04 نوفمبر 2024
الحُكَّام في أغاني الشيخ إمام
أنتَ مغنٍّ أيها الشيخ، فمالك والحكام؟ وهل كان موقفك صريحاً واضحاً من حُكّام عصرك؟.. أزعم، نعم، فنحن نجد في ما وصل إلينا من آثاركَ الغنائيِّة وأحاديثكَ الصحافيَّة ما يدل على مذهبكَ في هذه الشأن. فقد سخطتَ على ما رأيتَ من ظلم الحُكَّام واستهتارهم بالرَّعية وهضمهم حقوق البلاد والعباد. ويوم متَّ وضع رفاق دربكَ عنقوداً من العنب على قبركَ، لأنكَ عشتَ حياتكَ فقيراً جائعاً مشرَّداً مطارداً.
ها نحن ندخل معكَ أيها الشيخ الجليل في صراع مرير بين الحاكم والمحكوم، بين أغانيكَ الممنوعة وصوتكَ الذي يأتينا من زقاق "حوش قدم" في حيِّ الغورية في قلب قاهرة المعزِّ لدين الله، ولا ندري لماذا يذكِّرنا صوتكَ الحادي للضمير بالربيع كلَّما سمعناه، أنتَ الذي لم نسمع لكَ صوتاً إلّا وهو مضمَّخ بحشرجة العمر في خريفه. حشرجة أو بحَّة أو سعال لا يخلو منها تسجيل من تسجيلات حفلاتك، كانت تزعجكَ وتزعجنا وتزعج حُكَّامنا أيضاً.
وسرعان ما تعايشتَ أنتَ معها، وتعودنا نحن عليها، وما استساغها حُكَّامنا - أصلحهم الله - فمنعوكَ من الغناء، ثمَّ سجنوك. فأمعنتَ في السُّخرية وأسمعتنا قصيدة الشاعر الشعبي المصري مصطفى زكي "تسقيف" والتي يقول فيها: (الكلمة عفيفة وإنسانة، لا بتدخل تسكر ف الحانة، ولا ترضى الباب ف الاستانة، ولا تبقى ذليلة ومهانة، أو فرشة طرية ودفيانة، غير للشغيلة الشقيانة، الكلمة الصادقة بتتحول، وبتنزل ع الظالم دانة، ودمر عرشه اللي سبانا، وتخلي نهاره وليله مخيف)..
فإن غابت هذه البحَّة مرَّة، رحنا نبحث عنها بلهفة. قال لي ذات يوم صاحب "صوت بغداد" في ساحة السبع بحرات في حلب الشهباء في الشمال السوري مبتسماً مستبشراً: اسمع هذه التسجيل للشيخ - وكنا نبتاع تسجيلاتكَ من دكانه- عالجت صوته ونقيته قليلاً. قلتُ: لا يا سيدي، خلينا ع التسجيل القديم الذي يسعل شيخنا فيه "هو زيّ ما تقول توقيعي الشخصيّ"، هذا ما قلته لصاحبكَ الشاعر التونسي آدم فتحي الذي غنيت له: (لا تَبْـكِ فأحلامُ الصِغَرِ تمضي كالحُلْمِ معَ الفجرِ، وقريباً تَكْبُرُ يا ولـدي، وتٌريدُ الدمْعَ فلا يجْرِي) يردُّ الشاعر: كنّا نخبي أغانيك تحت معاطفنا، حيث توضع الممنوعات كي لا تُدركها أعين العسس، فإذا بلغنا مأمناً، اختلينا بك، مجتمعين، خاشعين، صاخبين، في تلك الحلقات الحميمة الشبيهة بالصلوات.
أرغب في القول إن ألحانك أيها الشيخ سهلة، مذهلة، تنسرب إلى النفس الإنسانية فتحييها، وإلى القلب فتوقده. اخترتَ من لحن الحياة تلك النغمات الباقيات عبر تاريخ طويل من كدح الإنسان وعذابه. إن هذا الانسياب العفوي للحن هو الذي يبعث الفرح في داخلنا. أعني أن هذا الانسياب العفوي يُطلق في داخلنا تحرراً، فتنتقل عدوى العفوية إلى داخلنا. إننا نستوعب الإيقاع، نستعيض به عن إيقاعنا اليومي، فنتحرر.
ها أنا أستمع إلى صوتك في قصيدة أحمد فؤاد نجم المشهورة: (شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الوتر جيت عملوا لك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت) تُنشد، تَروي، تَقصُّ، تعرض فنّاً نادراً وموهبة فذَّة في الأداء الصوتي. فما الذي يجعل ألحانكَ تلمس وجداننا بكل هذا العمق.. ألحانكَ أيها الشيخ تبدو، في أحد مستوياتها، سهلة مباشرة، ولكنها تترك أثراً عميقاً في نفوس مستمعيك.
ولو أردنا الاقتراب منكَ أكثر لذهبنا إلى تلك الأمسية الحلبية التي أحييتها في صالة معاوية في حيِّ الجميلية في المدينة السورية العريقة حلب الشهباء، مساء يوم الاثنين 5/11/1984.. كانت خشبة المسرح مُبهرة، جلستَ على كرسيّ من الخيزران متأبطاً عودكَ تخبط الأرض بقدمكَ اليُمنى خبطاً متواتراً، وعن يمينك جلس الفنان التشكيلي وضارب الإيقاع رفيق دربكَ محمد علي، وبين ركبتيه الطبلة المصرية الشهيرة يضبط إيقاع الغناء.
غصَّتْ صالة مُعاوية بالجمهور الذي أصبح أسيركَ تصنع به ما تشاء. كنتَ تترنم بفاليري جيسكار ديستان والست بتاعه كمان، ساخراً، متهكَّماً، تهكّم العارف بموروث شعبي تراكم في النفوس من ظلم الحُكَّام وقهرهم للعباد زمناً مديداً. سخرية لاذعة جعلتها جسراً ممدوداً بينكَ وبين مُحبيك.
تترك ديستان وتُمسك بتلابيب محمد أنور السادات تُغني من كلمات الشاعر المصري محمود الطويل، وقد كُتبتْ القصيدة قبل مقتل السادات بشهر واحد: (كان في بلادنا غول أنتيكـا، أسـود زي الليـل والهـم.. لأجل يبوس رجلين أمريكـا، يشفط عرق الناس والدم.. لما النار بتطـق فـي عينـه بفكـر محنـاش كاشفينه.. الرعشة في ايده ورجلينـه بسلامتـه فاكر نتخـم.. الكلب بيعبد أميركا، ويطاطي ولا مرة يشم.. ح يموت مدهول بالدم) وفعلاً مات مضرَّجاً بدمه.
ها نحن ندخل معكَ أيها الشيخ الجليل في صراع مرير بين الحاكم والمحكوم، بين أغانيكَ الممنوعة وصوتكَ الذي يأتينا من زقاق "حوش قدم" في حيِّ الغورية في قلب قاهرة المعزِّ لدين الله، ولا ندري لماذا يذكِّرنا صوتكَ الحادي للضمير بالربيع كلَّما سمعناه، أنتَ الذي لم نسمع لكَ صوتاً إلّا وهو مضمَّخ بحشرجة العمر في خريفه. حشرجة أو بحَّة أو سعال لا يخلو منها تسجيل من تسجيلات حفلاتك، كانت تزعجكَ وتزعجنا وتزعج حُكَّامنا أيضاً.
وسرعان ما تعايشتَ أنتَ معها، وتعودنا نحن عليها، وما استساغها حُكَّامنا - أصلحهم الله - فمنعوكَ من الغناء، ثمَّ سجنوك. فأمعنتَ في السُّخرية وأسمعتنا قصيدة الشاعر الشعبي المصري مصطفى زكي "تسقيف" والتي يقول فيها: (الكلمة عفيفة وإنسانة، لا بتدخل تسكر ف الحانة، ولا ترضى الباب ف الاستانة، ولا تبقى ذليلة ومهانة، أو فرشة طرية ودفيانة، غير للشغيلة الشقيانة، الكلمة الصادقة بتتحول، وبتنزل ع الظالم دانة، ودمر عرشه اللي سبانا، وتخلي نهاره وليله مخيف)..
فإن غابت هذه البحَّة مرَّة، رحنا نبحث عنها بلهفة. قال لي ذات يوم صاحب "صوت بغداد" في ساحة السبع بحرات في حلب الشهباء في الشمال السوري مبتسماً مستبشراً: اسمع هذه التسجيل للشيخ - وكنا نبتاع تسجيلاتكَ من دكانه- عالجت صوته ونقيته قليلاً. قلتُ: لا يا سيدي، خلينا ع التسجيل القديم الذي يسعل شيخنا فيه "هو زيّ ما تقول توقيعي الشخصيّ"، هذا ما قلته لصاحبكَ الشاعر التونسي آدم فتحي الذي غنيت له: (لا تَبْـكِ فأحلامُ الصِغَرِ تمضي كالحُلْمِ معَ الفجرِ، وقريباً تَكْبُرُ يا ولـدي، وتٌريدُ الدمْعَ فلا يجْرِي) يردُّ الشاعر: كنّا نخبي أغانيك تحت معاطفنا، حيث توضع الممنوعات كي لا تُدركها أعين العسس، فإذا بلغنا مأمناً، اختلينا بك، مجتمعين، خاشعين، صاخبين، في تلك الحلقات الحميمة الشبيهة بالصلوات.
أرغب في القول إن ألحانك أيها الشيخ سهلة، مذهلة، تنسرب إلى النفس الإنسانية فتحييها، وإلى القلب فتوقده. اخترتَ من لحن الحياة تلك النغمات الباقيات عبر تاريخ طويل من كدح الإنسان وعذابه. إن هذا الانسياب العفوي للحن هو الذي يبعث الفرح في داخلنا. أعني أن هذا الانسياب العفوي يُطلق في داخلنا تحرراً، فتنتقل عدوى العفوية إلى داخلنا. إننا نستوعب الإيقاع، نستعيض به عن إيقاعنا اليومي، فنتحرر.
ها أنا أستمع إلى صوتك في قصيدة أحمد فؤاد نجم المشهورة: (شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الوتر جيت عملوا لك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت) تُنشد، تَروي، تَقصُّ، تعرض فنّاً نادراً وموهبة فذَّة في الأداء الصوتي. فما الذي يجعل ألحانكَ تلمس وجداننا بكل هذا العمق.. ألحانكَ أيها الشيخ تبدو، في أحد مستوياتها، سهلة مباشرة، ولكنها تترك أثراً عميقاً في نفوس مستمعيك.
ولو أردنا الاقتراب منكَ أكثر لذهبنا إلى تلك الأمسية الحلبية التي أحييتها في صالة معاوية في حيِّ الجميلية في المدينة السورية العريقة حلب الشهباء، مساء يوم الاثنين 5/11/1984.. كانت خشبة المسرح مُبهرة، جلستَ على كرسيّ من الخيزران متأبطاً عودكَ تخبط الأرض بقدمكَ اليُمنى خبطاً متواتراً، وعن يمينك جلس الفنان التشكيلي وضارب الإيقاع رفيق دربكَ محمد علي، وبين ركبتيه الطبلة المصرية الشهيرة يضبط إيقاع الغناء.
غصَّتْ صالة مُعاوية بالجمهور الذي أصبح أسيركَ تصنع به ما تشاء. كنتَ تترنم بفاليري جيسكار ديستان والست بتاعه كمان، ساخراً، متهكَّماً، تهكّم العارف بموروث شعبي تراكم في النفوس من ظلم الحُكَّام وقهرهم للعباد زمناً مديداً. سخرية لاذعة جعلتها جسراً ممدوداً بينكَ وبين مُحبيك.
تترك ديستان وتُمسك بتلابيب محمد أنور السادات تُغني من كلمات الشاعر المصري محمود الطويل، وقد كُتبتْ القصيدة قبل مقتل السادات بشهر واحد: (كان في بلادنا غول أنتيكـا، أسـود زي الليـل والهـم.. لأجل يبوس رجلين أمريكـا، يشفط عرق الناس والدم.. لما النار بتطـق فـي عينـه بفكـر محنـاش كاشفينه.. الرعشة في ايده ورجلينـه بسلامتـه فاكر نتخـم.. الكلب بيعبد أميركا، ويطاطي ولا مرة يشم.. ح يموت مدهول بالدم) وفعلاً مات مضرَّجاً بدمه.