07 نوفمبر 2024
الحجاب وفوبيا الإسلام والعلمانية
ما إن رمى الباحث السوري، فراس السواح، جملته الرديئة على "فيسبوك"، أنّه لا يقبل صداقة المحجبات، لأن الحجاب يحجب العقل، حتى اندلعت حوارات "ثاراتٍ" كبيرة بين السوريين، وتخندق الجميع بين الإسلام فوبيا والعلمانية فوبيا. تيار الفوبيات هذا يعد الأفضل، حيث يناقش المسألة من زاوية رؤية فكرية، بينما هناك تيارات إقصائية، ومتطرّفة من الجهتين، ولا تقبل البين بين، حيث الرافضون للحجاب "علمانيّون"، والناظرون إلى ضرورته "إسلاميون". وكما في كل نقاش سوري، لا بد من الحديث عن الأقليات المتعلمنة "بالسفور"، والأكثرية الدينية المتحصّنة بالحجاب. في سورية، يرمي كثيرون بوجوهنا كل يوم هراءً كثيرا، وهو يعبّر عن رداءةٍ في فهم الواقع والفكر، ويرفض الاحتمالية في الفهم والمواقف، وطبعاً يتم تجاهل الواقع، والسباحة في الأوهام والذاتيات؛ فليس من تاريخٍ ومجتمع ينتمي إليه هذا النقاش! قصدنا هنا: أي نقاشٍ، وفي أيّة قضيةٍ، يجري بسياقٍ تاريخيٍّ محدّد، وربما يكون التعقيد التاريخي الذي نعيشه سبباً في التباساتٍ فكريةٍ كثيرة، وبأغلبية المجالات.
أي نقاشٍ عقلاني يتناول الديني، فهو يقترب من المقدّس، وبالتالي تلتصق به شبهة الشيطنة، وهي مشكلة كبيرة، وتستدعي، كما أصبح سائداً، تنويراً أو إصلاحاً في الدين. لا شك أن المقدّس يجب أن يُنزّه، وأن يُنقد ضمن دراسات عميقة للمقدّس ذاته. الدراسات هذه لا يمكن أن تتمّ، من دون أن يكون للعقل الحرية المطلقة في التفكير والبحث والاجتهاد. ولكن أيضاً، لماذا يطغى الحديث في المقدّس في بعض الأوقات، ويتراجع في أوقات أخرى. القراءة هنا، يُفترض أن تكون حرّة، ومن دون اشتراطات.
دارت في العقود الأخيرة نقاشاتٌ كثيرة بشأن الحجاب، وهل هو فرضٌ دينيٌ أم مسألة شخصية؟ المشكلة هنا أن هذا النقاش لا يهبط من عليائه إلى المجتمع، حيث اعتبر الحجابَ فرضاً دينياً،
وصار التقييم للنساء وللعائلات وفقاً لهذا الاعتبار. الردة الأصولية المتأتية على أثرِ إخفاق التنمية، والتطييف المجتمعي العام، تجيبنا عن قضية الفروض هذه، وهي لعبة الأنظمة أولاً، والإسلاميين ثانياً، وفي ذلك يتم تهميش، ومحاصرة وطرد ونفي وحملات كرهية، كل نتاج التنويريين والعلمانيين، ومهما كانت تصنيفاتهم الأيديولوجية والفكرية، بل والدينية.
لا أهتم بمن يعادي الدين من زاوية الإلحاد، حيث إن القائلين به لا ينتبهون إلى الأساس المجتمعي لكل أشكال الفكر والإيمان وعدمه، والتي تتصاعد أو تخفت وفقاً لهذا الأساس. أي أن قضية الإيمان من عدمه، أو التشدّد من عدمه، أو الميل نحو العلمنة من عدمه، مرتبطة بالنهوض المجتمعي، أو الفشل في التنمية والحداثة. هنا الأصل في النقاش، وليستوي بالأرض وبأنفاس الناس.
لن نستعيد كيفية إخفاق التنمية السورية، ومنذ السبعينيات خصوصا، ومحاربة كل التيارات الحداثية لصالح تطييف المجتمع. وقبالة ذلك، سيطرت أجهزة الأمن على مختلف أوجه الحياة السياسية والثقافية، وكذلك سيطرت مافيات الفساد والنهب على الاقتصاد، وتمَّ الفتك تدريجياً بالقطاع العام، وانهارت البنية الصناعية التي بُدئَ بها في تلك العقود. ومع التسعينيات، بدأت تصدر قوانين تحويل الدولة إلى دولة ليبرالية، وتحت ظل الاستبداد، ولصالح مافيات سلطوية أو تدور بفلكها، ولكن ذلك غَيّرَ من كل بنية الدولة المجتمع، ودفع المجتمع نحو التخلّع والتشظي والتذرّر طبقياً ودينياً وقومياً وطائفياً.
الدولة المحكومة أمنياً، ونظراً لمعرفتها العميقة بالتيارات الحداثية وخطورتها عليها، في طرح برامج ورؤى جديدة لإيقاف الفساد والنهب والاستبداد، ومطالباتها المستمرة ومنذ السبعينيات بالتحوّل الديمقراطي، كما كانت تؤكد المعارضة بكل أشكالها، دفعت المجتمع نحو التطييف كما ذكرنا، وطيّفت مؤسسات الدولة ذاتها بشكل خفي، وأوجدت بذلك وعياً طائفياً، ومظلومياتٍ دينية وطائفية، وبغياب أي حوار مجتمعي أو حريات أوّلية بسبب القمع، وكذلك وبغياب نقاش أزمة الثمانينيات، وما تركته من مشكلاتٍ وكوارث، فإن الواقع ازداد تدهوراً، وتطيّف الوعي بشكل كبير، بينما كانت التيارات المعارضة الحداثية تتحرّك في أطرٍ ضيقة، ومرصودة بشكل دقيق من أجهزة الأمن، وكذلك تراجعت النزعات الحداثية والعلمانية والعلمية في المجتمع.
تطيّف المجتمع السوري بشكلٍ حاد، لكن مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية كانت أيضاً ضاغطةً من أجل التغيير الاقتصادي والاجتماعي، أي تنازع الوعي التطييف، وكذلك ضغط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وأن كل فئات المجتمع متضرّرة، والأمر ليس مقتصراً على طائفة من دون الأخرى. على الرغم من ذلك، تنمذج الوعي، فهناك تطابق بين من يَنهب ومن يَحكم، وعكس ذلك، من يُنهب ومن يُحكم عليه، وبالتالي ازداد التطييف.
حساسية التطييف هذه حَوّلت كل حديث ناقد وله علاقة بالدين، ولو كان يخصّ قضايا اجتماعية أو مسائل بسيطة، إلى تصويره وكأنّه هجوم على المقدّس، وازدادت من جرّاء ذلك حملات التكفير أو التلويح بذلك "لدى المسلمين بكل مذاهبهم وطوائفهم وكذلك لدى المسيحيين". وبالتالي، وُجدت فجوات عميقة في المجتمع بين المؤمنين وغير المؤمنين، وكذلك بين أصحاب الرؤى الفكرية العلمانية والدينية، وحتى الذين يتبنّون رؤيةً عقلانيةً سقطوا بفخ الحملات تلك. وهو ما لوحظ في إطار الصراع السوري بين النظام والثورة، بل وبين تشكيلات المعارضة وقواها، وأيضاً في جمهور الموالاة؛ فليس من رأي آخر.
هناك قضية يستند إليها بعض المثقفين، وتنطلق من أن الأكثرية الدينية لم تحكم، ويجب أن يعود الحكم إليها، وترى أن أي تحوّل ديمقراطي سيقود، بالضرورة، هذه الأكثرية إلى الحكم،
وبالتالي يجب مراعاة حساسية هذه الأكثرية، والابتعاد عن كل نقد لها وللمقدّس، أو حتى تناول أيّة قضية لها علاقة بالديني. ويرى هذا التيار أن كل نقاش ينتقد حياة الأكثرية وقضاياها، ويرفض التقسيم الديني ذاته "أكثرية وأقليات"، يراهُ مصاباً بعُصاب الإسلام فوبيا.
تهمة الإسلام فوبيا، بدأت أخيرا تُستخدم كيفما كان، وطبعاً قبالتها هناك العلمانية فوبيا، حيث يتم تصوير كل نقد، كما ذكرت، وكأنّه تهجم على المقدّس أو الأكثرية، أو عكس ذلك، بما يخص العلمانية والأقليات، وبالتالي تُصم الآذان، وتُغلق العقول، وتَجفُ الأقلام عن أي جديد، وضمن ذلك، يصير التقييم أخلاقياً دينياً "شر خير"، ويسود التكفير، فالقتل.
فشل أهداف الثورة السورية، وتحوّل الواقع إلى حربٍ داخلية وإقليمية، وتطييف الحرب ذاتها، وعدم تغيّر النظام، ورفضه الاعتراف بدوره عن مأساة سورية، أقول كلّها عناصر تدفع نحو التشنج والتعصب والإقصائية والتكفير وكراهية الاتجاه الآخر. إذاً تسيطر على السوريين تيارات الإسلام فوبيا والعلمانية فوبيا. وبالتالي، يقع على المثقفين نقاش القضايا المشتركة وغير المشتركة بين السوريين.
طبعاً ما قاله فراس السواح خاطئ كلية، وهو ليس المدخل المناسب لنقاش ظاهرة الحجاب، وتحوله إلى فرض ديني، ورمز وقيمة أخلاقية، ولكن جملته السيئة لا تهدر قيمة أبحاث الرجل.
أي نقاشٍ عقلاني يتناول الديني، فهو يقترب من المقدّس، وبالتالي تلتصق به شبهة الشيطنة، وهي مشكلة كبيرة، وتستدعي، كما أصبح سائداً، تنويراً أو إصلاحاً في الدين. لا شك أن المقدّس يجب أن يُنزّه، وأن يُنقد ضمن دراسات عميقة للمقدّس ذاته. الدراسات هذه لا يمكن أن تتمّ، من دون أن يكون للعقل الحرية المطلقة في التفكير والبحث والاجتهاد. ولكن أيضاً، لماذا يطغى الحديث في المقدّس في بعض الأوقات، ويتراجع في أوقات أخرى. القراءة هنا، يُفترض أن تكون حرّة، ومن دون اشتراطات.
دارت في العقود الأخيرة نقاشاتٌ كثيرة بشأن الحجاب، وهل هو فرضٌ دينيٌ أم مسألة شخصية؟ المشكلة هنا أن هذا النقاش لا يهبط من عليائه إلى المجتمع، حيث اعتبر الحجابَ فرضاً دينياً،
لا أهتم بمن يعادي الدين من زاوية الإلحاد، حيث إن القائلين به لا ينتبهون إلى الأساس المجتمعي لكل أشكال الفكر والإيمان وعدمه، والتي تتصاعد أو تخفت وفقاً لهذا الأساس. أي أن قضية الإيمان من عدمه، أو التشدّد من عدمه، أو الميل نحو العلمنة من عدمه، مرتبطة بالنهوض المجتمعي، أو الفشل في التنمية والحداثة. هنا الأصل في النقاش، وليستوي بالأرض وبأنفاس الناس.
لن نستعيد كيفية إخفاق التنمية السورية، ومنذ السبعينيات خصوصا، ومحاربة كل التيارات الحداثية لصالح تطييف المجتمع. وقبالة ذلك، سيطرت أجهزة الأمن على مختلف أوجه الحياة السياسية والثقافية، وكذلك سيطرت مافيات الفساد والنهب على الاقتصاد، وتمَّ الفتك تدريجياً بالقطاع العام، وانهارت البنية الصناعية التي بُدئَ بها في تلك العقود. ومع التسعينيات، بدأت تصدر قوانين تحويل الدولة إلى دولة ليبرالية، وتحت ظل الاستبداد، ولصالح مافيات سلطوية أو تدور بفلكها، ولكن ذلك غَيّرَ من كل بنية الدولة المجتمع، ودفع المجتمع نحو التخلّع والتشظي والتذرّر طبقياً ودينياً وقومياً وطائفياً.
الدولة المحكومة أمنياً، ونظراً لمعرفتها العميقة بالتيارات الحداثية وخطورتها عليها، في طرح برامج ورؤى جديدة لإيقاف الفساد والنهب والاستبداد، ومطالباتها المستمرة ومنذ السبعينيات بالتحوّل الديمقراطي، كما كانت تؤكد المعارضة بكل أشكالها، دفعت المجتمع نحو التطييف كما ذكرنا، وطيّفت مؤسسات الدولة ذاتها بشكل خفي، وأوجدت بذلك وعياً طائفياً، ومظلومياتٍ دينية وطائفية، وبغياب أي حوار مجتمعي أو حريات أوّلية بسبب القمع، وكذلك وبغياب نقاش أزمة الثمانينيات، وما تركته من مشكلاتٍ وكوارث، فإن الواقع ازداد تدهوراً، وتطيّف الوعي بشكل كبير، بينما كانت التيارات المعارضة الحداثية تتحرّك في أطرٍ ضيقة، ومرصودة بشكل دقيق من أجهزة الأمن، وكذلك تراجعت النزعات الحداثية والعلمانية والعلمية في المجتمع.
تطيّف المجتمع السوري بشكلٍ حاد، لكن مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية كانت أيضاً ضاغطةً من أجل التغيير الاقتصادي والاجتماعي، أي تنازع الوعي التطييف، وكذلك ضغط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وأن كل فئات المجتمع متضرّرة، والأمر ليس مقتصراً على طائفة من دون الأخرى. على الرغم من ذلك، تنمذج الوعي، فهناك تطابق بين من يَنهب ومن يَحكم، وعكس ذلك، من يُنهب ومن يُحكم عليه، وبالتالي ازداد التطييف.
حساسية التطييف هذه حَوّلت كل حديث ناقد وله علاقة بالدين، ولو كان يخصّ قضايا اجتماعية أو مسائل بسيطة، إلى تصويره وكأنّه هجوم على المقدّس، وازدادت من جرّاء ذلك حملات التكفير أو التلويح بذلك "لدى المسلمين بكل مذاهبهم وطوائفهم وكذلك لدى المسيحيين". وبالتالي، وُجدت فجوات عميقة في المجتمع بين المؤمنين وغير المؤمنين، وكذلك بين أصحاب الرؤى الفكرية العلمانية والدينية، وحتى الذين يتبنّون رؤيةً عقلانيةً سقطوا بفخ الحملات تلك. وهو ما لوحظ في إطار الصراع السوري بين النظام والثورة، بل وبين تشكيلات المعارضة وقواها، وأيضاً في جمهور الموالاة؛ فليس من رأي آخر.
هناك قضية يستند إليها بعض المثقفين، وتنطلق من أن الأكثرية الدينية لم تحكم، ويجب أن يعود الحكم إليها، وترى أن أي تحوّل ديمقراطي سيقود، بالضرورة، هذه الأكثرية إلى الحكم،
تهمة الإسلام فوبيا، بدأت أخيرا تُستخدم كيفما كان، وطبعاً قبالتها هناك العلمانية فوبيا، حيث يتم تصوير كل نقد، كما ذكرت، وكأنّه تهجم على المقدّس أو الأكثرية، أو عكس ذلك، بما يخص العلمانية والأقليات، وبالتالي تُصم الآذان، وتُغلق العقول، وتَجفُ الأقلام عن أي جديد، وضمن ذلك، يصير التقييم أخلاقياً دينياً "شر خير"، ويسود التكفير، فالقتل.
فشل أهداف الثورة السورية، وتحوّل الواقع إلى حربٍ داخلية وإقليمية، وتطييف الحرب ذاتها، وعدم تغيّر النظام، ورفضه الاعتراف بدوره عن مأساة سورية، أقول كلّها عناصر تدفع نحو التشنج والتعصب والإقصائية والتكفير وكراهية الاتجاه الآخر. إذاً تسيطر على السوريين تيارات الإسلام فوبيا والعلمانية فوبيا. وبالتالي، يقع على المثقفين نقاش القضايا المشتركة وغير المشتركة بين السوريين.
طبعاً ما قاله فراس السواح خاطئ كلية، وهو ليس المدخل المناسب لنقاش ظاهرة الحجاب، وتحوله إلى فرض ديني، ورمز وقيمة أخلاقية، ولكن جملته السيئة لا تهدر قيمة أبحاث الرجل.