الحمْل الفلسطيني والولادة المستعصية

12 نوفمبر 2019
+ الخط -
فيما تنشغل النخب السياسية العربية بمتابعة حرائق سياسية عديدة مندلعة في مشرق العالم العربي ومغربه، وتستولي الحراكات والانتفاضات هنا وهناك على صدارة الاهتمامات الإعلامية، وتشد أبصار الرأي العام، تنشغل الطبقة السياسية الفلسطينية، وحدها هذه الأيام، بالحدث الانتخابي المقدّر له أن يقع في الربع الأول من العام المقبل، وسط فيضٍ من الترقب والتوجس وعدم اليقين، فضلاً عن الانتظار الذي طال مدة تجاوزت عقداً كالحاً. 
ولعل القلق المشروع الذي يعصف بالحالة الفلسطينية، ويستبدّ بها في هذه الآونة الحرجة، إزاء مسألة إجراء انتخابات عامة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، هو سيد الموقف بلا منازع لدى جميع المخاطبين بها، ومنبع الخشية المعتّقة من مغبّة سقوط الرهان من جديد، إن لم نقل الارتكاس على رؤوس الأشهاد، جرّاء ما يكتنف هذه العملية المعوّل عليها من مصاعب جمّة، وما يواجهها من تحدياتٍ حقيقية، لا سيما وأن الانتخابات هذه ليست مجرّد قرار داخلي محض، حتى في ظل التوافق التام، ولا هي في منأىً عن المؤثرات الخارجية المباشرة.
ومع أن الآمال بإجراء هذه الانتخابات قد ارتفعت، أكثر مما كانت عليه في السابق، بعد أن قبلت حركة حماس بهذا الاستحقاق الوطني من حيث المبدأ، من دون أن تعلن عن قبولها رسمياً بذلك، وقالت إنها جاهزة لها اليوم قبل الغد، إلا أن الحركة المهيمنة على غزة لا تزال تشاور نفسها، ولم تحسم أمرها تماماً، وبالتالي، لا تزال المخاوف من تراجعها المفاجئ، تحت أي ذريعة محتملة، قائمة بقوة، وخصوصا أن الإيماءات عن بعد، ومؤشرات عديدة على الأرض، تشي بأفعالٍ لا تعكس الأقوال.
وأحسب أن التنازل الوحيد الذي قدمته "حماس"، وأشاع قدراً من التفاؤل، وأدّى إلى ارتفاع سقف التوقعات، تمثل في قبولها العلني، أول مرة، بإجراء الانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية) على نحو غير متزامن، فيما بقيت جملةٌ طويلةٌ من المسائل الخلافية على حالها، مثل الاتفاق على نظام الانتخابات وقانونها ومحكمتها وشرطتها، ومن يشرف على صناديق الاقتراع، ومن يفرز نتائجها، ناهيك بالترتيبات والتوافقات والآليات والضمانات، وغيرها من المسائل الخلافية.
ويبقى، قبل ذلك وبعده، السؤال المتعلق بماهية الموقف الإسرائيلي من إجراء الانتخابات في القدس، وما إذا كانت السلطة المحتلة قد كفّت عن الاستثمار في دجاجة الانقسام، تلك التي باضت الذهب الخالص في حِجر بنيامين نتنياهو ثلاثة عشر عاماً، فضلاً عن التساؤلات المشروعة عن موقف الفصائل والجماعات والمليشيات الرافضة مبدأ الانتخابات من أساسه، وعن قدرة الذراع الايرانية في غزة على التصعيد مع الاحتلال، وافتعال المواجهات، لتعطيل العملية، أو على الأقل عرقلتها.
في مقابل ذلك كله، تبدو الرغبة، المشفوعة بالتصميم، لدى التيار المركزي الفلسطيني على إجراء الانتخابات، رغبةً قويةً أكثر من ذي قبل، كونها باتت حاجةً فتحاويةً ملحّة، وممراً إجبارياً لعبور مرحلة تجديد النظام السياسي المترهل، وترميم البنية الذاتية للحركة الأم التي قادت الحياة الكفاحية والسياسية الفلسطينية عبر العقود الطويلة الماضية، الأمر الذي يرجّح المضي في هذه العملية، مهما كانت المصاعب شديدة، بما في ذلك استنكاف "حماس" عن المشاركة في اللحظة الأخيرة.
وعلى الرغم من أن المحاذير شديدة، والمخاوف من ظهور عقباتٍ مباغتة في الدقائق الخمس الأخيرة، سواء من الاحتلال أو من غيره، إلا أن المخاطر أشد من خيار الاستسلام للأمر الواقع، وأفدح من ترك عامل الزمن يفعل فعله في تقويض الحالة الفلسطينية، المهدّدة بالتآكل التدريجي، إذا ما ظل الحبل على الغارب، فيما يبدو خيار الانتخابات بديلاً ممكناً لإعادة التجديد والتصويب والتمكين، وربما إنهاء الانقسام، وتجويد الأداء العام.
ومع الإقرار بصعوبة المرحلة، وحراجة موقف الأطراف كافة، إزاء تحدّي إجراء الانتخابات العامة، إلا أن السؤال هو متى كانت المرحلة الفلسطينية سهلة وميسّرة؟ وفي أي زمنٍ كانت النتائج المرجوّة مضمونة سلفاً؟ فما بالك والخيارات القليلة أصلاً باتت أقل، والمخاطر الشديدة دائماً صارت أشد، حيث كان "الحَمْل" الفلسطيني عسيراً طوال الوقت، وكانت الولادة مستعصيةً على طول الخط، الأمر الذي يعزّز، على نحو موضوعي، ضرورة الاستجابة لتحدّي الانتخابات هذه، حتى وإن جرت من دون موافقاتٍ تلوح في الأفق منذ الآن.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي