19 أكتوبر 2019
الديمقراطية التقليدية على المحك
أدت الاحتجاجات المتواصلة في فرنسا على قانون العمل إلى تشكل ظاهرةٍ سبق وأن عرفتها بعض المدن الغربية، مثل نيويورك ومدريد وأثينا، وهي ظاهرة معتكفي الليل، أو واقفي الليل (لانوي دوبو): تجمع مواطنين أغلبهم من الشباب، في ساحة رمزية. حيث قرّر مواطنون فرنسيون قضاء لياليهم في ساحة الجمهورية في العاصمة باريس، تعبيراً عن رفضهم سياسات الحكومة الحالية وسابقاتها، مطالبين بنموذج ديمقراطي غير النموذج السائد. انتقلت عدوى هذا الحراك إلى مدنٍ فرنسيةٍ أخرى، اجتمع في ساحاتها الرمزية مواطنون، للتعبير عن آرائهم ومناقشة مختلف القضايا الأساسية.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن هذه الظاهرة التي تنتقل عدواها من عاصمةٍ أوروبية إلى أخرى، تضع الديمقراطية التقليدية على المحك، فهي تطعن في شرعية التدابير الديمقراطية (غير المباشرة) الحالية، ساعية إلى تغييرها بتدابير ديمقراطية جوارية مباشرة. وينطلق أصحاب هذه النظرة من معطىً لا جدال فيه، هو الهوّة التي تزداد اتساعاً بين الشعب والنخبة الحاكمة، فالأخيرة تتبنى خياراتٍ تختلف تماماً عن تطلعات الشعب، فقد أثبتت التجربة أن البرلمانات الأوروبية كثيراً ما تصوّت لأمور تعارضها شعوبها. وهذا ما يفسر تراجع الحكومات عن استفتاء الشعب والاكتفاء بالتصويت في البرلمان، لتمرير بعض المعاهدات والاتفاقات الأوروبية، خوفاً من أن يرفضها الناخبون. من هنا، يمكن القول إن النخب الحاكمة في الديمقراطيات الغربية ساهمت بشكل كبير في تشكيل هذه الظاهرة، من خلال إدارتها الفوقية الشأن العام وعدم الاكتراث برأي الأغلبية الشعبية، خصوصاً أن الثنائية القطبية الحزبية في دول كثيرة (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة...) جعلت الأحزاب الحاكمة مطمئنة البال، لأن التداول على السلطة بينها مضمون، قبل أن يتمكن اليمين المتطرف من إفساد هذه اللعبة التقليدية، لاسيما في فرنسا، بزحفه المتواصل نحو الحكم.
لذا، ليست الاحتجاجات الحالية في فرنسا محكومةً بقانون العمل، على الرغم من أنه شرارة إطلاقها، بل هي تعبّر عن نقمة على اللعبة السياسية التقليدية برمتها، وعن سعي إلى مراجعة التدابير الديمقراطية لإدارة الشأن العام، حتى تكون أكثر ديمقراطية: أقل عموديةً وأكثر أفقية. وهذا ما يميز هذه الاحتجاجات عن غيرها، فهي تسعى إلى إحلال نمط ديمقراطي جديد محل النمط السائد. وهي، بذلك، قوة مراجعة للوضع الراهن. كما أنها تنفرد عن الاحتجاجات
التقليدية، من حيث نمط عملها. فهي ليست مسيرات متقطعة، يشارك فيها أناسٌ لا يتبادلون أطراف الحديث ويكتفون بترديد الهتافات، وإنما غير متنقلة (مستقرة في ساحة رمزية) وتفاعلية. إذ تُنظم في المكان نفسه، وتخلق إطاراً للنقاش المجتمعي المدني حول قضايا مختلفة، لكنها مصيرية، مثل المشاركة في القرار السياسي، العدالة الاجتماعية، المساواة، الفساد، البيئة، التضامن وطنياً ودولياً... وفي وسع أي مشارك أن يسجل نفسه ليأخذ الكلمة، وليعبر عن رأيه في هذه المسائل. ويدل هذا كله على خلل في الديمقراطية بشكلها الحالي، لأنها عجزت على إيجاد مساحاتٍ لهؤلاء للتعبير عن آرائهم، وخصوصاً الأخذ بها، كما تدلّ على وعي سياسي كبير، بالنظر إلى طبيعة مواضيع النقاش المواطني بين المشاركين في هذه الاحتجاجات.
بهذا أوجد معتكفو الليل (المدنيون) في ساحة الجمهورية في باريس نمطا جديداً، عرفته، كما قلنا، عواصم أوروبية أخرى، في ممارسة الديمقراطية وحرية الرأي، بعيداً عن المؤسسات الرسمية والأجهزة الحزبية والنقابية. لذا، تنظر إليهم النخبة (السياسية والاقتصادية) النافذة بعين الريبة، وتتساءل عن توجهاتهم وأهدافهم، وخصوصاً مآل احتجاجاتهم. صحيح أن الطابع اليساري يغلب على المشاركين في هذه الاحتجاجات، لكن، ليس كل المشاركين فيها من اليسار.
ما يهم ليس التوجهات السياسية لهؤلاء، على الرغم من توظيف اليمين لها، وهو الذي يتهم اليسار الحاكم بالتساهل مع المحتجين، وعدم فض تجمع ساحة الجمهورية بالقوة وانزعاج الحكومة من المحتجين لطعنهم في سياساتها، وإنما تشكل هذه الظاهرة، بحد ذاتها، وتطوراتها المقبلة. وإذا كانت الطبقة السياسية في معظمها غير مرتاحة، بل بعضها منزعج، من حركة معتكفي الليل، فإن أغلبية الفرنسيين تتفهم موقف هؤلاء، بل وتدعمهم.
إذا كان سحب قانون العمل هو المطلب الفوري، فإن الشغل الشاغل لهؤلاء المحتجين أبعد من أن يُختزل في هذا القانون. فهم، كما قلنا، يريدون ديمقراطية جديدة، يكون فيها للمواطنين ثقل أكبر. بمعنى ليس فقط التعبير عن آرائهم، وإنما الأخذ بالأخيرة، أي أن يُسمع صوتهم. فعلى عكس المسيرات الاحتجاجية التقليدية، المؤقتة بطبيعتها، والتي تخص قضيةً واحدةً في أغلب الأحيان، فإن النمط الجديد من الحراك، غير متنقل وغير متقطع، يقوم على فلسفةٍ قوامها بناء الديمقراطية من أسفل، وفق تصور قد يراجع العملية الانتخابية كآلية ديمقراطية، على أساس أن الانتخابات لا تغير من شيء، خصوصاً في سياق ثنائية حزبية متجذّرة، ما يقتضي العمل بآلية المساءلة المتواصلة لشرعية الحكومات في اتخاذ بعض القرارات الأساسية.
وبما أن عاماً فقط يفصلنا عن الانتخابات الرئاسية في فرنسا، فإن القيادات الحزبية في حالة استنفار، تحسباً لما سيؤول إليه هذا الحراك المواطني في الأشهر القليلة المقبلة. فإذا كان من الواضح أنه لن يكون في صالح الرئيس الاشتراكي الحالي، فرانسوا هولاند، فإنه لا يمكن أيضاً لليمين الجمهوري استمالته، أما اليمين المتطرف فهو مرفوض لدى هؤلاء المحتجين. وبما أنه لم تتشكّل إلى الآن "قيادة" لمعتكفي الليل، على الرغم من بروز بعض الوجوه، فإن التساؤل يبقى مطروحاً: ما هي قدرة معتكفي الليل وآلياتهم للتأثير على الاستحقاق السياسي المقبل؟ وما هي قدرته و/أو رغبته في التحول إلى قوة سياسيةٍ لإسماع صوته في الانتخابات الرئاسية؟ هذا ما قد تجيبنا عنه الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.
ومن هذا المنظور، يمكن القول إن هذه الظاهرة التي تنتقل عدواها من عاصمةٍ أوروبية إلى أخرى، تضع الديمقراطية التقليدية على المحك، فهي تطعن في شرعية التدابير الديمقراطية (غير المباشرة) الحالية، ساعية إلى تغييرها بتدابير ديمقراطية جوارية مباشرة. وينطلق أصحاب هذه النظرة من معطىً لا جدال فيه، هو الهوّة التي تزداد اتساعاً بين الشعب والنخبة الحاكمة، فالأخيرة تتبنى خياراتٍ تختلف تماماً عن تطلعات الشعب، فقد أثبتت التجربة أن البرلمانات الأوروبية كثيراً ما تصوّت لأمور تعارضها شعوبها. وهذا ما يفسر تراجع الحكومات عن استفتاء الشعب والاكتفاء بالتصويت في البرلمان، لتمرير بعض المعاهدات والاتفاقات الأوروبية، خوفاً من أن يرفضها الناخبون. من هنا، يمكن القول إن النخب الحاكمة في الديمقراطيات الغربية ساهمت بشكل كبير في تشكيل هذه الظاهرة، من خلال إدارتها الفوقية الشأن العام وعدم الاكتراث برأي الأغلبية الشعبية، خصوصاً أن الثنائية القطبية الحزبية في دول كثيرة (فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة...) جعلت الأحزاب الحاكمة مطمئنة البال، لأن التداول على السلطة بينها مضمون، قبل أن يتمكن اليمين المتطرف من إفساد هذه اللعبة التقليدية، لاسيما في فرنسا، بزحفه المتواصل نحو الحكم.
لذا، ليست الاحتجاجات الحالية في فرنسا محكومةً بقانون العمل، على الرغم من أنه شرارة إطلاقها، بل هي تعبّر عن نقمة على اللعبة السياسية التقليدية برمتها، وعن سعي إلى مراجعة التدابير الديمقراطية لإدارة الشأن العام، حتى تكون أكثر ديمقراطية: أقل عموديةً وأكثر أفقية. وهذا ما يميز هذه الاحتجاجات عن غيرها، فهي تسعى إلى إحلال نمط ديمقراطي جديد محل النمط السائد. وهي، بذلك، قوة مراجعة للوضع الراهن. كما أنها تنفرد عن الاحتجاجات
بهذا أوجد معتكفو الليل (المدنيون) في ساحة الجمهورية في باريس نمطا جديداً، عرفته، كما قلنا، عواصم أوروبية أخرى، في ممارسة الديمقراطية وحرية الرأي، بعيداً عن المؤسسات الرسمية والأجهزة الحزبية والنقابية. لذا، تنظر إليهم النخبة (السياسية والاقتصادية) النافذة بعين الريبة، وتتساءل عن توجهاتهم وأهدافهم، وخصوصاً مآل احتجاجاتهم. صحيح أن الطابع اليساري يغلب على المشاركين في هذه الاحتجاجات، لكن، ليس كل المشاركين فيها من اليسار.
ما يهم ليس التوجهات السياسية لهؤلاء، على الرغم من توظيف اليمين لها، وهو الذي يتهم اليسار الحاكم بالتساهل مع المحتجين، وعدم فض تجمع ساحة الجمهورية بالقوة وانزعاج الحكومة من المحتجين لطعنهم في سياساتها، وإنما تشكل هذه الظاهرة، بحد ذاتها، وتطوراتها المقبلة. وإذا كانت الطبقة السياسية في معظمها غير مرتاحة، بل بعضها منزعج، من حركة معتكفي الليل، فإن أغلبية الفرنسيين تتفهم موقف هؤلاء، بل وتدعمهم.
إذا كان سحب قانون العمل هو المطلب الفوري، فإن الشغل الشاغل لهؤلاء المحتجين أبعد من أن يُختزل في هذا القانون. فهم، كما قلنا، يريدون ديمقراطية جديدة، يكون فيها للمواطنين ثقل أكبر. بمعنى ليس فقط التعبير عن آرائهم، وإنما الأخذ بالأخيرة، أي أن يُسمع صوتهم. فعلى عكس المسيرات الاحتجاجية التقليدية، المؤقتة بطبيعتها، والتي تخص قضيةً واحدةً في أغلب الأحيان، فإن النمط الجديد من الحراك، غير متنقل وغير متقطع، يقوم على فلسفةٍ قوامها بناء الديمقراطية من أسفل، وفق تصور قد يراجع العملية الانتخابية كآلية ديمقراطية، على أساس أن الانتخابات لا تغير من شيء، خصوصاً في سياق ثنائية حزبية متجذّرة، ما يقتضي العمل بآلية المساءلة المتواصلة لشرعية الحكومات في اتخاذ بعض القرارات الأساسية.
وبما أن عاماً فقط يفصلنا عن الانتخابات الرئاسية في فرنسا، فإن القيادات الحزبية في حالة استنفار، تحسباً لما سيؤول إليه هذا الحراك المواطني في الأشهر القليلة المقبلة. فإذا كان من الواضح أنه لن يكون في صالح الرئيس الاشتراكي الحالي، فرانسوا هولاند، فإنه لا يمكن أيضاً لليمين الجمهوري استمالته، أما اليمين المتطرف فهو مرفوض لدى هؤلاء المحتجين. وبما أنه لم تتشكّل إلى الآن "قيادة" لمعتكفي الليل، على الرغم من بروز بعض الوجوه، فإن التساؤل يبقى مطروحاً: ما هي قدرة معتكفي الليل وآلياتهم للتأثير على الاستحقاق السياسي المقبل؟ وما هي قدرته و/أو رغبته في التحول إلى قوة سياسيةٍ لإسماع صوته في الانتخابات الرئاسية؟ هذا ما قد تجيبنا عنه الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.