29 نوفمبر 2022
الحب عن بعد... زمن كورونا وقبله
مهما بلغنا في السن ومهما وصلنا من علم، سنبقى أطفالاً، سنظل عاطفيين نلتصق بمن نحب ونحِّن لهم حين يغيبون عنا ونرتكب الحماقات إذا ما حضروا، ونرتبك وتحمر خدودنا وقد تصفر وربما تصطك أسناننا ويتعرق جبيننا إذا ما بادلنا من نحب نظرة حب.
إذا ما ما حللنا عواطف الناس وجدنا أن العواطف تنقسم إلى قسمين، هما: الحب والكراهية، وما الكراهية سوى صورة سلبية عن الحب (الفكر الفلسفي والاجتماعي، وهيب جرجس، ص142)، والكاتب لا يقصد بالحب ما نعرفه أو ما نحب أن نعرفه "علاقة بين رجل وامرأة"، بل يتعداه بمراحل، فالأمومة حب والشفقة وغيرهما حب.
وفي كتابه "فن الحب"، يرى إريك فروم أن الحب هو الجواب الصحيح عن مشكلة الوجود البشري، لو أننا أدركناه وفهمناه بطريقة صحيحة باعتباره اهتماماً بحياة الآخرين وشعوراً بأننا جزء من كل، وأن نشترك في العمل من أجل سعادة الآخرين.
إذاً لا مناص لنا من الحب، فبه نحيا ودونه نذبل وتذهب ريحنا، وننسى كأننا لم نكن، والمرء لا يخاف موته بالقدر الذي يخاف فيه من أن ينسى ولا تكون له ذكرى يذكر بها ولو من شخص أو شخصين، ولهذا فنحن آلة تتحرك بزيت الحب وتتعطل دونه.
مع ما يعرفه العالم من تحولات على كافة المستويات عرف الحب هو الآخر تحولاً مهماً، فعلاقات الحب تغيرت وتبدلت، ولن نجازف إذا قلنا إن الحب فقد الكثير من قيمته وباتت للحب نسخ مزورة لا تصنع في الصين، ولكنها في كل شبر من المعمورة. وأخذ نوع جديد منه يطفو: "الحب عن بعد"، فهل هو جديد فعلاً؟ وما هو هذا الحب عن بعد وكيف يبدو؟
لعل القارئ إذا ما قرأ "الحب عن بعد" سيتذكر لزاماً مسرحية اللبناني الكبير "أمين معلوف"، كتاب الألماني "أولريش بك"، كلاهما يحملان العنوان نفسه، ويختلفان في المتن، فالأول عبارة عن مسرحية تحكي قصة أمير فرنسي يائس يبحث لنفسه عن قصة ـ هدف، فيخبره أحدهم بوجود فتاة في مصر تشتاق لرؤيته وتنتظره بشغف كبير بعدما حدثها هو -الذي أخبره- عن الأمير الفرنسي ووسامته، فيقرر الأمير ركوب البحر والاتجاه نحو الإسكندرية للقاء حبيبته التي لم يرها من قبل ولكنها الأوهام تجتاحه والمخاوف تسكن قلبه فتعتل صحته ويذبل عوده ويقعده المرض ولا يفلح في الهناء بحبيبته إلا دقائق معدودات قبل أن تسلم روحه للبارئ عز وجل.
وأما الكتاب الآخر فهو يدرس دراسة مستفيضة الحب عن بعد أو الحب النائي، في عشرة فصول كاملة -أكثر330 صفحة-، وتأثير العولمة على علاقات الحب وعلى الأسرة والمجتمع. ويقدم قراءة مقارنة للأسرة المعولمة والأسرة التقليدية التي استمرت لعقود طويلة.
لا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نتهم العولمة بخلق هذا النوع من الحب ولا أن نتهم جائحة كورونا -سنرى دورها-. وهذا ما يقره الألماني بقوله في ص 39 ما نصه: "مثل هذه الوقائع عن قصص الحب.. كانت موجودة في العصور القديمة..". نعم كانت موجودة وتاريخنا العربي شاهد على ملاحم الحب عن بعد.
حين يمر الشاعر العربي الذي امتلأ قلبه صفاء وروحه سمواً وأضحت عاطفته تحرك لسانه فيقرض من الشعر ما شاء الله أن يقرض، ويروح يفخر بنفسه وعشيرته ويبدي محاسنه، كل ذاك صورة من صور الغزل، وليس الفخر سوى طريق نحو قلب الحبيب.
يقول الدكتور الأديب السوري شكري فيصل "تطور الغزل بین الجاهلیة والإسلام" ص 179: "یکون موضوع الغزل فی العصر الجاهلي المرأة التي کانت شیئاً هاماً في حیاة البادیة، أثرت هذه البیئة في طبع الشعراء وهم تحدثوا عن الوشاة والغزل والحب والفراق والطیف والأطلال..".
الحب والفراق والأطلال، الثلاثي الذي لا يفترق عند الشاعر الجاهلي، فهو واقع في الحب لا خلاص له، وضحية للفراق وعذاباته، وواقف على الأطلال باكيا أصحابه. وفي هذا يقول طرفة بن عبد في مطلع قصيدته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
بروضة دعمي فأكناف حائلٍ
ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغدِ
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسىً وتجلدِ
ونحن نلاحظ حضور الثلاثي في مطلع معلقة طرفة كما نجدها عند أمرئ القيس وعنترة وغيرهم من السبعة المعروف شعرهم.
لطالما ارتبط الحب بالفراق. ولطرافة الصدفة فإن معنى اثنين في الألمانية -حسب باومان- يحيل أيضا على الفراق، ولطالما اشتكى العشاق من الفراق فراحوا يندبون حظهم العاثر الذي فرق بينهم وبين من يحبون، وبدا لهم لو يطوون الجبال طياً والبحر يفلقونه كي يعانقوا الأحبة، وكم هي قصص الحب التي دمرها الفراق والبعد وكم سهرت العيون وما جاءها النوم ألما من فرقة الحبيب وشوقاً للقياه، وفي هذا يقول مجنون ليلى في قصيدته "المؤنسة":
وأن الذي أمّلتُ يا أم مالك
أشاب فويدي واستهان فؤاديا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
فهو لم يكن يحسب الأيام بل قد يقضي الواحد منا أسبوعا أو أكثر -خاصة مع كورونا- لا يعرف يومه ولا ليله، ولكنه لفراق الحبيب يعد الأيام والليالي وربما الساعات، وكل أمانيه تتلخص في رؤية الحبيب الذي طال غياب وبَعُدَ لقاؤه وزاد حبه في القلب.
وقد قص عليّ من أحسبه على خير أن أحد سكان حيه هاجر إلى فرنسا بطريقة غير شرعية، ولما مكث ما شاء الله، وصلته رسالة من حبيبته التي تركها في حيه ورحل دونها مع أحد معارفه، فلما قرأها سأله صاحبه عما إذا كان يريد أن يكتب لها رسالة هو الآخر وإذا أراد ذلك فليفعل ويرسلها معه، فهو سيعود مرة أخرى إلى المغرب، فماذا كان جواب العاشق الذي لم يمكث طويلا؟ قال له "هذي خصها وصلَ بالرجل"، أي ما معناه "هذه المهمة لا تحتاج رسالة بل عودة إلى البلاد"، وهذا ما فعل وعاد أدراجه تاركاً حلم الطفولة ومستقبلا زاهراً ربما يحصله في فرنسا الأنوار ليستقر في مدينته "فكيك"، بالجنوب الشرقي للمغرب، من أجل عيون محبوبته.
نعم قد يفعل المرء أكثر من هذا لأجل من يحب، إن الحب عن بعد وإن ارتبط اليوم بالعلاقات الغرامية العابرة والزيجات التي تجمع بين الفرنسية والمغربي والإيراني والإسبانية، فإنه شكل قديماً ويشكل لليوم وخاصة في زمن كورونا ملحمة حقيقية، تتصارع فيها العواطف الجياشة مع الظروف الطبيعية والاجتماعية، فرغم أن كورونا فرض نوعاً من التباعد الاجتماعي إلا أنه لم ينكر على الأحبة حبهم ولا فرق بينهم، بل إن الحب لا تفرقه المساحات ولا الثقافات، فهو أعظم من ذاك بكثير.
إن أسئلة كثيرة تطرح نفسها في زمن لا تتوقع نهاية أيامه، ولو أن الحب عن بعد أضحى واقعاً والتباعد الاجتماعي بات ضرورة، فإن الحب سيفقد لذته التي تكمن في ازدياد لوعة الحب التي تغذيها فكرة عودة الحبيب، وستطفو على السطح أشكال جديدة منه، ربما غير متوقعة.
يجب أن نؤكد في الختام أن الحب الذي نكتب عنه هو ذاك الصافي نبعه، الخير والصلاح غايته، لا ذاك المدنس الذي يبغي صاحبه نفع بهيميته ولو على حساب إنسانيته.
إذا ما ما حللنا عواطف الناس وجدنا أن العواطف تنقسم إلى قسمين، هما: الحب والكراهية، وما الكراهية سوى صورة سلبية عن الحب (الفكر الفلسفي والاجتماعي، وهيب جرجس، ص142)، والكاتب لا يقصد بالحب ما نعرفه أو ما نحب أن نعرفه "علاقة بين رجل وامرأة"، بل يتعداه بمراحل، فالأمومة حب والشفقة وغيرهما حب.
وفي كتابه "فن الحب"، يرى إريك فروم أن الحب هو الجواب الصحيح عن مشكلة الوجود البشري، لو أننا أدركناه وفهمناه بطريقة صحيحة باعتباره اهتماماً بحياة الآخرين وشعوراً بأننا جزء من كل، وأن نشترك في العمل من أجل سعادة الآخرين.
إذاً لا مناص لنا من الحب، فبه نحيا ودونه نذبل وتذهب ريحنا، وننسى كأننا لم نكن، والمرء لا يخاف موته بالقدر الذي يخاف فيه من أن ينسى ولا تكون له ذكرى يذكر بها ولو من شخص أو شخصين، ولهذا فنحن آلة تتحرك بزيت الحب وتتعطل دونه.
مع ما يعرفه العالم من تحولات على كافة المستويات عرف الحب هو الآخر تحولاً مهماً، فعلاقات الحب تغيرت وتبدلت، ولن نجازف إذا قلنا إن الحب فقد الكثير من قيمته وباتت للحب نسخ مزورة لا تصنع في الصين، ولكنها في كل شبر من المعمورة. وأخذ نوع جديد منه يطفو: "الحب عن بعد"، فهل هو جديد فعلاً؟ وما هو هذا الحب عن بعد وكيف يبدو؟
لعل القارئ إذا ما قرأ "الحب عن بعد" سيتذكر لزاماً مسرحية اللبناني الكبير "أمين معلوف"، كتاب الألماني "أولريش بك"، كلاهما يحملان العنوان نفسه، ويختلفان في المتن، فالأول عبارة عن مسرحية تحكي قصة أمير فرنسي يائس يبحث لنفسه عن قصة ـ هدف، فيخبره أحدهم بوجود فتاة في مصر تشتاق لرؤيته وتنتظره بشغف كبير بعدما حدثها هو -الذي أخبره- عن الأمير الفرنسي ووسامته، فيقرر الأمير ركوب البحر والاتجاه نحو الإسكندرية للقاء حبيبته التي لم يرها من قبل ولكنها الأوهام تجتاحه والمخاوف تسكن قلبه فتعتل صحته ويذبل عوده ويقعده المرض ولا يفلح في الهناء بحبيبته إلا دقائق معدودات قبل أن تسلم روحه للبارئ عز وجل.
وأما الكتاب الآخر فهو يدرس دراسة مستفيضة الحب عن بعد أو الحب النائي، في عشرة فصول كاملة -أكثر330 صفحة-، وتأثير العولمة على علاقات الحب وعلى الأسرة والمجتمع. ويقدم قراءة مقارنة للأسرة المعولمة والأسرة التقليدية التي استمرت لعقود طويلة.
لا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نتهم العولمة بخلق هذا النوع من الحب ولا أن نتهم جائحة كورونا -سنرى دورها-. وهذا ما يقره الألماني بقوله في ص 39 ما نصه: "مثل هذه الوقائع عن قصص الحب.. كانت موجودة في العصور القديمة..". نعم كانت موجودة وتاريخنا العربي شاهد على ملاحم الحب عن بعد.
حين يمر الشاعر العربي الذي امتلأ قلبه صفاء وروحه سمواً وأضحت عاطفته تحرك لسانه فيقرض من الشعر ما شاء الله أن يقرض، ويروح يفخر بنفسه وعشيرته ويبدي محاسنه، كل ذاك صورة من صور الغزل، وليس الفخر سوى طريق نحو قلب الحبيب.
يقول الدكتور الأديب السوري شكري فيصل "تطور الغزل بین الجاهلیة والإسلام" ص 179: "یکون موضوع الغزل فی العصر الجاهلي المرأة التي کانت شیئاً هاماً في حیاة البادیة، أثرت هذه البیئة في طبع الشعراء وهم تحدثوا عن الوشاة والغزل والحب والفراق والطیف والأطلال..".
الحب والفراق والأطلال، الثلاثي الذي لا يفترق عند الشاعر الجاهلي، فهو واقع في الحب لا خلاص له، وضحية للفراق وعذاباته، وواقف على الأطلال باكيا أصحابه. وفي هذا يقول طرفة بن عبد في مطلع قصيدته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
بروضة دعمي فأكناف حائلٍ
ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغدِ
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسىً وتجلدِ
ونحن نلاحظ حضور الثلاثي في مطلع معلقة طرفة كما نجدها عند أمرئ القيس وعنترة وغيرهم من السبعة المعروف شعرهم.
لطالما ارتبط الحب بالفراق. ولطرافة الصدفة فإن معنى اثنين في الألمانية -حسب باومان- يحيل أيضا على الفراق، ولطالما اشتكى العشاق من الفراق فراحوا يندبون حظهم العاثر الذي فرق بينهم وبين من يحبون، وبدا لهم لو يطوون الجبال طياً والبحر يفلقونه كي يعانقوا الأحبة، وكم هي قصص الحب التي دمرها الفراق والبعد وكم سهرت العيون وما جاءها النوم ألما من فرقة الحبيب وشوقاً للقياه، وفي هذا يقول مجنون ليلى في قصيدته "المؤنسة":
وأن الذي أمّلتُ يا أم مالك
أشاب فويدي واستهان فؤاديا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
فهو لم يكن يحسب الأيام بل قد يقضي الواحد منا أسبوعا أو أكثر -خاصة مع كورونا- لا يعرف يومه ولا ليله، ولكنه لفراق الحبيب يعد الأيام والليالي وربما الساعات، وكل أمانيه تتلخص في رؤية الحبيب الذي طال غياب وبَعُدَ لقاؤه وزاد حبه في القلب.
وقد قص عليّ من أحسبه على خير أن أحد سكان حيه هاجر إلى فرنسا بطريقة غير شرعية، ولما مكث ما شاء الله، وصلته رسالة من حبيبته التي تركها في حيه ورحل دونها مع أحد معارفه، فلما قرأها سأله صاحبه عما إذا كان يريد أن يكتب لها رسالة هو الآخر وإذا أراد ذلك فليفعل ويرسلها معه، فهو سيعود مرة أخرى إلى المغرب، فماذا كان جواب العاشق الذي لم يمكث طويلا؟ قال له "هذي خصها وصلَ بالرجل"، أي ما معناه "هذه المهمة لا تحتاج رسالة بل عودة إلى البلاد"، وهذا ما فعل وعاد أدراجه تاركاً حلم الطفولة ومستقبلا زاهراً ربما يحصله في فرنسا الأنوار ليستقر في مدينته "فكيك"، بالجنوب الشرقي للمغرب، من أجل عيون محبوبته.
نعم قد يفعل المرء أكثر من هذا لأجل من يحب، إن الحب عن بعد وإن ارتبط اليوم بالعلاقات الغرامية العابرة والزيجات التي تجمع بين الفرنسية والمغربي والإيراني والإسبانية، فإنه شكل قديماً ويشكل لليوم وخاصة في زمن كورونا ملحمة حقيقية، تتصارع فيها العواطف الجياشة مع الظروف الطبيعية والاجتماعية، فرغم أن كورونا فرض نوعاً من التباعد الاجتماعي إلا أنه لم ينكر على الأحبة حبهم ولا فرق بينهم، بل إن الحب لا تفرقه المساحات ولا الثقافات، فهو أعظم من ذاك بكثير.
إن أسئلة كثيرة تطرح نفسها في زمن لا تتوقع نهاية أيامه، ولو أن الحب عن بعد أضحى واقعاً والتباعد الاجتماعي بات ضرورة، فإن الحب سيفقد لذته التي تكمن في ازدياد لوعة الحب التي تغذيها فكرة عودة الحبيب، وستطفو على السطح أشكال جديدة منه، ربما غير متوقعة.
يجب أن نؤكد في الختام أن الحب الذي نكتب عنه هو ذاك الصافي نبعه، الخير والصلاح غايته، لا ذاك المدنس الذي يبغي صاحبه نفع بهيميته ولو على حساب إنسانيته.