الخطة في دماغه

30 مارس 2015
+ الخط -
تذكرت، أمس، حكاية ذلك الفيلم الذي لن أذكر اسمه، لأنني لم أستأذن صاحب الحكاية، ولأن اسم الفيلم آخر ما يهمك في الحكاية التي أظنها ذات مغزى.
هو فيلم وطني تم إنتاجه قبل سنين، عن إحدى بطولات الجيش المصري في مواجهة إسرائيل، وقد حشد له منتجه ومخرجه ممثلين كثيرين من كل الأجيال، بينهم صديق كان في منتهى السعادة، لأنه تلقى مكالمة من المخرج يعرض عليه دوراً مهماً أعجبه خطه العام الذي حكاه له، فرح صديقي لأنه، أخيراً، سيحقق حلم المشاركة في "فيلم وطني حربي على أعلى مستوى"، لكنه قال إنه شعر بالقلق من رد فعل المخرج، حين سأله عن سيناريو الفيلم، سألته: أرجوك لا تقل إنه مثلاً قال إن السيناريو سري؟ أجابني: "بالعكس، قال إنه سيرسل لي سيناريو ضخماً من 400 صفحة، وإنني يجب ألا آخذه بشكل حرفي، لأنه تتم عليه تعديلات للحذف والتكثيف، وإن عليه أن يقرأه فقط لمجرد أخذ فكرة عامة".
استلم صديقنا الممثل السيناريو في اليوم التالي، ظل يقرأ فيه ليومين بصبر وتأن، فلم يجد فيه حرفاً واحداً تنطقه الشخصية التي قال له المخرج إنه سيمثلها، وحين اتصل بالمخرج للاستيضاح، طلب منه أن يأتي إليه "بدلاً من الكلام في التلفون". وحين التقى بالمخرج، صدمته العبارة الأولى التي قالها له "إنت فاكر إن دورك في الورق يا بني، إنت دورك هنا"، خابطاً على صلعته بقوة، وحين وجد الممثل ينظر له بذهول، أضاف لتأكيد المعنى "مش دورك إنت بس، الفيلم كله في دماغي"، تغلب صديقنا على ذهوله، وحين أدرك أنه يريد منه التوقيع على العقد "عمياني"، قال له "بس أنا مش هادخل دماغك يا أستاذ عشان أعرف دوري وأحكم عليه"، ليفاجأ بانفعال المخرج الذي اعتبر ذلك الرد إهانة كبيرة له، طالباً من الممثل أن يعتبر عرضه له كأن لم يكن، لأنه لا يقبل بأقل من أن يضع كل ممثل نفسه تحت تصرفه، صباح كل يوم، لكي يديره كما يحب طبقاً للسيناريو الموجود داخل دماغه.
حين سأل صديقنا زملاء له عن تجاربهم، قال له أحدهم إنه لم يعجب بدوره في السيناريو، ولا بالسيناريو ذات نفسه، ووجده كارثياً لا يليق بتضحيات الأبطال الذين يروي قصتهم، لكنه خاف من أن يعتذر فيتعرض لحملة تشنيع، تتهمه برفض المشاركة في أعمال وطنية. وقال زميل آخر إنه على الرغم من عدم إعجابه بما قرأه وافق، لأنه لا يُعقل أن يكون المخرج سيورط نفسه في عمل كهذا، إذا لم يكن لديه سيناريو متقن جاهز، وأنه يخاف إظهاره، وسيخرجه مع بدء التصوير. ونصحه ثالث بأن يلحق نفسه ويعتذر للمخرج الذي لن يتركه المشرفون على الفيلم يصنع فيلماً فاشلاً. وبالطبع، لم يكن ذلك رد فعل الثلاثة، حين خرج الفيلم إلى النور، ووجده الجميع كارثياً، ويضرب بطولات المقاتلين عرض "الحائط" بضعفه وتفككه، وليتضح أن عدم اشتراك صديقنا في الفيلم كان أفضل بكثير من المشاركة في تلك المهزلة الفنية.
طيب، إذا كانت الأفلام تفشل وتضيع، حين يكون السيناريو موجوداً في دماغ المخرج فقط، من دون أن يكون من حق أحد أن يطلع عليه، أو يقترح شيئاً بخصوصه، فكيف سيكون حال الدول، وكيف ستنتهي مصائر الشعوب، حين تكون خطط إدارتها في دماغ الحاكم، وحده لا شريك له، وإذا اعتبرنا أن الفيلم ينتمي إلى مخرجه، ومن حقه أن يتصرف فيه كما يشاء، فكيف يمكن أن نعتبر الوطن، بأرضه وشعبه وموارده، ملكاً للحاكم، ومن حقه أن يفعل فيه ما يشاء، خصوصاً إذا لم يكن وحده الذي سيدفع ثمن تلك القرارات؟
لعل التجارب المقرفة جعلتنا أنصح من أن نسأل: لماذا لم يأخذ السيسي رأي الشعب المصري في معالجة أزمة سد النهضة في إثيوبيا، أو قرار الاشتراك في حرب اليمن، فالشعب الذي يوافق على محاربة نفسه بنفسه لن يجد مشكلة في محاربة غيره فجأة، أو مسالمته فجأة، طالما كان ذلك بأمر القائد الملهم. ولذلك، فمشكلة مصر الأكبر ليست في عدم استدعاء الشعب للموافقة على خطط السيسي لمعالجة أزمات مصر، بل في عدم وجود تلك الخطط أصلاً، لأن كل الشواهد تفيد بأن مصير البلاد أصبح متروكاً لارتجال شخص، يعتقد أن إرادة إلهية عليا تدعمه، منذ وضعته على عرش مصر. ولذلك، يتخذ قرارات في غاية الخطورة بمنتهى الخفة والرعونة، لأنه يضمن أن الشعب لن يحاسبه، ولن يراقبه، وسيمشي وراءه مصفقاً ومهللاً، من دون أن يسأله عن "الخطة اللي في دماغه".
كمِّلها بالستر من عندك يا رب.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.