10 نوفمبر 2024
الدهس الإعلامي
من الطبيعي، إثر كل عمل إجرامي يودي بعدد كبير من الضحايا، أن تنتشر التحليلات والاستنتاجات التي تربطه بهذه الجهة أو تلك، أو التي تعكس آثاره الآنية والمستقبلية على المجتمع المحيط في أقل تقدير. وفي ما مضى، كانت هذه الممارسات التحليلية والاستنتاجية منوطةً، أو كانت محصورةً، بعدد محدود ممن يتواصلون مع الرأي العام عبر وسائل الإعلام التقليدية. أما اليوم، فقد صارت شغل من أراد ومن رغب عبر وسائل التواصل الاجتماعي على أشكالها كافة، والتي صارت تؤثر في عمل الإعلام التقليدي في علاقةٍ تبادليةٍ ليست صحيّة دائماً. والتريّث الضروري لتطوير تحليل عقلاني لم يعد هو القاعدة، بل على العكس، انتشر التسرّع في التحليل وفي الاستنتاج، سعياً إلى إبراز المعرفة أو ادعائها.
عملية الاعتداء على الجموع المحتفلة بالعيد الوطني الفرنسي في مسار "النزهة الإنكليزي" في مدينة نيس المتوسطية الفرنسية، والتي أدت إلى عشرات من الضحايا، ما زالت مصدراً لما تسميه اللغة الإعلامية "التخمينات". ومن المهم، كما تقول الديباجة الصحافية المكرّرة، عدم استباق نتائج التحقيقات، وعدم البدء في صناعة قصور من التخمينات بسلبها وبإيجابها.
وبمعزل عن الخوض في القراءات الما ورائية عن الحدث، والغوص في علاقات القاتل/المقتول الزوجية وارتباطاته الإرهابية أو الجنونية، بدا أن الإعلام يمكن أن يكون وسيلة موت أو تحريض على الموت أو تبرير للموت. وبدا أيضاً أن الدراسات العلمية التي اشتغلت، في سنوات التسعينيات، عن "إعلام الموت" التقليدي في أفريقيا، خصوصاً بعد مذابح رواندا، تعود لتكون نبراساً منهجياً للعمل على أداء الإعلام، بمختلف أنواعه في زمننا الحالي. وعلى الرغم من أن الكتابات العلمية، كما الاستقصائية، استثمرت آلاف الصفحات، لشرح أهمية الوسيلة الإعلامية وخطورتها في تأجيج المشاعر أو في تحريض العنف أو في تهدئة الخواطر، إلا أن هذا الأداء ما زال "نبراساً" لبعضهم.
جولة سريعة على الوسائل الإعلامية المختلفة توضح عجزاً مهنياً واضحاً، بعيداً عن أي تشكيك في النيات، في تغطية ما حصل. وقد تميّز الإعلام العربي أو الناطق بالعربية، كما في السابق، في هذا المجال. وهذا لا يعني أن أداء الإعلام الغربي كان مثالياً، فقد عنونت قناة عربية شهيرة وواسعة المشاهدة خبراً في موقعها الإلكتروني يقول ما معناه إن شاحنة الموت في نيس دهست فيما دهست "عشرات من العرب ومن المسلمين". وحتى لو كان العنوان "جاذباً" سلباً
ومنحرفاً عن أخلاقيات العنونة الإعلامية، إلا أنه يمكن أن يؤخذ بمحدوديته، إن لم ينعكس تطويراً في متن الخبر. ويمكن حتى أن يدفع حسن الظن ببعض الملاحظين إلى القول إن هذا العنوان هو للإشارة إلى أن القتل باسم الإسلام، إن افترضنا واستبقنا التحقيقات، يستهدف أولاً وأخيراً المسلمين أنفسهم. لكن، وبمراجعة الخبر، نجد أن المحرّر واظب على الإساءة إلى ما اعتقد أنه يُدافع عنهم: العرب والمسلمين، فهو يصف مجريات الدهس على أنها لم تتوقف "حتى" عندما لمح القاتل "نساءً محجّبات ورجالًا بالزي الخليجي". أي أن وجود هؤلاء الناس لم يمنع القاتل من متابعة الدهس. وفي عنوان آخر، ذكرت المحطة نفسها أن القاتل كان "يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير" (...). إنها ضحالةٌ في المنطق، وسطحيةٌ في المعالجة تكاد تبعث على الصراخ. فماذا يمكن أن يستنتجه القارئ العادي من عنوانٍ كهذا؟ هل يسعى المحرّر "العجبة" إلى الدفاع عن الإسلام وتبرئته من انتساب القاتل إليه لمجرد تخمين أن من ينتمي إليه لا يشرب هذه الأشياء ولا يأكلها؟
ينفجر الأمر عندما تقوم محطة عربية ثانية، وتتمتع بشهرةٍ كبيرةٍ، ربما تتجاوز زميلتها سابقة الذكر، وتعرض لخطاب الرئيس الفرنسي الموجّه للأمة، والذي تحدث فيه عن ضرورة مواجهة ما أسماه "إرهاباً إسلاموياً" Islamiste يستغل الدين لمآرب سياسية وإجرامية، فتترجم المحطة، وتكتب بالخط العريض إنه يدعو لمحاربة "إرهابٍ إسلامي" Islamique. يهتاج المتابعون من مسلمين أبرياء مما يقوم به الإسلامويون، إن افترضنا نسبة هذا العمل الإجرامي إلى جماعاتهم الإرهابية، وتبدأ ردود الأفعال الشاجبة هذا التصريح، والتي تُدين ربط الإرهاب بالإسلام. حينها، يُسرع الملاحظ للتأكد من هذه العبارة، وهو لا يستبعد أن تكون هفوةً غير مقصودة في خضم التوتر والعجالة، ليتبين أن المحطة قوّلت الرئيس هولاند ما لم يقله. هل من يعتذر؟ هل من يُصحّح؟
ليس من النظري، ولا الطوباوي، القول إن مهمة الإعلام خطيرة ومسؤوليته جسيمة. وقد تعلمنا من تجارب الأمس القريب والبعيد مدى تأثير خبر أو عنوان أو رسم أسيء فهمه أو أريد له أن يُساء فهمه، أو قُصد به فعلاً الإساءة على الجموع. حرية الإعلام يجب أن تكون محميةً، لكن مسؤولية الإعلام يجب أيضاً أن تُصان، خصوصاً إنْ كان واسع الانتشار، وينفي عن نفسه أنه جزءٌ من إعلام الإثارة المجانية أو التحريضية. عندما يعرف كاتبو مثل هذه النصوص أو محرّروها مدى تأثيرها في الناس، وعندما لا يكون قصدهم "شيطانياً"، فلا ضير ولا عار في أن يعتذروا، وأن يتراجعوا عن الدهس الإعلامي الذي يمارسونه تعزيزاً غير مقصودٍ للدهس الإجرامي الذي وقع.
في هذه الأثناء، نشرت صحيفة فرنسية، في تغطيتها الحدث، أن أول ضحايا الدهس الإجرامي كانت سيدة. وتضمن متن الخبر اسمها واسم زوجها من دون الخوض في دينها وفي عرقها. إنها سيدة من أصول مغربية. الرسالة وصلت. إنها المهنية.
عملية الاعتداء على الجموع المحتفلة بالعيد الوطني الفرنسي في مسار "النزهة الإنكليزي" في مدينة نيس المتوسطية الفرنسية، والتي أدت إلى عشرات من الضحايا، ما زالت مصدراً لما تسميه اللغة الإعلامية "التخمينات". ومن المهم، كما تقول الديباجة الصحافية المكرّرة، عدم استباق نتائج التحقيقات، وعدم البدء في صناعة قصور من التخمينات بسلبها وبإيجابها.
وبمعزل عن الخوض في القراءات الما ورائية عن الحدث، والغوص في علاقات القاتل/المقتول الزوجية وارتباطاته الإرهابية أو الجنونية، بدا أن الإعلام يمكن أن يكون وسيلة موت أو تحريض على الموت أو تبرير للموت. وبدا أيضاً أن الدراسات العلمية التي اشتغلت، في سنوات التسعينيات، عن "إعلام الموت" التقليدي في أفريقيا، خصوصاً بعد مذابح رواندا، تعود لتكون نبراساً منهجياً للعمل على أداء الإعلام، بمختلف أنواعه في زمننا الحالي. وعلى الرغم من أن الكتابات العلمية، كما الاستقصائية، استثمرت آلاف الصفحات، لشرح أهمية الوسيلة الإعلامية وخطورتها في تأجيج المشاعر أو في تحريض العنف أو في تهدئة الخواطر، إلا أن هذا الأداء ما زال "نبراساً" لبعضهم.
جولة سريعة على الوسائل الإعلامية المختلفة توضح عجزاً مهنياً واضحاً، بعيداً عن أي تشكيك في النيات، في تغطية ما حصل. وقد تميّز الإعلام العربي أو الناطق بالعربية، كما في السابق، في هذا المجال. وهذا لا يعني أن أداء الإعلام الغربي كان مثالياً، فقد عنونت قناة عربية شهيرة وواسعة المشاهدة خبراً في موقعها الإلكتروني يقول ما معناه إن شاحنة الموت في نيس دهست فيما دهست "عشرات من العرب ومن المسلمين". وحتى لو كان العنوان "جاذباً" سلباً
ينفجر الأمر عندما تقوم محطة عربية ثانية، وتتمتع بشهرةٍ كبيرةٍ، ربما تتجاوز زميلتها سابقة الذكر، وتعرض لخطاب الرئيس الفرنسي الموجّه للأمة، والذي تحدث فيه عن ضرورة مواجهة ما أسماه "إرهاباً إسلاموياً" Islamiste يستغل الدين لمآرب سياسية وإجرامية، فتترجم المحطة، وتكتب بالخط العريض إنه يدعو لمحاربة "إرهابٍ إسلامي" Islamique. يهتاج المتابعون من مسلمين أبرياء مما يقوم به الإسلامويون، إن افترضنا نسبة هذا العمل الإجرامي إلى جماعاتهم الإرهابية، وتبدأ ردود الأفعال الشاجبة هذا التصريح، والتي تُدين ربط الإرهاب بالإسلام. حينها، يُسرع الملاحظ للتأكد من هذه العبارة، وهو لا يستبعد أن تكون هفوةً غير مقصودة في خضم التوتر والعجالة، ليتبين أن المحطة قوّلت الرئيس هولاند ما لم يقله. هل من يعتذر؟ هل من يُصحّح؟
ليس من النظري، ولا الطوباوي، القول إن مهمة الإعلام خطيرة ومسؤوليته جسيمة. وقد تعلمنا من تجارب الأمس القريب والبعيد مدى تأثير خبر أو عنوان أو رسم أسيء فهمه أو أريد له أن يُساء فهمه، أو قُصد به فعلاً الإساءة على الجموع. حرية الإعلام يجب أن تكون محميةً، لكن مسؤولية الإعلام يجب أيضاً أن تُصان، خصوصاً إنْ كان واسع الانتشار، وينفي عن نفسه أنه جزءٌ من إعلام الإثارة المجانية أو التحريضية. عندما يعرف كاتبو مثل هذه النصوص أو محرّروها مدى تأثيرها في الناس، وعندما لا يكون قصدهم "شيطانياً"، فلا ضير ولا عار في أن يعتذروا، وأن يتراجعوا عن الدهس الإعلامي الذي يمارسونه تعزيزاً غير مقصودٍ للدهس الإجرامي الذي وقع.
في هذه الأثناء، نشرت صحيفة فرنسية، في تغطيتها الحدث، أن أول ضحايا الدهس الإجرامي كانت سيدة. وتضمن متن الخبر اسمها واسم زوجها من دون الخوض في دينها وفي عرقها. إنها سيدة من أصول مغربية. الرسالة وصلت. إنها المهنية.