27 أكتوبر 2024
الخبز والسيادة الوطنية
استقبل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبل أيام في قصر الإليزيه مجموعة من الخبازين الرئيسيين في فرنسا، وقال في حديثه إليهم إن "التميز والخبرة يجب أن يحافظ عليهما. ولهذا ينبغي أن يدرج الخبز الفرنسي الطويل (الباغيت) في قائمة التراث الإنساني". باعتباره أصبح "موضع حسد العالم أجمع"، في محاولة إلى تشجيع إنشاء رابطة وطنية للخبازين.
يحق لكل شعب أن يفخر بمنجزه، وأن يسعى إلى حمايته باعتباره جزءا من هوية ثقافية راكمها تاريخ من التجارب. ولقد عملت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، المهتمة بالتراث الثقافي الإنساني، على إدراج أصناف عديدة من الخبز في لوائحها، فضمنت بذلك لبعض الشعوب حماية جانبٍ من هويتها الثقافية، كالبيتزا الإيطالية التي اقتحمت العولمة من بابها الأوسع، إذ لم يبقَ شعبٌ إلا ودخلت البيتزا مجال عاداته الطعامية، وصارت لها مطاعم متخصصة تبتكر أصنافًا جديدة للبيتزا، مثلما صارت تصنع في البيوت.
وهناك خبز الزنجبيل الكرواتي الذي صنفته "يونسكو" من التراث الثقافي المحمي، الخبز الذي ألهم الفنانين والمبدعين، حتى إن مسلسل رجل الزنجبيل للأطفال حقق شعبية واسعة، وترجم إلى لغات عدة، ومنها العربية. وبحسب إحصائيات "غوغل"، فإن عام 2012 هو من دون منازع عام "جنجربريد"، أو خبز الزنجبيل الذي أطلق في ديسمبر/ كانون الأول 2010، بوصفه نظام تشغيل، يتم من خلاله الولوج إلى متجر تطبيقات "غوغل". ليس هذا فحسب، بل صُمّم في مطار دبي مجسّم يختطف الأضواء لبرج خليفة، مصنوع من خبز الزنجبيل بارتفاع 14 متراً في فعالية "وينتر وندر لاند دبي"، باعتبار أننا، نحن العرب، كما تدّعي أنظمتنا، حداثيون، والحداثة من هذا القبيل لا تعدو أن تكون انبطاحًا للعولمة والأسر الثقافي، من دون أن يكون لنا مساهمتنا في إنتاج الثقافة.
الخبز الذي يعادل في معناه "العيش" لدى شعوبنا، بل إنه يحتكر معنى العيش لدى كثيرين، عندما يُقال عنه "العيش" بدلاً من الخبز، هو ضرورة حياتية، بل تكاد تكون الأولى لسدّ الرمق الذي يحافظ على نبض الحياة، صار من أهم أسلحة الحروب في بلداننا، وقبلها هو من أهم الأدوات التي تُروّض بها الأنظمة العاتية الجبارة الشعوب. فخلال سنوات سبع من الجحيم السوري، كان الحصار والتجويع سلاحًا، ليس قاتلاً فقط، بل مهينًا للكرامة البشرية، سلاح التجويع حتى التطويع الذي استخدمه النظام في حصاره المناطق المنتفضة، واستعملته المعارضة المسلحة في حصارها على المناطق المحسوبة على النظام أداة للضغط والمساومة، لم يأبه الطرفان بنفوسٍ تكابد الجوع والذل والحرمان والمهانة، وتدمير الإرادة والكرامة كأنها مخلوقاتٌ جاءت من كوكب آخر، لا تمت إلى الإنسانية، أو لسورية، بأية صلة، في وقتٍ كان فيه تجار الحروب والأزمات يلعبون بجوع الناس للخبز فيستعملونه سلعة تدخل في البورصة السوداء.
للرغيف حكاية طويلة، إن كان في تاريخ البشرية، أو في سورية التي يتهدد رغيفها مزاج الحرب ونوايا الأصدقاء والأعداء الذين باتوا غير قابلين للتصنيف. كان الرغيف، حتى سبعينيات القرن الماضي، يحتاج جهدا بشريا كثيرا لصنعه والحصول عليه، عندما كان يُصنع يدويًا في الريف بوسائل بدائية، تبدأ من موسم الحصاد وتجميع القمح، ثم تخزينه ليذهب إلى الطواحين البدائية في القرية بحسب الحاجة، ليأتي الناس بالطحين إلى بيوتهم، ضامنين مؤونة الموسم، ثم تقوم النساء بالعجن والتخمير وخبز العجين، إما على التنور أو على الصاج المعدني الذي يُحمى فوق نار الحطب. لذلك كانت كسرة الخبز ذات قيمة، فارتبط الحفاظ عليها بمنظومة قيم تستند إلى الدين بشكل قوي، فصار الخبز هو "النعمة" التي يجب الحفاظ عليها، بل واحترامها مرضاة للخالق، فإذا رأى الطفل أو الكبير كسرة منه على الأرض كان يرفعها يقبلها يضعها على رأسه، ثم يضعها على أي جدار أو مستوى مرتفع عن الأرض. وفي المدن، كانت هناك الأفران الخاصة التي يملكها أشخاص اشتهروا بالخبازين، إلى أن صارت هناك أفران عامة تعود ملكيتها للدولة، وصار الخبز متوفرًا بدعم من الحكومة، وافتتحت المخابز في الأرياف بمخصصاتٍ يفترض أن تسد حاجة الساكنين، وبقي الخبز، على الرغم من توفره، هو النعمة التي على الفرد أن يحترمها ويقدّرها، بل صار ميزانًا للوفاء والإخلاص، بحسب المقولة الشعبية: صار بيننا خبز وملح.
عانى الرغيف، في سنوات الحرب، من أزمات عديدة، ففي المناطق التي خضعت لسيطرة الفصائل المسلحة، حوصر الناس الذين لم ينزحوا برغيف الخبز، لكن سماسرة الحرب كانوا يستغلون الحاجة، ويبيعون ربطة الخبز بأضعاف ثمنها، حتى في المناطق التي كان سهلا دخول المساعدات إليها من جهات داعمة حكومية وأهلية، كريف حلب ومحافظة إدلب، لم ينجُ رغيف الخبز من سمسرة تجار الحرب، واستغلالهم حاجة الناس.
وفي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، تعرض الخبز لارتفاع سعره مراتٍ، حتى فاق 300 بالمائة. بعدما كانت ربطة الخبز خمس عشرة ليرة قبل الأزمة صارت بخمسين ليرة، وتراجعت جودتها، فلم يعد الطحين كالسابق، ولا المواد المغذية التي كانت الدولة تدعم بها الرغيف توفرت فيه اليوم. عدا ارتفاع ثمنه، وقعت عدة أزمات خبز، كان الناس يصطفون في طوابير طويلة للحصول عليه، حتى إن البراميل الهابطة كغضب السماء حصدت عشرات ومئات في تلك الطوابير، وصار يُباع في السوق السوداء أمام الأفران، وكان بعض السماسرة يهرّبونه إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فيبيعونه بأسعار خيالية.
الخبز هو العيش، في الظروف القاهرة، وفي حالة الاستنقاع التي عاشتها شعوبنا بقي الخبز خبزًا بشكله البدائي، فتنويعه ترفٌ ليس بالمقدور بلوغه. عانت الشعوب الأوروبية قبلنا من الحروب، وانتبه نابليون باكرًا إلى أهمية الخبز للحفاظ على طاقة الجنود وقدرتهم القتالية، فكان الخبازون وأدواتهم من أهم الفرق اللوجستية في حروبه. وفي ألمانيا، عانى الشعب من الجوع بكل فجاجة المعنى، ففي الخمسينيات، كانت ألمانيا خارجةً من حرب طاحنة، أدت موجة الجوع والفقر فيها إلى استعداد الناس لأكل أي نوع من الخبز، وبذلك لم يكن تنوع الأصناف غاية في
الأهمية. وعندما بدأت الحالة الاقتصادية تتعافى، وتنهض ألمانيا من ركامها، نشأت مئات الأصناف الجديدة ليصل عددها كما يقال إلى 300 صنف مختلف من الخبز. قلما يوجد حي أو حتى شارع بلا مخبز، فالمخبز عنصر مهم في الحياة اليومية في ألمانيا، حتى إن العشاء يسمّى "خبز المساء"، ويعتبر الخبز أحد أهم الصناعات الألمانية، والتي أثرت وتأثرت بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الألمانية في العقود المنصرمة.
كيف لا يكون الخبز معيار الكرامة؟ ولو أنها ليست خبزًا فقط، لكن شعبًا محاصرًا بلقمة الخبز، ومهدّدًا بالجوع، لن يكون له قدرة على صنع خطوة واحدة نحو المستقبل. تحضرني ذكرى قديمة، عندما التقيت بأحد زملائي الأطباء العائدين من الاختصاص من فرنسا، في بيت زميل ثالث، كان مسافرًا من أجل الاختصاص، وكان العائد حديثًا يتباهى بتجربته، ويقرظ الشعب الفرنسي وحضارته ورحابة لغته، فقال: تصور أن لديهم أكثر من مائتي مرادف لكلمة الخبز. هالني الحديث، فأنا أعرف أن معظم الأطباء هم الأقل ثقافةً واطلاعًا خارج اختصاصهم في بلادنا، لكن ألا يتم التمييز بين اسم النوع وأصنافه المبتكرة فهذا أمر رهيب. قلت له: يا صديقي، الخبز خبز، لكن الشعوب التي تستطيع إنتاج حضارة تستطيع زيادة ثراء لغتها، ما تطلق عليه أسماء خبز هي أسماء أصنافٍ استطاع الشعب الفرنسي أن يبتكرها، مستفيدًا من تراثه، ومن انفتاحه على الثقافات الأخرى. لدينا نحن أيضًا الخبز المرقد والمشروح والصمون والكماجة، ولدينا خبز التنور والصاج، ولو استطعنا أن نواكب ركب الحضارة لكانت لدينا مئات الأصناف.
يسعى الرئيس الفرنسي، ماكرون، إلى إدخال الباغيت في التراث العالمي المحمي. إنها قضية سيادية فرنسية، ونحن، شعوب المنطقة المنكوبة يتم السطو على تراثنا وتاريخنا ومدننا وبلداننا، ليس بادعاء أن الحمص والفول والفلافل والتبولة أكلات إسرائيلية فقط، بل القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. القدس بما تخزن من تاريخ ثري نحن العرب في مركزه، في الوقت الذي تُقمع فيه انتفاضات الشعوب، حتى من أجل الرغيف بأبسط شكل له، كما حصل ويحصل في أكثر من بلد عربي. إنها سيادة وطنية أيضًا، فانتفاضة الخبز هي دعوة للخارج ومؤامراته، تستدعي من السيادة الوطنية موقفًا حازمًا تجاهها وقامعًا لها.
يحق لكل شعب أن يفخر بمنجزه، وأن يسعى إلى حمايته باعتباره جزءا من هوية ثقافية راكمها تاريخ من التجارب. ولقد عملت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، المهتمة بالتراث الثقافي الإنساني، على إدراج أصناف عديدة من الخبز في لوائحها، فضمنت بذلك لبعض الشعوب حماية جانبٍ من هويتها الثقافية، كالبيتزا الإيطالية التي اقتحمت العولمة من بابها الأوسع، إذ لم يبقَ شعبٌ إلا ودخلت البيتزا مجال عاداته الطعامية، وصارت لها مطاعم متخصصة تبتكر أصنافًا جديدة للبيتزا، مثلما صارت تصنع في البيوت.
وهناك خبز الزنجبيل الكرواتي الذي صنفته "يونسكو" من التراث الثقافي المحمي، الخبز الذي ألهم الفنانين والمبدعين، حتى إن مسلسل رجل الزنجبيل للأطفال حقق شعبية واسعة، وترجم إلى لغات عدة، ومنها العربية. وبحسب إحصائيات "غوغل"، فإن عام 2012 هو من دون منازع عام "جنجربريد"، أو خبز الزنجبيل الذي أطلق في ديسمبر/ كانون الأول 2010، بوصفه نظام تشغيل، يتم من خلاله الولوج إلى متجر تطبيقات "غوغل". ليس هذا فحسب، بل صُمّم في مطار دبي مجسّم يختطف الأضواء لبرج خليفة، مصنوع من خبز الزنجبيل بارتفاع 14 متراً في فعالية "وينتر وندر لاند دبي"، باعتبار أننا، نحن العرب، كما تدّعي أنظمتنا، حداثيون، والحداثة من هذا القبيل لا تعدو أن تكون انبطاحًا للعولمة والأسر الثقافي، من دون أن يكون لنا مساهمتنا في إنتاج الثقافة.
الخبز الذي يعادل في معناه "العيش" لدى شعوبنا، بل إنه يحتكر معنى العيش لدى كثيرين، عندما يُقال عنه "العيش" بدلاً من الخبز، هو ضرورة حياتية، بل تكاد تكون الأولى لسدّ الرمق الذي يحافظ على نبض الحياة، صار من أهم أسلحة الحروب في بلداننا، وقبلها هو من أهم الأدوات التي تُروّض بها الأنظمة العاتية الجبارة الشعوب. فخلال سنوات سبع من الجحيم السوري، كان الحصار والتجويع سلاحًا، ليس قاتلاً فقط، بل مهينًا للكرامة البشرية، سلاح التجويع حتى التطويع الذي استخدمه النظام في حصاره المناطق المنتفضة، واستعملته المعارضة المسلحة في حصارها على المناطق المحسوبة على النظام أداة للضغط والمساومة، لم يأبه الطرفان بنفوسٍ تكابد الجوع والذل والحرمان والمهانة، وتدمير الإرادة والكرامة كأنها مخلوقاتٌ جاءت من كوكب آخر، لا تمت إلى الإنسانية، أو لسورية، بأية صلة، في وقتٍ كان فيه تجار الحروب والأزمات يلعبون بجوع الناس للخبز فيستعملونه سلعة تدخل في البورصة السوداء.
للرغيف حكاية طويلة، إن كان في تاريخ البشرية، أو في سورية التي يتهدد رغيفها مزاج الحرب ونوايا الأصدقاء والأعداء الذين باتوا غير قابلين للتصنيف. كان الرغيف، حتى سبعينيات القرن الماضي، يحتاج جهدا بشريا كثيرا لصنعه والحصول عليه، عندما كان يُصنع يدويًا في الريف بوسائل بدائية، تبدأ من موسم الحصاد وتجميع القمح، ثم تخزينه ليذهب إلى الطواحين البدائية في القرية بحسب الحاجة، ليأتي الناس بالطحين إلى بيوتهم، ضامنين مؤونة الموسم، ثم تقوم النساء بالعجن والتخمير وخبز العجين، إما على التنور أو على الصاج المعدني الذي يُحمى فوق نار الحطب. لذلك كانت كسرة الخبز ذات قيمة، فارتبط الحفاظ عليها بمنظومة قيم تستند إلى الدين بشكل قوي، فصار الخبز هو "النعمة" التي يجب الحفاظ عليها، بل واحترامها مرضاة للخالق، فإذا رأى الطفل أو الكبير كسرة منه على الأرض كان يرفعها يقبلها يضعها على رأسه، ثم يضعها على أي جدار أو مستوى مرتفع عن الأرض. وفي المدن، كانت هناك الأفران الخاصة التي يملكها أشخاص اشتهروا بالخبازين، إلى أن صارت هناك أفران عامة تعود ملكيتها للدولة، وصار الخبز متوفرًا بدعم من الحكومة، وافتتحت المخابز في الأرياف بمخصصاتٍ يفترض أن تسد حاجة الساكنين، وبقي الخبز، على الرغم من توفره، هو النعمة التي على الفرد أن يحترمها ويقدّرها، بل صار ميزانًا للوفاء والإخلاص، بحسب المقولة الشعبية: صار بيننا خبز وملح.
عانى الرغيف، في سنوات الحرب، من أزمات عديدة، ففي المناطق التي خضعت لسيطرة الفصائل المسلحة، حوصر الناس الذين لم ينزحوا برغيف الخبز، لكن سماسرة الحرب كانوا يستغلون الحاجة، ويبيعون ربطة الخبز بأضعاف ثمنها، حتى في المناطق التي كان سهلا دخول المساعدات إليها من جهات داعمة حكومية وأهلية، كريف حلب ومحافظة إدلب، لم ينجُ رغيف الخبز من سمسرة تجار الحرب، واستغلالهم حاجة الناس.
وفي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، تعرض الخبز لارتفاع سعره مراتٍ، حتى فاق 300 بالمائة. بعدما كانت ربطة الخبز خمس عشرة ليرة قبل الأزمة صارت بخمسين ليرة، وتراجعت جودتها، فلم يعد الطحين كالسابق، ولا المواد المغذية التي كانت الدولة تدعم بها الرغيف توفرت فيه اليوم. عدا ارتفاع ثمنه، وقعت عدة أزمات خبز، كان الناس يصطفون في طوابير طويلة للحصول عليه، حتى إن البراميل الهابطة كغضب السماء حصدت عشرات ومئات في تلك الطوابير، وصار يُباع في السوق السوداء أمام الأفران، وكان بعض السماسرة يهرّبونه إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فيبيعونه بأسعار خيالية.
الخبز هو العيش، في الظروف القاهرة، وفي حالة الاستنقاع التي عاشتها شعوبنا بقي الخبز خبزًا بشكله البدائي، فتنويعه ترفٌ ليس بالمقدور بلوغه. عانت الشعوب الأوروبية قبلنا من الحروب، وانتبه نابليون باكرًا إلى أهمية الخبز للحفاظ على طاقة الجنود وقدرتهم القتالية، فكان الخبازون وأدواتهم من أهم الفرق اللوجستية في حروبه. وفي ألمانيا، عانى الشعب من الجوع بكل فجاجة المعنى، ففي الخمسينيات، كانت ألمانيا خارجةً من حرب طاحنة، أدت موجة الجوع والفقر فيها إلى استعداد الناس لأكل أي نوع من الخبز، وبذلك لم يكن تنوع الأصناف غاية في
كيف لا يكون الخبز معيار الكرامة؟ ولو أنها ليست خبزًا فقط، لكن شعبًا محاصرًا بلقمة الخبز، ومهدّدًا بالجوع، لن يكون له قدرة على صنع خطوة واحدة نحو المستقبل. تحضرني ذكرى قديمة، عندما التقيت بأحد زملائي الأطباء العائدين من الاختصاص من فرنسا، في بيت زميل ثالث، كان مسافرًا من أجل الاختصاص، وكان العائد حديثًا يتباهى بتجربته، ويقرظ الشعب الفرنسي وحضارته ورحابة لغته، فقال: تصور أن لديهم أكثر من مائتي مرادف لكلمة الخبز. هالني الحديث، فأنا أعرف أن معظم الأطباء هم الأقل ثقافةً واطلاعًا خارج اختصاصهم في بلادنا، لكن ألا يتم التمييز بين اسم النوع وأصنافه المبتكرة فهذا أمر رهيب. قلت له: يا صديقي، الخبز خبز، لكن الشعوب التي تستطيع إنتاج حضارة تستطيع زيادة ثراء لغتها، ما تطلق عليه أسماء خبز هي أسماء أصنافٍ استطاع الشعب الفرنسي أن يبتكرها، مستفيدًا من تراثه، ومن انفتاحه على الثقافات الأخرى. لدينا نحن أيضًا الخبز المرقد والمشروح والصمون والكماجة، ولدينا خبز التنور والصاج، ولو استطعنا أن نواكب ركب الحضارة لكانت لدينا مئات الأصناف.
يسعى الرئيس الفرنسي، ماكرون، إلى إدخال الباغيت في التراث العالمي المحمي. إنها قضية سيادية فرنسية، ونحن، شعوب المنطقة المنكوبة يتم السطو على تراثنا وتاريخنا ومدننا وبلداننا، ليس بادعاء أن الحمص والفول والفلافل والتبولة أكلات إسرائيلية فقط، بل القدس عاصمة أبدية لإسرائيل. القدس بما تخزن من تاريخ ثري نحن العرب في مركزه، في الوقت الذي تُقمع فيه انتفاضات الشعوب، حتى من أجل الرغيف بأبسط شكل له، كما حصل ويحصل في أكثر من بلد عربي. إنها سيادة وطنية أيضًا، فانتفاضة الخبز هي دعوة للخارج ومؤامراته، تستدعي من السيادة الوطنية موقفًا حازمًا تجاهها وقامعًا لها.
دلالات
مقالات أخرى
19 أكتوبر 2024
05 أكتوبر 2024
24 سبتمبر 2024