قد تظن سكان مخيم جنين للاجئين مجانين، عندما تجدهم يعضّون أصابعهم ندماً على توسيع شوارع مخيمهم، بعد أن هدمته قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2002، وأعيد إعماره من جديد.
لكنه جنون عسكري منطقي، شرَّعه الخوف من وقوع المقاومين في فخ الانكشاف للجيش الإسرائيلي، لو جابهوه بالسلاح في أي معركة قادمة، بعد أن كانت أزقة المخيم الضيقة (التي صارت في بعض حاراته شوارع تتسع للدبابات الإسرائيلية)، أهم نقطة في ثباته لثلاثة عشر يوماً في معركة نموذجية، نشبت قبل ثلاثة عشر عاماً، وبُنيت على الكمائن والتنقل السري والاختباء والتضليل، كان المخيم يومها متاهة حقيقية لجيش لاحتلال.
وأكثر الناس فهماً لاختلاف المخيم اليوم عمّا كان عليه قبل معركة 2002، هم المقاومون الذين شاركوا فيها، ووقعوا في الأسر، ثم خرجوا في السنوات الأخيرة، ومنهم جهاد أبو الكامل، أمين سر حركة فتح في مخيم جنين، الذي قال لـ"العربي الجديد": "بدون شك، الطريقة التي أعيد فيها بناء المخيم، وإن كانت من ناحية اجتماعية جيدة، إلا أنها من ناحية عسكرية كارثة، ونحن نعرف أن إسرائيل فرضت شروطها في إعادة إعمار المخيم. فتوسيع الشوارع كان شرطاً إسرائيلياً، كلنا نعي هذه النقطة، كل المقاومين الذي عاشوا أحداث المعركة في حارات المخيم، وأهمها حارة الحواشين، يفهمون أضرار اختفاء الزقاق من ناحية عسكرية".
وكانت حارة الحواشين، في مركز مخيم جنين، معقلاً منيعاً للمقاومة قبل عام 2002، ولولا هذه الحارة لما سَطّر المخيم أسطورته الحربية في انتفاضة الأقصى. بتضاريسها المعقّدة، وبيوتها المتلاصقة، وأزقتها المتشابكة، كانت الحواشين بمثابة شبكة أنفاق فوق الأرض، تسقط عندها فعاليات الطائرات والدبابات، ويتوه كل من يدخلها لمحاربة أبناء المخيم فيها.
وإن كان كل الذين قابلهم مراسل "العربي الجديد" أجمعوا على أن درجة الأمان على المقاومة تناقصت بالنظر للطريقة التي أعيد فيها تشكيل حارة الحواشين، إلا أن لكل واحد منهم رؤية تختلف عن الآخر، حول أهم التغيّرات التي طرأت على المخيم الذي أقلق جيش الاحتلال الإسرائيلي وما زال.
فجهاد أبو الكامل يولي الأهمية للعنصر البشري، ويرى أن سقوط القيادات التي كانت تقود الكفاح المسلح، بين شهداء وجرحى وأسرى، هو الذي ترك فراغاً موجعاً في مخيمه من ناحية عسكرية.
يؤكد أبو الكامل، الذي دخل السجون الإسرائيلية عام 2004 وكان عمره 16 عاماً وأمضى فيها سبع سنوات، قبل أن يتحرر عام 2011، "غياب من يقوم بالمعركة، هشّم المقاومة أكثر من غياب تضاريس المعركة. اليوم هناك شباب بدون قيادة، لو تم تجميعهم وتوجيههم سيديرون حرباً أقوى من معركة نيسان 2002، بغض النظر عن غياب الأزقة. المقاوم هو الذي يخلق المناخ المناسب لنهجه".
أما محمد الطوباسي، الذي غاب عن المخيم 8 سنوات، قضاها في سجون الاحتلال، بعد أن شارك في معركة مخيم جنين ضمن إحدى المجموعات المقاومة في تلك الفترة، فأطلق تنهيدة عميقة قبل أن يجيب على سؤال: "ما الذي تغيّر في المخيم؟"، ليرد بعد صمت طويل بإجابة مختصرة، لكنها في صميم وجعه: "حارة الحواشين".
قبل أن يتكلم الطوباسي، لمعت عيناه من الذكرى "كنا في الحارات الأخرى، عندما تتم محاصرتنا، نهرب إلى حارة الحواشين، وفيها كان الأمان، كنت أحفظ الحارة شبراً شبراً، فيها ترعرعت، وبين زقاقها طاردني جنود الاحتلال وضيعتهم، قبل أن أقع في الأسر بعد هدم الحارة، عام 2002".
قطع الطوباسي حديثه، ونهض يصافح صديقه أحمد عويس، ثم تابع بهدوء: "خرجت من السجن عام 2010 ولم أجد حارة الحواشين. زمان كنا نمشي من هنا، من مقبرة الشهداء إلى حارة الحواشين التي تبعد كيلومتراً عنّا، دون ملامسة الأرض. نتسلل من بيت الى بيت، بفتح ثغرة في الجدران المتلاصقة، أما اليوم فالوضع تغيّر".
وأضاف الطوباسي: "الطريقة التي تمت بها إعادة بناء مخيم جنين، لا تسمح فقط للدبابة الإسرائيلية بالوصول إلى نقاط كانت حساسة بالنسبة لنا، بل يستطيع قناص إسرائيلي التمركز فوق الجبل المحاذي لمخيمنا، وقنص أي شيء في حارة الحواشين التي انكشفت بتوسعتها، بعد أن كانت، ببيوتها العالية المتلاصقة، ملاذا آمناً للمقاومين، يحتمون بها من الطائرات والدبابات".
وهكذا خسر مخيم جنين، من وجهة نظر مقاومين شاركوا في المعركة، نقطة مهمة من نقاط ثباته، ولا يستبعد المقاومون أن يحوّل جيش الاحتلال حارة الحواشين في مركز المخيم إلى قاعدة عسكرية في أي معركة قادمة، ومنها يوزع دباباته على بقية حارات المخيم، بعد أن كانت قاعدة ينطلق منها الفلسطينيون لضرب الاحتلال وإليها يعودون.
يقول المقاوم أحمد عويس: "هيكلية المخيم تغيّرت، لم يعد فيه نقطة آمنة. تَعمَّر المخيم بالشكل الذي لا يسمح أن تعود حارة الحواشين معقلاً للمقاومة. لقد بني المخيم على أساس أن تدخل الدبابة الإسرائيلية إلى مركزه وتخرج من أي جهة تريد".
ويتحدث سكان مخيم جنين عن خطة خبيثة، وضع الإسرائيليون لمساتهم عليها، وتمت بموجبها إعادة بناء نصف البيوت في حارة الحواشين، والنصف الآخر بني أيضاً ولكن في مكان آخر خارج الحارة، في ما يُعرف اليوم "بالمخيم الجديد".
ذاته جهاد أبو الكامل، كان من سكان حارة الحواشين، وبعد الإعمار وجد نفسه خارج الحارة،
في المخيم الجديد، بعد أن صار مكان بيته في حارة الحواشين شارعاً واسعاً.
لكن أبو الكامل متفائل أكثر من الطوباسي وعويس، إنه يشبّه المقاومة في مخيم جنين بالسيارة التي تعرضت لحادث بشع، ويقول بابتسامة واسعة: "لا يهم لو تدمرت السيارة، المهم أن يكون السائق بخير".
اقرأ أيضا:
عجائز مخيم جنين.. حسرة اللاجئات الفلسطينيات على ماضيهن
الأسير المحرر وائل النورسي: الشهداء قبل أمي
"الحصار".. مسرحية فلسطينية تُذكّر بالمُبعدين والمحاصرين
لكنه جنون عسكري منطقي، شرَّعه الخوف من وقوع المقاومين في فخ الانكشاف للجيش الإسرائيلي، لو جابهوه بالسلاح في أي معركة قادمة، بعد أن كانت أزقة المخيم الضيقة (التي صارت في بعض حاراته شوارع تتسع للدبابات الإسرائيلية)، أهم نقطة في ثباته لثلاثة عشر يوماً في معركة نموذجية، نشبت قبل ثلاثة عشر عاماً، وبُنيت على الكمائن والتنقل السري والاختباء والتضليل، كان المخيم يومها متاهة حقيقية لجيش لاحتلال.
وأكثر الناس فهماً لاختلاف المخيم اليوم عمّا كان عليه قبل معركة 2002، هم المقاومون الذين شاركوا فيها، ووقعوا في الأسر، ثم خرجوا في السنوات الأخيرة، ومنهم جهاد أبو الكامل، أمين سر حركة فتح في مخيم جنين، الذي قال لـ"العربي الجديد": "بدون شك، الطريقة التي أعيد فيها بناء المخيم، وإن كانت من ناحية اجتماعية جيدة، إلا أنها من ناحية عسكرية كارثة، ونحن نعرف أن إسرائيل فرضت شروطها في إعادة إعمار المخيم. فتوسيع الشوارع كان شرطاً إسرائيلياً، كلنا نعي هذه النقطة، كل المقاومين الذي عاشوا أحداث المعركة في حارات المخيم، وأهمها حارة الحواشين، يفهمون أضرار اختفاء الزقاق من ناحية عسكرية".
وكانت حارة الحواشين، في مركز مخيم جنين، معقلاً منيعاً للمقاومة قبل عام 2002، ولولا هذه الحارة لما سَطّر المخيم أسطورته الحربية في انتفاضة الأقصى. بتضاريسها المعقّدة، وبيوتها المتلاصقة، وأزقتها المتشابكة، كانت الحواشين بمثابة شبكة أنفاق فوق الأرض، تسقط عندها فعاليات الطائرات والدبابات، ويتوه كل من يدخلها لمحاربة أبناء المخيم فيها.
وإن كان كل الذين قابلهم مراسل "العربي الجديد" أجمعوا على أن درجة الأمان على المقاومة تناقصت بالنظر للطريقة التي أعيد فيها تشكيل حارة الحواشين، إلا أن لكل واحد منهم رؤية تختلف عن الآخر، حول أهم التغيّرات التي طرأت على المخيم الذي أقلق جيش الاحتلال الإسرائيلي وما زال.
فجهاد أبو الكامل يولي الأهمية للعنصر البشري، ويرى أن سقوط القيادات التي كانت تقود الكفاح المسلح، بين شهداء وجرحى وأسرى، هو الذي ترك فراغاً موجعاً في مخيمه من ناحية عسكرية.
يؤكد أبو الكامل، الذي دخل السجون الإسرائيلية عام 2004 وكان عمره 16 عاماً وأمضى فيها سبع سنوات، قبل أن يتحرر عام 2011، "غياب من يقوم بالمعركة، هشّم المقاومة أكثر من غياب تضاريس المعركة. اليوم هناك شباب بدون قيادة، لو تم تجميعهم وتوجيههم سيديرون حرباً أقوى من معركة نيسان 2002، بغض النظر عن غياب الأزقة. المقاوم هو الذي يخلق المناخ المناسب لنهجه".
أما محمد الطوباسي، الذي غاب عن المخيم 8 سنوات، قضاها في سجون الاحتلال، بعد أن شارك في معركة مخيم جنين ضمن إحدى المجموعات المقاومة في تلك الفترة، فأطلق تنهيدة عميقة قبل أن يجيب على سؤال: "ما الذي تغيّر في المخيم؟"، ليرد بعد صمت طويل بإجابة مختصرة، لكنها في صميم وجعه: "حارة الحواشين".
قبل أن يتكلم الطوباسي، لمعت عيناه من الذكرى "كنا في الحارات الأخرى، عندما تتم محاصرتنا، نهرب إلى حارة الحواشين، وفيها كان الأمان، كنت أحفظ الحارة شبراً شبراً، فيها ترعرعت، وبين زقاقها طاردني جنود الاحتلال وضيعتهم، قبل أن أقع في الأسر بعد هدم الحارة، عام 2002".
قطع الطوباسي حديثه، ونهض يصافح صديقه أحمد عويس، ثم تابع بهدوء: "خرجت من السجن عام 2010 ولم أجد حارة الحواشين. زمان كنا نمشي من هنا، من مقبرة الشهداء إلى حارة الحواشين التي تبعد كيلومتراً عنّا، دون ملامسة الأرض. نتسلل من بيت الى بيت، بفتح ثغرة في الجدران المتلاصقة، أما اليوم فالوضع تغيّر".
وأضاف الطوباسي: "الطريقة التي تمت بها إعادة بناء مخيم جنين، لا تسمح فقط للدبابة الإسرائيلية بالوصول إلى نقاط كانت حساسة بالنسبة لنا، بل يستطيع قناص إسرائيلي التمركز فوق الجبل المحاذي لمخيمنا، وقنص أي شيء في حارة الحواشين التي انكشفت بتوسعتها، بعد أن كانت، ببيوتها العالية المتلاصقة، ملاذا آمناً للمقاومين، يحتمون بها من الطائرات والدبابات".
وهكذا خسر مخيم جنين، من وجهة نظر مقاومين شاركوا في المعركة، نقطة مهمة من نقاط ثباته، ولا يستبعد المقاومون أن يحوّل جيش الاحتلال حارة الحواشين في مركز المخيم إلى قاعدة عسكرية في أي معركة قادمة، ومنها يوزع دباباته على بقية حارات المخيم، بعد أن كانت قاعدة ينطلق منها الفلسطينيون لضرب الاحتلال وإليها يعودون.
يقول المقاوم أحمد عويس: "هيكلية المخيم تغيّرت، لم يعد فيه نقطة آمنة. تَعمَّر المخيم بالشكل الذي لا يسمح أن تعود حارة الحواشين معقلاً للمقاومة. لقد بني المخيم على أساس أن تدخل الدبابة الإسرائيلية إلى مركزه وتخرج من أي جهة تريد".
ويتحدث سكان مخيم جنين عن خطة خبيثة، وضع الإسرائيليون لمساتهم عليها، وتمت بموجبها إعادة بناء نصف البيوت في حارة الحواشين، والنصف الآخر بني أيضاً ولكن في مكان آخر خارج الحارة، في ما يُعرف اليوم "بالمخيم الجديد".
ذاته جهاد أبو الكامل، كان من سكان حارة الحواشين، وبعد الإعمار وجد نفسه خارج الحارة،
في المخيم الجديد، بعد أن صار مكان بيته في حارة الحواشين شارعاً واسعاً.
لكن أبو الكامل متفائل أكثر من الطوباسي وعويس، إنه يشبّه المقاومة في مخيم جنين بالسيارة التي تعرضت لحادث بشع، ويقول بابتسامة واسعة: "لا يهم لو تدمرت السيارة، المهم أن يكون السائق بخير".
اقرأ أيضا:
عجائز مخيم جنين.. حسرة اللاجئات الفلسطينيات على ماضيهن
الأسير المحرر وائل النورسي: الشهداء قبل أمي
"الحصار".. مسرحية فلسطينية تُذكّر بالمُبعدين والمحاصرين