03 نوفمبر 2024
الدولة المركزية من الماضي
ما أن تم الشروع في تونس في قبول قوائم المرشحين للانتخابات البلدية، حتى ارتفعت أصوات محذرة من مخاطر هذا المسار، بحجة أن الديمقراطية المحلية ستؤدي إلى تفكيك الدولة، وضرب وحدة الشعب التونسي. بعض هذه الأصوات جزء من النظام القديم الذي استفاد مطولا من المركزية المفرطة التي أدت إلى جمع كل السلطات بيد رئيس الجمهورية والحزب الموالي له، فالذي ارتوى من تلك الثقافة لا يستطيع أن يستوعب ثقافة بديلة ديمقراطية في أساسها، تنقل القرار من الفرد المستبد إلى المواطنين الذين يُفترض فيهم أنهم بلغوا سن الرشد، ولم يعودوا قصّرا يحتاجون إلى وصاية أبدية من الحاكم، ومن قوة السلطة المركزية.
تعود الحكاية إلى بداية الاستقلال، حين شرع التونسيون في بناء دولتهم الوطنية. حينها قرّر الرئيس الحبيب بورقيبة بناء دولة شديدة المركزية، بحجة أن البلاد غير مهيأة لممارسة الديمقراطية، وأن بناء الدولة القوية هو المدخل لبناء الأمة التي تتماهى عنده مع الشعب. وهو يعتقد أن التونسيين قبل سنة 1956 تاريخ الاستقلال كانوا مجرّد ذرات، فجاء هو باعتباره الزعيم الذي قاد الحركة الوطنية، فوحّد تلك الذرات، وجعل من هؤلاء أمة متماسكة بفضل أيديولوجية الوحدة الوطنية، والالتفاف حول الدولة التي يمثلها بورقيبة، ليس فقط باعتباره الرئيس، ولكن أيضا باعتباره الأب والموجه والمربي والمصلح وصاحب النظرة الثاقبة.
بناء على هذه الروح، وهذا التصور السياسي الذي كان في الخمسينات والستينات ولا يزال، انطلق مسار طويل انتهى إلى نتيجتين: تحقيق نجاحاتٍ على أكثر من صعيد، بفضل هذه المركزية. وكانت النتيجة الثانية على النقيض من ذلك، حيث أثبتت الثورة أن نمط الحكم السابق استنفد أغراضه، وأن توسيع قاعد الحكم أصبحت ضرورة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال مشاركة حقيقة للمواطنين في تسيير شؤونهم. ومن هنا، جاء الباب السابع من الدستور الجديد الذي وضع قواعد الحكم المحلي.
للنظام اللامركزي مخاطره التي يجب أن يتم التعامل معها بكثيرٍ من الحذر والجدية. فنقل جزء من السلطة إلى الجهات هو مغامرة أو لنقل مجازفة، خصوصا في بلدٍ مثل تونس لم تختف فيها النزعات الجهوية والعروشية )نسبة إلى الوحدات القبلية) إلى جانب الشعور الحاد بالحرمان والتمييز. لكن الذين يشيعون الخوف بين الناس من الديمقراطية المحلية، ويصرّون على التمسك باحتكار السلطة في العاصمة لا يدركون أن النظام القديم هو الذي أدّى إلى تعميق الفجوة بين المركز والأطراف، وأن الاستمرار في ذلك لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من توسيع الفجوة إلى حد الانفجار الكبير.
صحيحٌ أن ما يحصل حاليا في تونس خطوة من الحجم الكبير، لكنها مجازفة ضرورية لم يعد في الوسع تأجيلها، أو التردد في خوضها، لأنها جزء من عملية التحول الديمقراطي الصعب. وحتى يتم التقليل من حجم الخسائر، والحيلولة دون الانتكاس والعودة إلى الوراء، يجب انتهاج سياسة التدرج، وتوفير شروط مساعدة على إنجاح التجربة. ومن أهم هذه الشروط حسن اختيار ممثلي البلديات، وتوفير الشفافية المالية والإدارية، وتركيز آليات مرنة، من شأنها أن تُحدث حالةً من التكامل والترابط بين المؤسسات المركزية والمؤسسات الجهوية، وبروز قيادات محلية تتمتع بالمصداقية. والأهم من ذلك الاشتغال على تنمية الشعور بوحدة المصير وبناء ثقافة تشاركية صلبة.
ليس الحكم المحلي بديلا عن الدولة المركزية، ولا هو تهديد لها كما يزعم بعضهم، إنما هو مسار طويل، يرمي إلى إعادة النظر في مفهوم قديم، يتجه نحو الانقراض، بعد أن فشلت الدولة المستبدة، وبعد أن أثرت العولمة في كل ما يتعلق بقوانين السوق والإدارة، وتسيير الشأن العام، وتفعيل دور الأفراد والمواطنين. فالمحلي استعاد وعيه بذاته، وأصبح يطالب بأن يكون مشاركا في المراقبة، ووضع السياسات والاختيارات. لقد تصدّع الهرم القديم للدولة، وأصبح القرار يصعد من القاعدة إلى القمة، وهذا هو مسار التاريخ للحالمين بالعودة.
تعود الحكاية إلى بداية الاستقلال، حين شرع التونسيون في بناء دولتهم الوطنية. حينها قرّر الرئيس الحبيب بورقيبة بناء دولة شديدة المركزية، بحجة أن البلاد غير مهيأة لممارسة الديمقراطية، وأن بناء الدولة القوية هو المدخل لبناء الأمة التي تتماهى عنده مع الشعب. وهو يعتقد أن التونسيين قبل سنة 1956 تاريخ الاستقلال كانوا مجرّد ذرات، فجاء هو باعتباره الزعيم الذي قاد الحركة الوطنية، فوحّد تلك الذرات، وجعل من هؤلاء أمة متماسكة بفضل أيديولوجية الوحدة الوطنية، والالتفاف حول الدولة التي يمثلها بورقيبة، ليس فقط باعتباره الرئيس، ولكن أيضا باعتباره الأب والموجه والمربي والمصلح وصاحب النظرة الثاقبة.
بناء على هذه الروح، وهذا التصور السياسي الذي كان في الخمسينات والستينات ولا يزال، انطلق مسار طويل انتهى إلى نتيجتين: تحقيق نجاحاتٍ على أكثر من صعيد، بفضل هذه المركزية. وكانت النتيجة الثانية على النقيض من ذلك، حيث أثبتت الثورة أن نمط الحكم السابق استنفد أغراضه، وأن توسيع قاعد الحكم أصبحت ضرورة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال مشاركة حقيقة للمواطنين في تسيير شؤونهم. ومن هنا، جاء الباب السابع من الدستور الجديد الذي وضع قواعد الحكم المحلي.
للنظام اللامركزي مخاطره التي يجب أن يتم التعامل معها بكثيرٍ من الحذر والجدية. فنقل جزء من السلطة إلى الجهات هو مغامرة أو لنقل مجازفة، خصوصا في بلدٍ مثل تونس لم تختف فيها النزعات الجهوية والعروشية )نسبة إلى الوحدات القبلية) إلى جانب الشعور الحاد بالحرمان والتمييز. لكن الذين يشيعون الخوف بين الناس من الديمقراطية المحلية، ويصرّون على التمسك باحتكار السلطة في العاصمة لا يدركون أن النظام القديم هو الذي أدّى إلى تعميق الفجوة بين المركز والأطراف، وأن الاستمرار في ذلك لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من توسيع الفجوة إلى حد الانفجار الكبير.
صحيحٌ أن ما يحصل حاليا في تونس خطوة من الحجم الكبير، لكنها مجازفة ضرورية لم يعد في الوسع تأجيلها، أو التردد في خوضها، لأنها جزء من عملية التحول الديمقراطي الصعب. وحتى يتم التقليل من حجم الخسائر، والحيلولة دون الانتكاس والعودة إلى الوراء، يجب انتهاج سياسة التدرج، وتوفير شروط مساعدة على إنجاح التجربة. ومن أهم هذه الشروط حسن اختيار ممثلي البلديات، وتوفير الشفافية المالية والإدارية، وتركيز آليات مرنة، من شأنها أن تُحدث حالةً من التكامل والترابط بين المؤسسات المركزية والمؤسسات الجهوية، وبروز قيادات محلية تتمتع بالمصداقية. والأهم من ذلك الاشتغال على تنمية الشعور بوحدة المصير وبناء ثقافة تشاركية صلبة.
ليس الحكم المحلي بديلا عن الدولة المركزية، ولا هو تهديد لها كما يزعم بعضهم، إنما هو مسار طويل، يرمي إلى إعادة النظر في مفهوم قديم، يتجه نحو الانقراض، بعد أن فشلت الدولة المستبدة، وبعد أن أثرت العولمة في كل ما يتعلق بقوانين السوق والإدارة، وتسيير الشأن العام، وتفعيل دور الأفراد والمواطنين. فالمحلي استعاد وعيه بذاته، وأصبح يطالب بأن يكون مشاركا في المراقبة، ووضع السياسات والاختيارات. لقد تصدّع الهرم القديم للدولة، وأصبح القرار يصعد من القاعدة إلى القمة، وهذا هو مسار التاريخ للحالمين بالعودة.