الحزب الجمهوري وأميركا على مفترق طرق

04 مارس 2016
+ الخط -
مع انتهاء انتخابات "الثلاثاء الكبير" الحزبية التمهيدية الأميركية لاختيار مُرَشَّحَيْنِ رئاسيين عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي لانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يزداد المشهد في الحزب الجمهوري تعقيداً واستعصاء على الاستشراف. فمن الواضح، الآن، أن رجل الأعمال والعقارات، ومرشح التمرد داخل الحزب، دونالد ترامب، قد عزّز حظوظه في سياق سعيه إلى أن يكون مرشح الحزب الرئاسي، وذلك بفوزه في سبع من أصل إحدى عشرة ولاية، جرت فيها الانتخابات التمهيدية يوم الثلاثاء الماضي، وهو ما يجعل من مسألة إيقافه من "مؤسسة الحزب" أمراً صعباً، أو على الأقل، قد يكون ذلك بتكلفة عالية جدا على الحزب.
منذ أعلن ترامب ترشحه، جمهورياً، للتنافس على الانتخابات الرئاسية في يونيو/حزيران الماضي، والحزب يعيش حالة يصفها مراقبون كثيرون بـ"حرب أهلية" فيه. عملياً، وبعد فترة من التجاهل، على أساس أن ظاهرته لن تلبث أن تتبدّد من تلقاء نفسها، لم تترك "مؤسسة الحزب" طريقا لهزيمة ترامب وتهميشه في داخل الحزب، إلا واتبعتها، غير أن ذلك لم يزد إلا في مضاعفة حضور الرجل بين قواعد الحزب الحانقة على قيادته ونخبه التي ترى أنهم خانوا مبادئه. ومنذ أشهر، و"مؤسسة الحزب" تراقب، بفزع واندهاش، تساقط رموز محسوبين عليها في الانتخابات التمهيدية، فمن السناتور عن ولاية كارولاينا الجنوبية، ليندزي غراهام، مروراً بحاكم ولاية نيوجرسي، كريس كريستي، وصولاً إلى حاكم ولاية فلوريدا، جيب بوش، والذي كان ينظر إليه على أنه "المرشح المفترض" جمهورياً.. شخصيات كلها انهارت بطريقة مذلة أمام رجلٍ لم يتقلد منصباً سياسياً من قبل قط، وَيُجْمِعُ الغالبية على أنه ممثل يتقمص غضب القواعد الأكثر يمينيةً، والأقل تعليماً، في الحزب الجمهوري.
المفارقة الأكثر مرارة التي تجد "مؤسسة الحزب" نفسها فيها اليوم هو اضطرارها أن تفاضل بين مُرَشَّحَيْنِ، لمنافسة ترامب، لم يكونوا يوماً مُرَشَّحَيْها، بل وكانا حريصين على مهاجمتها والتبرؤ منها إلى وقت قريب، والحديث هنا عن السناتور عن ولاية تكساس، تيد كروز، والسناتور عن ولاية فلوريدا، ماركو روبيو. بل إن ليندزي غراهام كان قال يوماً إن الاختيار بين ترامب وكروز كالاختيار بين الموت بالرصاص أو بِالسُّمِّ، غير أن غراهام اليوم، وأمام التقدم الكبير الذي يحققه ترامب، وجد نفسه مضطراً إلى أن يفضل الموت بـ"سُمِّ" كروز على الموت بـ"رصاص" ترامب.
صحيح أن ترامب هو "العدو" المعلن لنخبة الحزب الجمهوري ومؤسسته، لكن هذا لا يجعل من كروز خياراً أفضل، سواء لناحية تطرف مواقف الرجل الأيديولوجية والسياسية، خصوصاً أنه ابن حركة التمرد داخل الحزب المعروفة بحزب الشاي، أم لناحية شخصيته الصفيقة المنفرة، إلى الحد الذي لم يجد شخصاً واحداً من زملائه الجمهوريين في مجلس الشيوخ يعلن استعداده لدعمه. ويوصف كروز من زملاء له في مجلس الشيوخ، من أعضاء حزبه، بـ"الكاذب"، وهو لم يفز إلى اليوم إلا بأربعة انتخابات تمهيدية من أصل خمسة عشر، وما يزيد في معضلته أنه، وباستثناء ولايتي تكساس (الولاية التي يمثلها في مجلس الشيوخ) وأوكلاهوما، لم يتمكن من تحقيق انتصاراتٍ في الولايات الجنوبية التي يُفترض أن فيها قاعدته الانتخابية التقليدية: الإنجيليون المحافظون. أما روبيو، الأقرب إلى "مؤسسة الحزب" اليوم، وخيار الضرورة لها، بعد تساقط الآخرين، فإن آماله في الفوز بالترشيح أمام ترامب ضئيلة، ذلك أنه لم يفز إلى اليوم إلا بولايةٍ واحدةٍ هي منيسوتا. الأدهى من ذلك أن استطلاعات الرأي تظهر أنه سيخسر، وبفارق كبير، أمام ترامب في انتخابات الولاية التي يمثلها في مجلس الشيوخ، وهي فلوريدا، ما يعني نظرياً، انتهاء فرصه في الاستمرار في الانتخابات التمهيدية. وستجري انتخابات فلوريدا في الخامس عشر من الشهر الجاري.
في المقابل، يحقق ترامب انتصارات متوالية، في الشمال، كما في ماساتشوستس وفيرمونت.
وفي الغرب، كما في نيفادا، وفي الجنوب، كما في ألاباما وجورجيا.. إلخ، ويبدو أن آمال وقف قطار حملته تتبدد، اللهم إلا لناحية محاولة منعه من الحصول على عدد المندوبين المطلوب، وهو 1237، وبالتالي، حسم الأمر في المؤتمر العام للحزب في يوليو/تموز المقبل في كليفلاند/أوهايو. ولكن، ما بين الآمال والواقع بون شاسع، ذلك أن "مؤسسة الحزب" ما زالت عاجزة عن إقناع المرشحين المتبقين، وهم: كروز وروبيو، وحاكم ولاية أوهايو، جون كيسيك، التوافق على مرشح بينهم، فكل واحد منهم يصرّ على أنه المرشح الأقوى للتصدي لترامب وهزيمته، في حال إفساح المُرَشَّحَيْنِ الآخرين الطريق له. وثمّة من يجادل اليوم من داخل الحزب الجمهوري، أنه قد يكون من الأفضل للحزب الإبقاء على المرشحين الثلاثة المنافسين لترامب، على أمل تشتيت الأصوات، ومنع ترامب من الحصول على عدد المندوبين الكافي، قبل المؤتمر العام للحزب.
أمام واقع "الحرب الأهلية" في الحزب الجمهوري، ثمة، اليوم، في "مؤسسة الحزب"، من يطرح خيار تشكيل حزبٍ ثالث يُقَدَّمُ من خلاله مرشحاً محسوباً على "مؤسسة الحزب"، ويمثل غطاء للمترشحين لانتخابات الكونغرس في الوقت نفسه، ثمَّ يعودون بعد الانتخابات إلى الانضواء تحت راية الحزب الجمهوري. حجة هؤلاء، ومن ضمنهم السناتور عن ولاية نبراسكا، بن ساسي، وحاكم ولاية ماساتشوستس، شارلي باركر، والكاتب المحافظ، وليام كريستول، أن ترامب سيقود الحزب إلى هزيمةٍ ساحقة في الانتخابات العامة أمام المرشحة الديمقراطية، "المفترضة"، هيلاري كلينتون، جرّاء خطابه المستفز الذي استعدى الأقليات عموماً، وتحديداً ذوي الأصول اللاتينية، والسود، والمسلمين، وكثيراً من المستقلين والمعتدلين والنساء والمعاقين.. الخ.
المشكلة أن كل الخطط التي يتم تداولها داخل "مؤسسة الحزب" الجمهورية، لن تكون بلا ثمن باهظ. فسواء حسمت الانتخابات في المؤتمر العام، عبر مؤامرة على ترامب، أم توجه بعض قادة "المؤسسة" إلى خيار الحزب الثالث، فإن هذا سيعني مزيداً من الفوضى داخل الحزب، وربما نهاية له كما نعرفه اليوم. ما يؤكد هذا المعطى أن غالب أنصار ترامب يؤكدون أنهم سيصوتون له، في حال ما اختار هو أن يترشح مستقلا، أو عن حزبٍ ثالث، وهذا، في الغالب، سيعني خسارة الجمهوريين انتخابات الرئاسة على الأقل في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
باختصار، يقف الحزب الجمهوري، اليوم، على أعتاب مرحلة جديدة قد تعيد صياغته، وقد تؤدي إلى انقسامه ما بين يمين متطرف ووسط، وإضعافه إلى الأبد، مؤذنة بذلك بنهاية عصر الحزبين المسيطرين في أميركا، وبالتالي، تغيير ديناميكيات الحياة السياسة الأميركية نفسها.