الحويني الذي يأكل الطعام!

18 فبراير 2020
+ الخط -
أذاعت فضائيات مصرية مقطعيْن يوتيوب للشيخ السلفي أبو إسحاق الحويني، يتحدث فيهما عن ندمه على أخطاء الماضي، في الكتابة والتحقيق، وعدم معرفته بدرجات الحكم الشرعي، واعتقاده أن كل ما يصل إليه من سنن هو بالضرورة واجب، وهو ما أثار ضجةً ونقاشات، عن ندم الشيخ، واعتذار الشيخ. وعلى الجانب الآخر، تواضع الشيخ، وعظمة الشيخ، وحلاوة الشيخ وجماله. الكلام عادي، في مجمله، فلماذا الصخب والاحتراب حول التخريب الذي لن يمحوه اعتذار، والعظمة والفخار اللذيْن يؤكدهما الاعتذار؟
قد يكون الكلام عاديا بالنسبة للبشر، لكنه ليس كذلك بالنسبة للسلفيين، كلام الشيخ "انقلابٌ" في الصورة الذهنية. الحويني ليس فردا، بل تيار، حين يُفتي يضيع أعمارا، يمحو ماضيها، ويؤمّم مستقبلها. كم من فتياتٍ لم يكملن تعليمهن الجامعي، لأن الحويني أفتى بأن التعليم المختلط حرام. هكذا يعلن الشيخ بنفسه في أحد دروسه، يتفاخر بأن أم إحداهن جاءته تتوسّل أن يعيد النظر في فتواه حتى لا يضيع مستقبل ابنتها، فيرفض، ويخبرها إن كلامه دين، لا يملك تغييره!
الشيخ وأمثاله لا يتحكّمون بمصائر ملايين البشر بالعلم، أو بالدين، بل بالأسطورة التي تصنعها شبكات السلفية الأخطبوطية. آلاف، بل ملايين المنابر، والنوافذ، والخطب والدروس، والشرائط، والأسطوانات، والكتيبات، ودور النشر والمواقع الإلكترونية، والفضائيات، مئات الملايين من الدولارات النفطية، تنفقها دول وتتتبع مساراتها أجهزة، تدعمها وتغذّيها وتدفعها إلى خلق أساطير "الإسلام الصحيح"، وكل ما سواه باطل. "الفهم الصحيح" وكل ما سواه منحرف. "العقيدة الصحيحة" وكل ما سواها فاسد. "المنهج الصحيح" وكل ما سواه بدع وضلالات. "السبيل الوحيد" للنجاة، وكل ما سواه في النار. مدرسة الحويني ومنهجه وفكرته ودولته قائمة على تجريم الاختلاف، فالحق واحد، لن يخبروك بذلك بشكل واضح. في التنظير، يحضر المختلف، وفي الممارسة العملية لا يحضر غيرهم.
تحيط الأسطورة بكل شيخ سلفي، وفق قدرته على الإبداع، وقدرة طلابه على التصديق. الألباني يبشّر به النبي. في رؤيا إحداهن، الحويني يبشر به الألباني. محمد حسّان يبشر به خالد بن الوليد. والرؤيا لحسان شخصيا، يراها ويحكيها في المسجد، وسط تكبير الطلاب وتهليلهم، وهكذا.. تأتي التزكيات من السماء والأرض، فهم ليسوا مجرد علماء، بل هم "العلماء"، بألف ولام "العهد"، لغة، "الوهم"، حالا ومآلا، وسط ذلك كله من الصعب، بل من المرعب، أن يقول أحدهم لقد أخطأت، والحويني ليس أحدهم، الحويني أعلم أهل الأرض، هكذا يلقبه أتباعه ومريدوه، فإذا كان الأعلم لا يعلم، فكيف بالباقين؟
يعلن الشيخ عن بشريته، لو أعلنها غيره لسمع عن أمه وأبيه كلاما غير بشري، لكن الشيخ يتورّط، ويعلن بنفسه أنه بشر، يخطئ ويصيب، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، بالأحرى يأكل فقط، فالمشي في الأسواق ومخالطة العامة ينال من هيبة العالم. هكذا يقول الحويني في درس آخر. الشيخ تحرّكه الأهواء، والنزعات الدنيوية، وحب الشهرة، وحب الظهور، هكذا يقول. لو أكمل الشيخ، وأنصف، لقال إن أشياء أخرى تحرّكه وتتحكّم في رأيه، فتجعله نسبيا، بشريا، مخلوقا، متغيرا، قابلا للأخذ والرد. الانحيازات تؤثر، الخصومات تؤثر، النشأة تؤثر، البيئة تؤثر، التجربة تؤثر، الولاءات الأولى، فزاعات المحيط، مقتضيات التنافس، إكراهات التسييس، سلطة الجمهور، سلطة التراث، سلطة الحاكم، الخطأ، التقصير، الخوف، الضعف، كلها أشياء تنال من "قدسية" آراء الشيخ، المتخيلة، المتوهمة، المؤصّلة، الراسخة، تجعلها مجرّد آراء، لا دينا كما أخبر والدة الفتاة المسكينة التي تركت جامعتها من أجل فتواه. الاعتذار الحقيقي، إذا كان ثمّة اعتذار أصلا، هو إضاءة مساحات الإيهام عند الشباب وتفكيكها، التخلي عن التشنجات التبجيلية للآراء والأشخاص، التعامل مع الآخرين بوصفهم أصحاب آراء مختلفة ومقدّرة لا أصحاب بدع وضلالات وانحرافات. الاعتذار الحقيقي هو مد خط البشرية على استقامته، وفتح مزيد من النقاش عن بشرية السلفيين وأفكارهم، بشرية آراء السلف وأفكارهم، بشرية جهود البشر في أي زمان ومكان. الاعتذار الحقيقي هو النزول بالحويني، وكل حويني، من سماوات التقديس إلى الأسفلت.