وتسعى جهات عدة للسيطرة على محافظة الحسكة التي تشكّل صورة مصغرة عن سورية كلها. هي تضم مختلف مكوّنات الشعب السوري من عرب وكرد وسريان وآشوريين. وتأتي في مقدمة المحافظات السورية من ناحية الأهمية الاقتصادية نظراً لكونها محافظة زراعية بامتياز. تنتج أهم المحاصيل الاستراتيجية، خصوصاً القمح والشعير والقطن والعدس. كما تضم أرضها أهم آبار البترول، فضلاً عن كونها ممرّاً تاريخياً لغالبية الحضارات الإنسانية على مرّ التاريخ.
وفي العام الماضي، حاول تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) جاهداً إحكام قبضته عليها. وكاد أن يستولي على مجملها لولا تدخل التحالف الدولي الذي صدّ طيرانه التنظيم عن مناطق مهمة في المحافظة، التي تأتي في مقدّمة المحافظات السورية من حيث كبر المساحة إذ تقدّر بـ 23334 كيلومتراً مربعاً، وبعدد سكان يبلغ نحو مليون و400 ألف نسمة.
ليس هناك احصائيات رسمية يمكن الركون إليها بالنسبة لعدد الأكراد والعرب في الحسكة، حيث يتمسك كل طرف بكونه الغالبية في المحافظة. ويشير الناشط الإعلامي عبد الله الأحمد إلى أن العرب يشكلون غالبية في المحافظة بنسبة تصل إلى 70 في المائة، بينما تبلغ نسبة الأكراد 17 في المائة، والبقية سريان وآشوريون. فيما يؤكد الكاتب أحمدي موسي أن نسبة الأكراد في الحسكة كانت 65 في المائة في عام 2011، تقلصت إلى 30 في المائة نتيجة الهجرة.
وشهدت الحسكة أخيراً تطورات عسكرية مهمة، إذ بدأ الروس والأميركيون بإنشاء قواعد عسكرية على جغرافيتها. وذكرت مصادر إعلامية أنّ الروس بصدد إنشاء قاعدة عسكرية في مطار مدينة القامشلي. من جهتها أكدت مصادر أخرى، ومنها معهد "ستراتفور" للتحليلات الأمنية، أن وزارة الدفاع الأميركية، شرعت بالفعل في تهيئة مطار كان مهجوراً في بلدة رميلان الغنية بالبترول، وهو لا يبعد سوى نحو 50 كيلومتراً عن مطار القامشلي. ونشر المعهد صوراً التقطت بواسطة أقمار صناعية توضح أن واشنطن تمدّ المدرج من سبعمائة متر إلى ألف وثلاثمائة متر.
خارطة السيطرة
وتسيطر على أراضي المحافظة اليوم ثلاث قوى هي: النظام ووحدات (حماية الشعب) الكردية، وتنظيم "داعش". ويفصّل الصحافي السوري كنان سلطان في حديثه لـ"العربي الجديد" مناطق السيطرة بين هذه الأطراف، ويقول: "ينحصر وجود النظام في مدينتي الحسكة والقامشلي؛ إذ يتواجد في مركز مدينة الحسكة والفروع الأمنية بالإضافة إلى أحياء غويران، والنشوة الشرقية، والقضاة، وتلة كوكب شرقي الحسكة، والأخيرة تعدّ أحد أهم مواقعه العسكرية". ويضيف سلطان الذي يقيم في المحافظة: "أما في القامشلي، فيتواجد النظام في المربع الأمني وبعض سوق المدينة، وفوج طرطب من الجهة الجنوبية للمدينة، والمطار، ودوار زوري".
وعن أماكن نفوذ الوحدات الكردية، يقول سلطان إنها "تسيطر على الشريط الحدودي بين سورية وتركيا على امتداد المحافظة وصولاً الى الرقة، وتبدأ سيطرتها من معبر اليعربية شرقاً مع العراق ورميلان والجوادية والمالكية والقامشلي وعامودا والدرباسية وراس العين وتل تمر، وصولاً إلى أطراف جبل عبد العزيز الشمالية، وتمتد جنوباً إلى بلدة الهول شرقي الحسكة، بالإضافة إلى تل براك وتل حميس وصولاً إلى الحسكة (المدينة)، وتسيطر على الأحياء التي تشكل دائرة حول المدينة، بالإضافة الى الأحياء الشمالية كاملة، وجنوباً إلى أطراف الميلبية إلى تل تمر من المحور الجنوبي للمدينة."
وبحسب سلطان، لا يزال تنظيم (داعش) "يسيطر على أجزاء في الريف الجنوبي للحسكة، بدايةً من منطقة تل الجاير على الحدود العراقية، وصولاً إلى بلدة مركدة (جنوب الشدادي 45 كيلومتراً) ومنطقة أبيض غرباً، وبالتماس مع الوحدات الكردية، بحيث يشترك الطرفان ببعض المناطق في السيطرة خصوصاً جنوب مدينة الحسكة".
تحالف الأكراد والنظام
من جهة ثانية، تفتح العلاقة الملتبسة بين النظام والوحدات الكردية أبواب تساؤلات حول مستقبلهما ومستقبل سورية (دولة ووطناً) برمتها؛ فالوحدات في دائرة الاتهام بالتعاون والتنسيق، وتنفيذ أجندة النظام في المحافظة القائمة على "قهر" الأكراد والعرب على حد سواء، وسرب ناشطون وثائق تؤكد أن هناك تنسيقاً عالي المستوى بين الطرفين، خصوصاً من ناحية تزويد النظام للوحدات بالسلاح، وتدريب عناصرها على القتال.
وفي هذا الصدد، يقول الصحافي كنان سلطان إن "العلاقة بين الحليفين، وأعني النظام والوحدات الكردية، هي علاقة عضوية، إذ لا يمكن الفصل بين الجانبين؛ فالاتحاد الديمقراطي بات يشكل أحد أهم الفروع الأمنية والعسكرية للنظام"، لافتاً إلى أن هذا الفرع "يمتلك صلاحيات مطلقة، خصوصاً بالنسبة للأكراد". ويضيف: "يعتمد النظام على الوحدات الكردية في تأمين محافظة الحسكة بشكل مطلق، بعد الانسحابات التي نفذها لصالح الحزب مع بداية الثورة".
وقامت الوحدات الكردية بعمليات تهجير كبرى للعرب في عموم محافظة الحسكة، وهو ما يؤكّده الناشط عبدالله الأحمد في حديث لـ"العربي الجديد"، قائلاً إن العرب هُجروا قسراً من مناطق واسعة في رأس العين، وتل حميس، وتل براك.
من جهته، يقول الناشط الإعلامي يمان الحسكاوي إنّ النظام "قابع في مقرّاته، فيما تقوم الوحدات الكردية بتنفيذ ما يريد"، مشيراً في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن هذه الوحدات "تشبّح" على الأكراد والعرب " كل معارض لسياستهم، إما صار بالسجن، أو هرب خارج سورية".
غير أن مصادر في الوحدات الكردية، التي تعد القوة الضاربة فيما يعرف بقوات سورية الديمقراطية التي تضم فصائل عربية وتركمانية وتشكلت أواخر العام الماضي، نفت أكثر من مرة علاقتها بالنظام أو التنسيق معه. وفي هذا الإطار، قال المتحدث الرسمي باسم الوحدات، ريدور خليل، في تقرير بثته قناة روسيا اليوم منذ أيام، إن هذا التحالف "ما هو الا فبركة إعلامية لا أساس لها من الصحة".
وهاجر قسم كبير من سكان الحسكة داخل سورية وخارجها، خصوصاً طبقة الشباب إثر تطبيق الوحدات الكردية لنظام "التجنيد الإجباري"، وقيامها بتضييق الخناق على السكان، خصوصاً المعارضين للنظام. وتؤكد مصادر أن نسبة الهجرة لدى الأكراد هي الكبرى، إذ يوجّه أكثر من نصف الشباب الكردي في الحسكة أنظارهم نحو أوروبا، خصوصاً ألمانيا حيث توجد جالية كردية كبيرة فيها.
ويعتقد الكاتب السوري (الكردي) أحمدي موسى، أنه لم يبق مكون من مكونات الشعب السوري "إلا وأخذ حصته من الموت والتشرد"، معرباً في حديث مع "العربي الجديد" عن اعتقاده بأن العلاقة بين العرب والأكراد والمسيحيين في الحسكة لم تتأثر. ويضيف: "رغم أننا نلحظ بعض التوتر في العلاقة بين الأكراد والعرب، والحذر بين المسيحيين والأكراد، لكن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بقيت على حالها".
ويرى موسى أن "الاتهامات المتبادلة بين الأطراف إثر التفجيرات التي ضربت الحسكة أخيراً سحابة صيف ومرت". ويبدي خشيته من قيام "النظام الإجرامي بافتعال فتنة بين مكونات المحافظة، وهذا هاجس الجميع هنا".
أما الناشط ابراهيم مسلم (كردي) فيرى أنه "يجب الوقوف مع قوات سورية الديمقراطية من أجل دحر النظام، والإرهاب وبناء سورية ديمقراطية لكل السوريين"، معرباً عن اعتقاده في حديث مع "العربي الجديد" أنها (قوات سورية الديمقراطية) أفضل نموذج موجود في سورية، إذ إنها تضم كل المكونات.
أزمات تضرب "أرض الخير"
محافظة الحسكة ليست بعيدة عما يضرب المجتمع السوري من أزمات طاولت كل شيء فيه، إذ يشير الصحافي كنان سلطان إلى أن المحافظة تعاني من الكثير من الأزمات على المستوى المعيشي نتيجة الانفلات على مختلف الأصعدة، وغياب الرقابة. ويضيف أن الأهالي يعتمدون في معيشتهم على الإرساليات المالية من الخارج "حيث بات من المعروف وجود أعداد كبيرة من أبناء المحافظة خارجها عقب القرارات التي أصدرتها الإدارة الذاتية المتعلقة بالتجنيد والتعليم". ويؤكد سلطان أنّ هناك تراجعاً كبيراً في المستوى التعليمي عقب فرض منهاج تعليمي باللغة الكردية من قبل ما يُسمّى الإدارة الذاتية، كما يشهد القطاع الصحي تراجعاً في تقديم الخدمات، وبات يقتصر على الضروريات وسط ارتفاع كبير في أسعار الأدوية، وهذا السوء ينسحب على بقية الجوانب المتعلقة بحياة الناس اليومية.
محافظة الحسكة التي يصفها السوريون بـ"أرض الخير"، تترقب ما يحدث فيها وحولها، تخشى القادم المجهول، وعن مستقبلها يقول الصحافي السوري آلان حسن إنه "يتوقف على الحل السياسي السوري، أي أنه لا استقرار سياسياً وعسكرياً فيها، طالما بقي الوضع السوري علی ما هو عليه". ويضيف لـ"العربي الجديد": "ستتمتع بسلطات محلية فيها هامش معقول من الحرية، ولن يکون للمركز في دمشق السلطة کما في السابق".
ويخلص إلى القول إن "المجتمع يتجه من العيش المشترك إلی التعايش بفعل الانقسامات العمودية الحاصلة في سورية، لكن الحسكة ستحافظ علی أمنها بشكل جيد".