواضح أيضاً هو ما يعرف بالاستعمار الاستيطاني الذي لا يقتصر على الاحتلال وفرض السيطرة، لكنه يمتد إلى العمل على محو الهوية الوطنية للبلد، واستبدالها بهوية المستعمر الوافد في حماية جيش الاحتلال. ولعل أوضح أمثلة ذلك الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، والذي انتهى بعد نضال طويل من الشعب الجزائري، قدّم فيه تضحيات تجاوزت المليون شهيد، وانتهى الأمر بانتصار الشعب، واستعادة هويته العربية والإسلامية. والنموذج الآخر جنوب أفريقيا التي كان الاحتلال الأوروبي الاستيطاني لها قد حولها إلى دولةٍ، يسودها الرجل الأبيض في قلب أفريقيا، ويقيم فيها أبشع نظام فصل عنصري، والذي انتهى بانتصار شعب جنوب أفريقيا، واستعادة وطنه وهويته.
الثالث، انتصار الشعوب على القهر، والطغيان، والاستبداد الذي قد يأتي من الداخل، تقوده طغمة عسكرية غاشمة، أو جماعة أيديولوجية فاشية، مهما كانت القوة التي تستند إليها، سواء كانت جيوشاً نظامية، أو ميليشيات عسكرية. والأمثلة أيضا قريبة أمام أعيننا، ثورات الشعوب في أميركا اللاتينية ضد الطغم العسكرية، أو انهيار الاتحاد السوفييتي، بكل ما كان يمثله من نظام شمولي قمعي، أو الثورات الملونة في دول أوروبا الشرقية، والتي كانت تحكمها بقايا الأحزاب الشيوعية السابقة.
الجيوش إذاً، ومهما كانت، لا تهزم الشعوب، وإن طال الزمن. هل يدرك العدو الإسرائيلي هذه
ثم جاءت لحظة الحقيقة الثانية، عندما تم توقيع أول معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي وأكبر الدول العربية في المواجهة، وهي مصر، والتي استردت بمقتضاها كل أرضها المحتلة في سيناء. وهكذا خرجت من الصراع العسكري، وكانت سورية قد وقعت اتفاقية فصل القوات، وقبلت استمرار احتلال الجولان، وأعلنت نظرية مبتكرة، أطلقت عليها الممانعة؟ وتصور العدو الإسرائيلي أن الأمور دانت له تحت مظلة جيشه الذي لا يُقهر. ولكن، فات الجميع أنهم أصبحوا أمام لحظة حقيقية مهمة، هي أن ذلك الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أصبح في مواجهة الشعب الفلسطيني، ربما لأول مرة، وأصبح عليه أن يدرك الحقيقة التاريخية أن الجيوش لا تهزم الشعوب.
كانت المواجهة الأولى في ديسمبر/كانون الأول 1987، عندما انطلقت الانتفاضة الأولى، وكان سلاحها الحجارة، ولم تهدأ إلا في عام 1991، ثم توقفت تماماً بعد توقيع اتفاقية أوسلو في 1993، والتي كانت مناورة من العدو الإسرائيلي لاحتواء تلك الانتفاضة. ثم كانت المواجهة الثانية للشعب الفلسطيني في عام 2000، والتي عُرفت بانتفاضة الأقصى، واتسمت بالعنف، وضربت المجتمع الإسرائيلي في داخله، واستمرت حتى عام 2005، عندما تم توقيع اتفاق تهدئة في شرم الشيخ بين محمود عباس وأرييل شارون، ولم تتوقف مقاومة الشعب الفلسطيني، على الرغم من كل الإجراءات من جيش العدو في الضفة الغربية، وضد قطاع غزة الذي تعرض لحصار وعدوان شامل في 2008، ثم 2012، وفي صيف 2014، في عدوان استمر 51 يوماً. وتصورت إسرائيل أنها وجهت ضربات قاضية للشعب الفلسطيني ومقاومته، واتجهت إلى مشاريعها الاستيطانية في الضفة وتهويد القدس، وفرض خطة تقسيمها المسجد الأقصى، وتصورت أنها بعد أن دجنت سلطة رام الله، لن يتصدى لها أحد. ومرة أخرى، ينسى نتنياهو حقيقة أن هناك شعبا حيا، وسيبقى حياً، مهما طال الزمن، هو الشعب الفلسطيني، فانطلقت انتفاضة جديدة، أشعلها فتية ولدوا بعد توقيع اتفاقية أوسلو، لا يملكون من أدوات المقاومة سوى سكين، أو مدية صغيرة، يطاردون بها العدو المحتل والمستوطن، على الرغم من أنه شاكي السلاح، ويحيط بهم جنود جيش العدو.
قد تستمر هذه الانتفاضة، قد تتطور، وقد تهدأ، وربما تتوقف. كل هذا مُحتمل. ولكن، تبقى الحقيقة التاريخية، والتي على العدو أن يدركها جيداً، وهي أن الجيوش لا تهزم الشعوب، والشعب الفلسطيني سيبقى، وسيقاوم، وحتماً سينتصر.
وعلينا أيضا، في عالمنا العربي، أن ندرك، قبل فوات الأوان، أن الشعوب التي تعرضت، وتتعرض، للقهر، نتيجة الصدمة التي داهمتها، بفعل الطغم العسكرية وجيوشها، أو الجماعات الأيديولوجية ومليشياتها العسكرية، حتما ستفيق وستنتصر، لأن الشعوب لا تموت، ولا تهزمها الجيوش، وإن طال الزمن.