27 يونيو 2019
الخبز أم الديمقراطية؟!... سؤال الانقلابيين في السودان
نجحت ثورة ديسمبر في إزاحة نظام البشير الذي حكم البلاد عبر انقلاب عسكري مسنود من الجبهة الإسلامية لثلاثين عاماً، وبالرغم من شعارات الثورة التي تنادي بالحرية والسلام والعدالة وتطالب بنظام الحكم المدني والديمقراطية التي لم يوفرها النظام السابق، لكن يظل تفاقم الأزمة الاقتصادية هو العامل الحاسم الذي جعل قطاعات عريضة من الجماهير تنحاز للثورة مما عجل بسقوط النظام.
عندما نفذ البشير الانقلاب على الديمقراطية ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة والتي جاءت بُعيد ثورة إبريل المجيدة ضد النظام العسكري بقيادة النميري آنذاك، استغل الانقلابيون الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تعيشها البلاد حينها لتبرير جريمتهم التي أسموها "ثورة" ومن أولى أهدافها التي أعلنوها في بيان الانقلاب، الإنقاذ الاقتصادي، بالرغم من الحصار الاقتصادي المفروض على السودان بسبب رعاية البشير ونظامه للجماعات الإرهابية، إلا أن دعم حلفائه بالإضافة لعائدات النفط ضمنت له تدفق موارد مالية حسنت من الوضع الاقتصادي ومكنته من تثبيت أركان حكمه وحصنته ضد أي ثورة جوع محتملة، واستخدم معظم هذه الموارد لتقوية أجهزته الأمنية التي كانت تحظى بالنصيب الأكبر من هذه الموارد.
فقد نظام البشير معظم عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان باستفتاء شعبي، الذي كانت تقع غالبية حقول النفط على أراضيه مما أدخل البلاد في أزمة اقتصادية جديدة، حيث لم يستغل النظام موارد النفط التي كان يستحوذ عليها لتحقيق تنمية متوازنة في القطاعات الاقتصادية الأخرى.
تفاقمت الأزمة الاقتصادية عقب انفصال جنوب السودان وفرضت حكومة البشير المزيد من الضرائب والرسوم الجمركية وقامت بزيادتها لأكثر من مرة لتقليل عجز الموازنات السنوية، وقللت الدعم للعديد من السلع عدة مرات ورفعته بالكامل عن سلع أخرى، وأصبح عجز الموازنة في تزايد مستمر، وفشلت في توفير السلع الأساسية مثل الدقيق والوقود، فأصبح المواطن يقف في طوابير طويلة للحصول عليها، وفقدت العملة الوطنية الكثير من قيمتها، فقامت بتقليل عرض النقود مما أدى لأزمة شح في السيولة من العملة المحلية خلقت تشوهات في السوق بوجود سعرين مختلفين للسلع، سعر بالنقد وسعر بالتحويل البنكي، ودفعت أزمة شح السيولة بالقطاع المصرفي لحافة الانهيار وزاد التضخم بمعدلات مهولة.
عندما انطلقت شرارة الثورة المستمرة حتى الآن في مدينة عطبرة شمال السودان في ديسمبر من العام الماضي، بدأت بمسيرات احتجاج عفوية من المواطنين تطالب بتوفير الخبز بسبب الندرة الشديدة للدقيق في المدينة، ما خلق صفوفاً طويلة أمام المخابز وارتفعت أسعاره بمعدلات مضطردة، لكن التصدي العنيف لأجهزة الأمن للاحتجاجات أدى لتصاعدها وانتقلت لمعظم مدن السودان الأخرى التي تعاني من نفس المشكلات، ثم تحولت لثورة شاملة رفعت من سقف مطالبها حتى أسقطت النظام.
تعتبر ثورة ديسمبر الحالية هي الثورة الشعبية الثالثة في السودان التي تطيح بنظام عسكري، جميع هذه الثورات كان العامل الاقتصادي وتدني مستوى المعيشة عاملين حاسمين لنجاحها، أطاحت هذه الثورات بثلاثة عسكريين صعدوا لكرسي الحكم بعد انقلابهم على حكومات منتخبة، صمد العسكريون في السلطة لأكثر من خمسين عاماً، بينما لم تصمد كل الديمقراطيات في مجموعها لأكثر من عشر سنوات منذ استقلال السودان!
يصارع المجلس العسكري الحاكم في السودان قوى الحرية والتغيير الممثلة للثورة الشعبية ليستحوذ على أكبر نصيب من السلطة خلال المرحلة الانتقالية المقبلة، تسنده القوات العسكرية خصوصاً مليشيات الدعم السريع التي يقودها حميدتي الرجل القوي داخل المجلس العسكري، والذي أظهر أطماعاً في السلطة ويستقوي بالدعم السخي للسعودية والإمارات للمجلس الذي تقاتل قواته بجانبها في اليمن، حيث قامتا بتوفير الكثير من السلع ودعمت المجلس بالمال خلال فترة حكمه المؤقتة والممتدة حتى الآن لأكثر من شهرين قبل تسليم السلطة للمدنيين لإدارة المرحلة الانتقالية.
إدارة المرحلة الانتقالية بعد نقل السلطة للمدنيين والمراحل التي تليها ستمر بامتحانات صعبة بسبب الأزمة الاقتصادية المتجذرة والتدمير الكبير الذي لحق بكل القطاعات الاقتصادية والانتاجية خلال فترة حكم المخلوع البشير، والتي سيحتاج إصلاحها لبرنامج اقتصادي صارم وقاس يستمر لعدد من السنين، ومع توقع امتناع الدول الراعية للمجلس العسكري عن دعم السلطة المدنية، فهذا هو السيناريو الموضوع لتلك الدول لإعادة المجلس العسكري للسلطة عبر الانقلاب على المدنيين بحجة الانحياز للمواطنين الرافضين للتردي الاقتصادي.
إن الحكومة التي تفشل في توفير رغيف الخبز لمواطنيها دائماً ما تغري العسكر بالانقلاب عليها، مستغلين سخط الجماهير وتكاسلهم في الدفاع عن حكومتهم التي اختاروها، لكن سرعان ما يحرمهم الانقلابيون من الرغيف والديمقراطية معاً، ويتشبث العسكر بالسلطة ولا يمكن تغييرهم عبر صندوق الاقتراع، حتى تصل الجماهير لحافة الهاوية ونقطة اللا رجوع، فتثور على العسكر وتدفع فاتورة غالية من أجل التغيير.
يبقى الرهان على وعي الشعب السوداني الحارس والضامن لنجاح الثورة وقادة ثورته وأحزابه السياسية التي يجب أن تقرأ التاريخ وتأخذ منه العبر وتمنع تكراره، وحماية الثورة من أي اختطاف أو انقلاب عليها والتأسيس لنظام ديمقراطي ونظام حكم مدني دائم يفضي للتداول السلمي للسلطة، ويؤسس لتنمية اقتصادية مستدامة ويسخر موارد البلاد المعطلة لإنجاز هذه التنمية وتحسين معاش المواطنين ورفاههم ووضع حد لمسلسل الانقلابات العسكرية المستمرة منذ الاستقلال، والتي أقعدت بالبلاد ودمرت اقتصادها.
عندما نفذ البشير الانقلاب على الديمقراطية ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة والتي جاءت بُعيد ثورة إبريل المجيدة ضد النظام العسكري بقيادة النميري آنذاك، استغل الانقلابيون الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تعيشها البلاد حينها لتبرير جريمتهم التي أسموها "ثورة" ومن أولى أهدافها التي أعلنوها في بيان الانقلاب، الإنقاذ الاقتصادي، بالرغم من الحصار الاقتصادي المفروض على السودان بسبب رعاية البشير ونظامه للجماعات الإرهابية، إلا أن دعم حلفائه بالإضافة لعائدات النفط ضمنت له تدفق موارد مالية حسنت من الوضع الاقتصادي ومكنته من تثبيت أركان حكمه وحصنته ضد أي ثورة جوع محتملة، واستخدم معظم هذه الموارد لتقوية أجهزته الأمنية التي كانت تحظى بالنصيب الأكبر من هذه الموارد.
فقد نظام البشير معظم عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان باستفتاء شعبي، الذي كانت تقع غالبية حقول النفط على أراضيه مما أدخل البلاد في أزمة اقتصادية جديدة، حيث لم يستغل النظام موارد النفط التي كان يستحوذ عليها لتحقيق تنمية متوازنة في القطاعات الاقتصادية الأخرى.
تفاقمت الأزمة الاقتصادية عقب انفصال جنوب السودان وفرضت حكومة البشير المزيد من الضرائب والرسوم الجمركية وقامت بزيادتها لأكثر من مرة لتقليل عجز الموازنات السنوية، وقللت الدعم للعديد من السلع عدة مرات ورفعته بالكامل عن سلع أخرى، وأصبح عجز الموازنة في تزايد مستمر، وفشلت في توفير السلع الأساسية مثل الدقيق والوقود، فأصبح المواطن يقف في طوابير طويلة للحصول عليها، وفقدت العملة الوطنية الكثير من قيمتها، فقامت بتقليل عرض النقود مما أدى لأزمة شح في السيولة من العملة المحلية خلقت تشوهات في السوق بوجود سعرين مختلفين للسلع، سعر بالنقد وسعر بالتحويل البنكي، ودفعت أزمة شح السيولة بالقطاع المصرفي لحافة الانهيار وزاد التضخم بمعدلات مهولة.
عندما انطلقت شرارة الثورة المستمرة حتى الآن في مدينة عطبرة شمال السودان في ديسمبر من العام الماضي، بدأت بمسيرات احتجاج عفوية من المواطنين تطالب بتوفير الخبز بسبب الندرة الشديدة للدقيق في المدينة، ما خلق صفوفاً طويلة أمام المخابز وارتفعت أسعاره بمعدلات مضطردة، لكن التصدي العنيف لأجهزة الأمن للاحتجاجات أدى لتصاعدها وانتقلت لمعظم مدن السودان الأخرى التي تعاني من نفس المشكلات، ثم تحولت لثورة شاملة رفعت من سقف مطالبها حتى أسقطت النظام.
تعتبر ثورة ديسمبر الحالية هي الثورة الشعبية الثالثة في السودان التي تطيح بنظام عسكري، جميع هذه الثورات كان العامل الاقتصادي وتدني مستوى المعيشة عاملين حاسمين لنجاحها، أطاحت هذه الثورات بثلاثة عسكريين صعدوا لكرسي الحكم بعد انقلابهم على حكومات منتخبة، صمد العسكريون في السلطة لأكثر من خمسين عاماً، بينما لم تصمد كل الديمقراطيات في مجموعها لأكثر من عشر سنوات منذ استقلال السودان!
يصارع المجلس العسكري الحاكم في السودان قوى الحرية والتغيير الممثلة للثورة الشعبية ليستحوذ على أكبر نصيب من السلطة خلال المرحلة الانتقالية المقبلة، تسنده القوات العسكرية خصوصاً مليشيات الدعم السريع التي يقودها حميدتي الرجل القوي داخل المجلس العسكري، والذي أظهر أطماعاً في السلطة ويستقوي بالدعم السخي للسعودية والإمارات للمجلس الذي تقاتل قواته بجانبها في اليمن، حيث قامتا بتوفير الكثير من السلع ودعمت المجلس بالمال خلال فترة حكمه المؤقتة والممتدة حتى الآن لأكثر من شهرين قبل تسليم السلطة للمدنيين لإدارة المرحلة الانتقالية.
إدارة المرحلة الانتقالية بعد نقل السلطة للمدنيين والمراحل التي تليها ستمر بامتحانات صعبة بسبب الأزمة الاقتصادية المتجذرة والتدمير الكبير الذي لحق بكل القطاعات الاقتصادية والانتاجية خلال فترة حكم المخلوع البشير، والتي سيحتاج إصلاحها لبرنامج اقتصادي صارم وقاس يستمر لعدد من السنين، ومع توقع امتناع الدول الراعية للمجلس العسكري عن دعم السلطة المدنية، فهذا هو السيناريو الموضوع لتلك الدول لإعادة المجلس العسكري للسلطة عبر الانقلاب على المدنيين بحجة الانحياز للمواطنين الرافضين للتردي الاقتصادي.
إن الحكومة التي تفشل في توفير رغيف الخبز لمواطنيها دائماً ما تغري العسكر بالانقلاب عليها، مستغلين سخط الجماهير وتكاسلهم في الدفاع عن حكومتهم التي اختاروها، لكن سرعان ما يحرمهم الانقلابيون من الرغيف والديمقراطية معاً، ويتشبث العسكر بالسلطة ولا يمكن تغييرهم عبر صندوق الاقتراع، حتى تصل الجماهير لحافة الهاوية ونقطة اللا رجوع، فتثور على العسكر وتدفع فاتورة غالية من أجل التغيير.
يبقى الرهان على وعي الشعب السوداني الحارس والضامن لنجاح الثورة وقادة ثورته وأحزابه السياسية التي يجب أن تقرأ التاريخ وتأخذ منه العبر وتمنع تكراره، وحماية الثورة من أي اختطاف أو انقلاب عليها والتأسيس لنظام ديمقراطي ونظام حكم مدني دائم يفضي للتداول السلمي للسلطة، ويؤسس لتنمية اقتصادية مستدامة ويسخر موارد البلاد المعطلة لإنجاز هذه التنمية وتحسين معاش المواطنين ورفاههم ووضع حد لمسلسل الانقلابات العسكرية المستمرة منذ الاستقلال، والتي أقعدت بالبلاد ودمرت اقتصادها.